ثمة إجماع لدى جل فرقاء المشهد السياسي المغربي على الحساسية البالغة للانتخابات التشريعية الحالية، وعلى مستقبل عملية الانتقال الديمقراطي، واعتبارها مؤشرا على مرحلة فاصلة في التاريخ السياسي المعاصر للمغرب، وهو موقف يرتكز على ثلاثة عناصر مركزية، من جهة أولى، اختبار نجاعة جهود الإصلاح الانتخابي في تطهير العملية الانتخابية من الفساد والارتقاء أكثر بدور المواطن في القرار السياسي، ومن جهة ثانية، ثقل الرهانات الكبرى المطروحة على ما ستفرزه هذه الانتخابات من مؤسسات سياسية، وهي رهانات ترتبط برفع تحديات التنمية الاقتصادية ومعالجة الاختلالات الاجتماعية المتفاقمة، ومن جهة ثالثة، تطوير تجربة الإدماج السياسي للحركة الإسلامية بالمغرب وتعزيز ضمانات إنجاحها. تحديات ما بعد اقتراع 27 سبتمبر 2002 يمكن القول إن انطلاق الحملة الانتخابية كشف محدودية الإصلاحات الانتخابية التي تمت على الصعيد القانوني، وضعف قدرتها على ضمان نزاهة العملية الانتخابية حيث تجددت سلوكات الإفساد الانتخابي كما أن الرهان على جعل الحملة الانتخابية محطة لمقارعات برنامجية هو الآخر تراجع لصالح المزايدات الشخصية، باستثناء بعض مظاهر الحزم إزاء إقدام بعض المسؤولين على التدخل في توجيه إرادة الناخبين ودعم أحد المرشحين في مواجهة الباقين. لقد كان من نتائج عملية الإصلاح إقرار عدد من المراجعات تمثلت في تغيير نمط الاقتراع واعتماد اللائحة حسب التمثيل النسبي، واعتماد الورقة الفريدة في التصويت، وإقرار اللائحة الوطنية، والمراجعة الاستثنائية للوائح الانتخابية، والإعلان عن مشروع التقسيم الانتخابي، ثم الرفع من العقوبات الزاجرة للإفساد الانتخابي، وفي المقابل لم تبلغ عملية الإصلاح الانتخابي مداها المفترض بما يؤدي إلى إحداث قطيعة جذرية مع التجارب الانتخابية الماضية. وأبرز مؤشرات ذلك تتمثل في خمس قضايا هي: عدم إقرار المراجعة الشاملة للوائح الانتخابية، وتمييع نظام الاقتراع باللائحة عبر وضع لوائح من دائرتين أو ثلاث دوائر، وعدم إقرار العتبة الوطنية للوائح الانتخابية والتي كان من المفترض أن تكون في حدود 5% والاكتفاء فقط بنسبة 3% على المستوى الإقليمي مما سيحد من عقلنة المشهد الحزبي، وعدم البث في قانون الأحزاب في الوقت الذي تنامت فيه ظاهرة تفريخ الأحزاب مما يهدد ببلقنة الخريطة السياسية الانتخابية، وعدم تخفيض سن التصويت إلى 18 سنة مما يعني حرمان أزيد من مليوني ناخب من حق التصويت، ثم عدم اعتماد البطاقة الوطنية كوسيلة وحيدة لاثبات الهوية عند الاقتراع، وإذا أضفنا لذلك التأثير السلبي للانخراط المتأخر في إصلاح القوانين الانتخابية على عمق وقوة الإصلاحات المنتظرة، وإضعاف التفاعل المطلوب من القوى الحزبية مع هذه الاستعدادات وما تقتضيه من مراجعات وإجراءات حزبية (تنظيم عملية الترشيحات، التحالفات، إعداد البرامج، إعداد تصورات حول عناصر الإصلاح الانتخابي، التواصل الشعبي)، وهو ما ظهرت آثاره في الحملة الانتخابية الجارية حاليا. وهي ملاحظات تحيلنا على عدم توقع انتظار معجزة انتخابية في استحقاقات سبتمبر (ايلول) 2002 تنقل المغرب إلى عهد الديمقراطية الشفافة والنزيهة بل أقصى ما في الأمر هو حصول تقليص مقدر لدور الإفساد المالي في الانتخابات، والحد من تشتت الخريطة السياسية وإعطاء مصداقية أكبر للتمثيلية الحزبية، كما ستجدد طرح قضية استكمال الإصلاح الانتخابي والمضي في إدخال مراجعات جذرية عليه. بما سيجعل هذا الملف من الأجندة المستقبلية للحكومة المقبلة. وبنفس مستوى التحدي الانتخابي فإن تحدي التأهيل الشامل للمؤسسات السياسية الوطنية يمثل تحديا ضاغطا على مستقبل عملية الانتقال الديمقراطي بالمغرب، فالنقاش السياسي الدائر وخصوصا في تقويم وتحليل أسباب إخفاق حكومة التناوب التوافقي يحيل على وجود عدد من الإكراهات الدستورية والسياسية والحزبية التي تعوق توفر الإرادة السياسية لإنجاز الإصلاحات المطلوبة، كما تحد من مردودية المبادرات والمشاريع المتخذة، وهو ما يعني أن مغرب ما بعد 27 سبتمبر سيجد نفسه ملزما بفتح ملف الإصلاح الدستوري والسياسي وما يرتبط به من قضايا فصل السلط وتعزيز التوازن بينها، وتقوية دور مؤسسة الوزير الأول ورفع الأدوار التشريعية والرقابية للبرلمان مع العمل على مراجعة نظام الغرفتين باعتبار النتائج السلبية له على العملية التشريعية في السنوات الخمس الماضية من جهة، ولانتفاء الدواعي السياسية التي حكمت اعتماده في التسعينات من جهة أخرى. إلا أن نجاح مشروع التأهيل السياسي لا يرتبط فقط بإصلاحات دستورية وقانونية، بل يرتبط، وبنسبة أكبر بإصلاح المجال الحزبي وإقرار مقتضيات تشريعات تؤدي لتعزيز الديمقراطية الحزبية الداخلية، وضمان الشفافية المالية، وإعطاء مصداقية للمشاركة السياسية الحزبية. نحو إدماج سياسي أكبر للحركة الإسلامية تكتنف مشاركة الإسلاميين في الانتخابات الحالية عدة حسابات وإشكالات ترتبط بمسألة الاكتساح الانتخابي وتضخم الهاجس الإسلامي عند بعض الفاعلين في صناعة القرار السياسي بالبلاد وما تولد عن ذلك من خشية حصول مفاجأة تؤدي إلى انقلاب جذري في التوازنات السياسية، لا سيما أن النسق السياسي المغربي غير قادر على تحمل التبعات الخارجية لمثل هذا الأمر، ويمكن تركيز حيثيات هذه الحسابات في ثلاثة عناصر: أولا: هشاشة التوازنات السياسية الداخلية والتي عمقتها الحصيلة الضعيفة للتجربة الحكومية الحالية من حيث الفشل في تحقيق الإقلاع الاقتصادي المطلوب وتنفيذ الوعود المتعلقة بتخليق الحياة العامة والقضاء على الفساد المالي والإداري وتطبيق الشعارات المعلنة بخصوص حل الأزمة الاجتماعية، وفي المقابل فإن الانشقاقات التي عرفتها البنية الحزبية والتوالد المستمر لعدد من الأحزاب أدى لتعميق الأزمة الحزبية. ثانيا: تعارض مصالح لوبيات الامتيازات وبعض الدوائر الأمنية مع تحول الحركة الإسلامية إلى فاعل مركزي في الحياة السياسية. ثالثا: ضغط الجهات الخارجية على صانع القرار السياسي وذلك للحيلولة دون تكرار التجربة الجزائرية من حيث تحول الإسلاميين إلى القوة السياسية الأولى مما قد يهدد مصالح هذه الجهات والتي يقف على رأسها كل من فرنسا وإسبانيا، فضلا عن اللوبي الصهيوني المستقوي بالضغط الأميركي والذي يرى في الحركة الإسلامية عقبة أمام التطبيع والتعامل مع الكيان الصهيوني. وهذه الحسابات نجم عنها تبلور قناعة قوية عند حزب +العدالة والتنمية؛ للتحكم في حجم ومدى مشاركته السياسية وضبط نتائجه، وكان من آثار ذلك السعي لجعل مشاركة الحركة الإسلامية مشاركة محدودة لا تؤثر على التوازنات الاستراتيجية للخريطة السياسية، وبما يحول دون أن يتجاوز بقية الأطراف السياسية ويصبح بالتالي الطرف المؤهل لتحمل مسؤولية تدبير الشأن الحكومي، وهذا الاحتمال الذي طرحته بعض الدوائر العلمانية ارتكز على عدة حيثيات منها نظافة المسلكية السياسية للحزب، والتنامي الذي عرفته قوته التعبوية والشعبية والذي برز في مسيرة الدارالبيضاء، وضعف الحصيلة الحكومية والتي ترشح الحزب للاستفادة من التصويت العقابي على الحكومة لا سيما في ظل ضعف الأحزاب الأخرى، وعدم مشاركة باقي فصائل الحركة الإسلامية في الانتخابات المقبلة مما يؤدي إلى استفادة الحزب من أصوات تيار الصحوة الإسلامية بالبلاد. كما كان من آثارها رفض مبادرة حركة البديل الحضاري على تأسيس حزب سياسي وعدم الترخيص له، كما تم تشديد الرفض لأي محاولة لجماعة العدل والإحسان من أجل الحضور في الحياة السياسية والتأثير على مجرياتها، ثم ختم ذلك بتغدية حملة إعلامية لتشويه الحركة الإسلامية تم فيها تضخيم بعض الأحداث المعزولة والتي لا علاقة للحركة الإسلامية بها من أجل التخويف منها، كما انعكس هذا الرهان على مستوى التحضير للانتخابات من جهة، وأثر على عمق الإصلاح الانتخابي من جهة أخرى. وعلى خلاف تجارب حركية إسلامية في بعض الدول لم تتفاعل الحركة الإسلامية المغربية بتشنج مع هذه التوجهات والحسابات بل اعتبرتها معطى موضوعيا يجب الأخذ به في تدبير عملية المشاركة الانتخابية وعدم الانسياق وراء النزوعات الاستعراضية والشعبوية والعمل على الارتقاء المتدرج بهذه المشاركة، ذلك أن تجربة الخمس سنوات الماضية من العمل السياسي لحزب العدالة والتنمية ورديفه المدني حركة التوحيد والإصلاح وكذا الحسابات الموضوعية المؤطرة لاستحقاق سبتمبر 2002، تطرح تحديات وازنة على هذه التجربة نجملها في ثلاثة تحديات: - تطوير تجربة المشاركة الانتخابية لسنة 1997 وصيانة مكتسباتها وإيجابياتها. - ضمان وجود مؤثر وفاعل في القرار السياسي. - تأهيل الذات للارتقاء أكثر في العمل البرلماني والحكومي. وفي نفس السياق فإن مستقبل عملية الانتقال الديمقراطي بالمغرب رهين بالجرأة على فتح ملف التطبيع السياسي مع مختلف فصائل الحركة الإسلامية والرد بإيجابية سلوكها السلمي ونزوعها المتنامي نحو المشاركة السياسية، فلا يعقل أن يقع التعامل بإيجابية مع عدد من التوجهات الراديكالية في الحركة الأمازيغية واليسارية والقبول بعدد من مطالبها وتبقي الحركة الإسلامية خارج دائرة التعاطي الإيجابي، وهي التي تشكل عنصر استقرار وتوزان وصمام أمان للبلاد، وفي المقابل نعتقد أن باقي فصائل الحركة الإسلامية مدعوة هي الأخرى لتجديد أشكال تعاطيها مع الراهن السياسي واستيعاب متغيراته بما يحقق فعالية أكبر في توجيه مساره. لقد كانت حصيلة الولاية التشريعية السابقة بالنسبة لحزب العدالة والتنمية في عمومها إيجابية حققت بدرجة معتبرة التوجهات العامة التي اشتغل في إطارها الفريق النيابي له، وكان عطاؤه مقدرا في خدمة قضايا الوطن والأمة، وفي الدفاع عن الهوية الإسلامية للمغرب وطرح قضايا الحركة الإسلامية بالمغرب إجمالا، وتطوير فعالية المشاركة السياسية لها تحديدا، كما كان من ثمراتها تأسيس قواعد في العمل النيابي واكتساب خبرة معتبرة في التدافع البرلماني والعمل التشريعي والرقابة على التدبير الحكومي للشأن العام، والإنضاج التدريجي للتصورات والأدبيات المؤطرة له، والتكيف المرن مع الإكراهات والصعوبات التي برزت وأحاطت بهذه التجربة، وإن صيانة هذه المكتسبات وتطويرها واستكمال بنائها يمثل أحد التحديات المطروحة على المشاركة السياسية للحزب في المرحلة المقبلة، إن على المستوى المؤسساتي أو التصوري أو التواصلي أو التأهيلي، هذا فضلا عن التحديات المرتبطة بالاستعداد لممارسة العمل الحكومي وما يرتبط به من تعقيدات التحالفات وإكراهات التوافقات، بمعنى أن الحركة الإسلامية بالمغرب مقبلة على مرحلة جديدة، وبشكل جذري من عطائها السياسي، تقتضي منها إحداث مراجعات تصورية وبرنامجية وهيكلية حتى تكون في مستوى تطلعات وانتظارات الشعب المغربي. أبرزت العشرة أيام الأولى من الحملة الانتخابية مدى التعاطف الجماهيري والإقبال الشعبي الذي يعرفه حزب العدالة والتنمية وعمق الارتباط به، ليس باعتباره يقدم وصفة سحرية لمشاكل المغرب الاقتصادية والاجتماعية، بل لاعتبار أساسي يتمثل في كونه الأمل لعموم المغاربة بما يمثله من نظافة في الخط السياسي والتزام بهوية المغاربة وعقيدتهم، وهو ما شكل مفاجأة حتى لقادة هذا الحزب ومسيريه، بما يطرح أيضا مسؤولية التفاعل الإيجابي مع هذا الإقبال الجماهيري وتأطيره لمصلحة مشروع الإصلاح الاجتماعي والسياسي للبلاد. إن مستقبل مغرب ما بعد 27 سبتمبر سيحدده بدرجة معتبرة مدى القدرة على فتح هذه الملفات الثلاثة، مواصلة الإصلاح الانتخابي، ومباشرة مشروع الإصلاح الدستوري والتأهيل السياسي، ثم التقدم أكثر نحو رفع درجة الإدماج السياسي للحركة الإسلامية، وهي ملفات ثلاثة سيحدد مستوى التعاطي معها مدى القدرة على محاصرة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية. بقلم: مصطفى الخلفي