سؤال مشروع تطرحه فئة عريضة من المواطنين أمثالي الذين لا يفقهون كثيرا في سياسة هذا الزّمان. لأنّهم - وأنا معهم - يعلّقون أمالا عريضة على هذه التّجربة بالرّغم من تذمّرهم وفقدهم الثّقة في السّياسة وفي لعبة السّياسة من جرّاء الخيبة الكبيرة التي جنوها في الماضي من كلّ المسرحيات السّابقة التي كتب سيناريوهاتها أوصياء متسلّطون ولعب أدوارها "فنّانون" مزِورون وصنع ديكوراتها "سحرة" مقتدرون. فلنطلق لأنفسنا العنان تحلم قليلا مع هؤلاء السّذّج أمثالي، لنرى ماذا عساه يحدث لو مرّت الانتخابات في نزاهة وشفافية حقّا. النّزاهة والشّفافية دعونا أوّلا نسائل هذه الألفاظ عن مضامينها ومعانيها "في الحقيقة" لنعرف ما إذا كانت هي المقصودة فعلا في شعاراتنا، أم أنّ لها معان "في المجاز" تليق أكثر بمقام سياسة أهل هذا الزّمان. جاء في لسان العرب ( ... النّزه والنّزاهة ونزّه نفسه عن القبيح: نحّاها. ونزّه الرّجلَ: باعده عن القبيح. والنّزاهة: البعد عن السّوء. وإنّ فلانا لنزيه كريم إذا كان بعيدا من اللّؤم، وهو نزيه الخُلق. وفلان يتنزّه عن ملائم الأخلاق أي يترفّع عمّا يُذمّ منها). وجاء فيه أيضا: ( الشَف والشِف الثّوب الرّقيق،ّ وقيل: السّتر الرّقيق يُرى ما وراءه.... واستشفّ: ظهر ما وراءه) وهي معان عظيمة جدّا لو كانت حملاتنا الانتخابية تتمثّلها بالفعل. ولكنّ الظّاهر من واقع التّجارب الماضية التي كانت هي أيضا ترفع هذه الشّعارات نفسها وغيرها من الشّعارات البرّاقة أنّ هذه الألفاظ فقدت مصداقيتها وفقدت معانيها. فأي نزاهة في انتخابات ترتفع خلالها نسبة إنتاج واستهلاك الخمور والبغاء، وتتضخّم فيها الرّشاوى، وتنتهك فيها القوانين من صنّاع القوانين أنفسهم، وتباع فيها الذّمم وتُشترى بأرخص ثمن، وأي شفافية في انتخابات يصرخ فيها التّزوير والتّدخّل السّافر لبعض المستبدّين من أصحاب السّلطة لصالح أسيادهم الذين يملكون زمام رقابهم بما يكرمونهم به من فتات موائدهم وما يركبونه من سيّاراتهم وما يستهلكونه من وقودهم وما ينعمون به عليهم من لحظات متعة واستجمام في إقاماتهم الشّاطئية الرّفيعة؟ ولكن دعنا من هذا كلّه، ولنعش لحظات أمل وتأمّل فيما لو مرّت هذه الانتخابات في نزاهة وشفافية. تجديد الثقة في المشاركة السّياسية نعم، لقد كفر عموم المواطنين - باستثناء المحترفين المستفيدين - بالعمل السّياسي وفقدوا ثقتهم في الأحزاب السّياسية، وفي المشاركة السّياسة وفي التّغيير السّياسي. ولهم عذرهم في ذلك. فقد شاركوا وجرّبوا وحاولوا عدّة مرّات، المرّة تلوى الأخرى، وهم يرجون أن تكون كلّ مرّة أحسن من التي سبقتها، ولمّا تبيّن لهم أن مشاركتهم "زايدة ناقصة" على حدّ تعبيرهم، وأنّ النّتائج موضوعة وأنّ المقاعد والحقائب توزّع وضعا كما توضع البيادق فوق لوحة الشّطرنج، يئسوا من المشاركة وسئموا اللّعبة لأنّها لا تأتيهم في كلّ مرّة إلاّ بالخسارة. ولو كانت هذه اللّعبة مرّة تأتيهم بالرّبح ومرّة بالخسارة كما هو الشّأن للمحترفين لصبروا عليها ولكنّها خسارة تتلوها خسارة والحال في تدهور متزايد، ارتفاع لا حدّ له في تكاليف المعيشة (أسعار ماء كهرباء ضرائب تكاليف معيشية مدرسية وصحّية و...) وانسداد لآفاق التّنمية فلا توظيف ولا تشغيل ولا جامعات ومعاهد عليا إلاّ بمعدّلات خيالية ... وكلّ هذا تعاقبت عليه الحكومات وتناوبت عليه الأحزاب وتغيّرت فيه البرامج والحملات لكنّه واقع واحد لم يتغيّر أو لم يكد يتغيّر منه شيء اللهمّ إلاّ ما كان منه في زيادة. وليس الغرض من هذا الوصف القاتم هو نشر المزيد من الإحباط واليأس، ولكنّه رسالة إلى كلّ الفاعلين في المسرحية الانتخابية (مخرجين وممثّلين ومهندسي ديكور ...) لينتبهوا إلى الأمل الذي يمكن أن تزرعه انتخابات نزيهة وشفّافة في قلوب النّاس حين يرون أصواتهم لم تضع عبثا ومجهوداتهم لم تذهب سُدا، حين يرون قبّة البرلمان تظلّ الطّاقات الواعدة الشّابّة المخلصة الملتزمة التي أهّلتها كفاءاتها المتخصّصة وقدراتها المتميّزة وقوّتها وأمانتها (إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ). فرز طبيعي للأحزاب الحقيقية بغضّ النّظر عن أطروحة الأحزاب "الوطنية" وأحزاب "الإدارة" إذ اختلط اليوم على النّاس الحابل بالنّابل فلم يعودوا يميّزون "الوطّني" من "الإدراي"، بالضّبط كما اختلطت عليهم أحزاب الأغلبية بأحزاب المعارضة. آن الأوان للحديث بصراحة عن الأحزاب الحقيقية والأحزاب الوهمية. فقد بات من المؤكّد أن الانتخابات النّزيهة الشّفافة هي الأمل الوحيد للخروج بالحياة السّياسية من هذا الواقع المتمزّق المتشرذم الذي تعرفه بلادنا من جرّاء هذه الأحزاب التي تبيض وتُفرّخ قبيل كلّ استحقاقات بلافتات وتسميات ملفّقة ومرقّعة وهي مجرّدة من أدنى سند شعبي أو مرجعية تاريخية. والكلّ يُجمع على أنّ هذه التّعدّدية الحزبية اللاّمعقولة واللاّمحدودة هي سبب هذه الصّورة المتخلّفة للدّيمقراطية في بلادنا، لأنّها أكبر العوامل التي تعوق تقدّم حياتنا السّياسية نحو الازدهار والاستقرار المنشود. والنّزاهة والشّفافية هي الكفيلة بردّ الأمور إلى نصابها وإظهار الأحزاب في أحجامها الحقيقية، فلا تصمد إلاّ الأحزاب الحقيقية التي تستمدّ مصداقيتها من سندها الشّعبي وامتدادها الجغرافي ومن مرجعيتها الأصيلة المجمع عليها التي لا يستغربها المغاربة. والقاعدة الكونية "البقاء للأصلح" من شأنها بالفعل - إذا ما توفّرت النّزاهة والشّفافية - أن تفرز بشكل طبيعي بضع تشكّلات سياسية بإمكانها أن تقود الحياة السّياسية في البلاد بما يلزم من المصداقية والثّقة والجرأة في جوّ من المنافسة الشّريفة بعيدا عن محاولات التّهميش والإقصاء إذ لكلّ حزب قاعدته الشّعبية الحقيقية التي يستمدّ منها مقوّمات وجوده وبقائه والتي يمثّلها ويدافع عن مبادئها. عندئذ يكون التّنافس الحقيقي حول التأطير الفعلي للمواطنين وحول القدرة على تحقيق المصلحة العامّة وعلى الإصلاح وليس حول طرق الاحتيال والتّغرير والإيقاع بالنّاس لنيل أصواتهم بأرخص ثمن وتوديعهم بعد ذلك إلى استحقاقات قادمة. الأمل والمحاذير لاشكّ أنّ هذه التّجربة التي تخوضها بلادنا في هذه المرحلة تتميّز عن سابقاتها - على الأقل في الظّاهر - بعدّة مميّزات. وهذا من شأنه أن يبعث الأمل في القلوب، لكنّه في الوقت ذاته أمل مشوب بعدة تخوّفات ومحاذير. فالأمل نابع من كون هذه الاستحقاقات: - هي الأولى من نوعها في العهد الجديد: عهد الملك محمّد السّادس؛ الملك الشّابّ الذي يتطلّع ككلّ شباب هذا الوطن إلى أن تتبوّأ بلاده المكان اللاّئق بها بين الأمم. ذلك المكان الذي يليق بمغرب مسلم مجاهد صامد حباه الله تعالى بكلّ مقوّمات العزّة والكرامة والرّفاهية ليصدق عليه قول الحقّ سبحانه : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ). - وهي الاستحقاقات الأولى من نوعها التي سيعبّر فيها المواطنون عن اختياراتهم من خلال ورقة فريدة تسدّ الباب أمام نسبة كبيرة من التّلاعبات والشّبهات التي تنتاب التّصويت بالأوراق المتعدّدة. - وهي الأولى التي يتمّ فيها التّعبير عن اختيارات حزبية وليس اختيارات أشخاص بعينهم بإمكانهم التّنقّل من حزب لأخر شأنهم في ذلك شأن نجوم كرة القدم. - وهي الأولى التي يجري التّباري فيها على مستوى الأقاليم عوض التّقطيعات الضّيقة السّابقة التي كانت تُفصّل على مقاس البرلمانيين المرضي عنهم، والتي كانت تفسح المجال أمام التّلاعب بذمم النّاس بما يسيل فيها من المال الحرام. - وهي الثّانية التي يفسح فيها المجال لمشاركة فئة أصيلة من أبناء هذا البلد أخذوا على عاتقهم ردّ الأمور إلى نصابها بعدما كادت رياح العلمنة والعولمة تعصف بمقوّمات الهوية المغربية، فأعادوا للتّوجّه الإسلامي اعتباره، ليس على مستوى الشّعار فقط - إذ أصبح هذا ادّعاء مشترك - ولكن على مستوى الطّرح الشّمولي الحقيقي لتأسيس الحياة العامّة والشّأن العامّ على مبادئ وقيم الدّين الحنيف الذي لم يختلف حوله المغاربة في يوم من الأيّام. كلّ ذلك في عمل رزين وفعّال سِمته الاعتدال والوسطية ونبذ العنف والتّطرّف. أمّا المحاذير فيمكن- على قدر هذه الآمال - صياغتها في الأسئلة التّالية. - إلى أي حدّ ستجسّد هذه الانتخابات طموحات العهد الجديد وآمال الملك الجديد؟ وهو تساؤل مشروع؛ إذ سبق في الاستحقاقات الأخيرة أن تعهّد الملك الرّاحل - رحمة الله عليه- بأن يحرص بكامل ثقله على ضمان انتخابات نزيهة وشفّافة، لكنّها رغم ذلك لم تسلم من أيدي المتلاعبين من ذوي الإرادات الخائنة المبيّتة ومن تلاعبات ذوي الضّمائر الميّتة. - إلى أي حدّ يمكن ضمان عدم تسرّب الورقة الفريدة؟ وما هي الآليات الإحصائية التي أعدّت لضبط عدّها قبل توزيعها وبعد انتهاء العملية الانتخابية. وغير خاف أنّه يكفي تسريب نسخة واحدة منها لتصبح عُملة ثمينة تُدخل معبّأة إلى صندوق الاقتراع وتُخرج عوضا عنها أخرى فارغة تتمّ تعبئتها بدورها وهكذا... . وقد بدأ - وللأسف الشّديد - التّفكير في طرق التّزوير منذ قرار الاقتراع باللاّئحة الفريدة. - إلى أي حدّ سيتمّ احترام فكرة التّصويت على الأحزاب عوض الأشخاص؟ وبالتّالي ما هي الإجراءات والتّدابير الحقيقية - التي تتجاوز مشاريع القوانين - المتّخذة لمنع التّحوّلات من أحزاب إلى أخرى؟ إذ أصبحت الأصوات تُعطى للحزب وليس للشّخص والمقاعد يُحرزها الحزب وليس الفرد. وماذا قدّمنا لإشاعة ثقافة التصويت على الحزب وبرنامجه عوض الإشخاص ووعودهم المغرية. - إلى أي مدى سيساهم التّقطيع الانتخابي الحالي في الحدّ من ظاهرة شراء الذّمم والأصوات؟ - ما هي حدود مشاركة الحركة الإسلامية والآمال المعلّقة عليها في هذه الاستحقاقات؟ وما حقيقة الانشغال الدّولي والجهوي والإقليمي بهذه المشاركة النّوعية وهل ستتاح لها الفرصة لبلورة مشروعها الإصلاحي بالشّكل المطلوب؟ وفي الختام فإنّ كلّ هذه المحاذير والتّخوّفات المشروعة لا يجب أن تثني العزائم القوية والإرادات الصّادقة والنّيات الحسنة على مواصلة إذكاء روح التّفاؤل والتّطلّع إلى جعل حلم النّزاهة والشّفافية حقيقة تتبلور على أرض الواقع في مغربنا الحبيب حتّى ينعم بما هو أهل له من ريادة وسيادة. والله الموفّق والهادي إلى صراطه المستقيم. هوامش 1 لسان العرب؛ مادّة: نزه؛ رقم 8794؛ المجلّد 13؛ الصّفحة 548. 2 لسان العرب؛ مادّة شفف؛ رقم 5719؛ المجلّد 9؛ الصّفحة 179. 3 سورة القصص؛ الآية 26. 4 سورة آل عمران؛ الآية 110. بقلم : ذ. أ و س ر مّا ل