بعض الانتقادات التي توجه للسيد الباجي قائد السبسي وجيهة. ومن الطبيعي أن ينتقده معارضوه وأن يتتبعوا نقائصه، بل وأن يتسقطوا أخطاءه. ولكن هنالك انتقادا لا وجاهة له رغم أنه شائع. إنه ذلك المتعلق بمسألة العمر. إذ إن من يثير هذه النقطة يتجاهل أن اللافت في شخصية الرئيس التونسي الجديد ليس أنه متقدم في السن، بل اللافت أنه لا يزال شابا رغم تقدم السن! ولأن معنى بهذا العمق لا يمكن أن يغيب عن إدراك الرئيس أوباما، فقد اغتنم فرصة قمة كبريات الدول الصناعية الذي عقد في دوفيل بفرنسا منتصف 2011، والذي دعيت إليه تونس تشريفا لها بعد أشهر من اندلاع ثورتها الشعبية، ليقوم بنزهة قصيرة مع رئيس الحكومة المؤقت آنذاك السيد قائد السبسي ويسأله بكل ود: «هلا أخبرتني، سيدي الوزير الأول، ما هو سر بقائك شابا؟». سؤال سياسي بامتياز! ذلك أن الحفاظ على الشباب الدائم، القافز على حواجز الأيام والأعوام، خصلة نادرة لا تتأتى إلا للقلائل! فقد اعتاد الناس اعتبار تقدم السن مرادفا للوهن وحتى للخرف، كما أن تدهور الأخلاق الاجتماعية، خصوصا في سياق الاستقطاب السياسي السائد حاليا، أصبح يسوغ لبعضهم اعتبار تقدم السن عيبا ومذمة! غير أن الواقع الذي لا مراء فيه أن السيد قائد السبسي أشبّ، من حيث توقد الذهن وحضور البديهة، من كثير ممن يعدّون شبابا بحساب السنين. ديمومة الشباب خصلة نادرة إذا لم تستدع الإعجاب، فإنها تفرض، على الأقل، الاحترام. والدليل أن من الصعب أن تجد في تونس اليوم مراقبا للشأن الوطني أحصف رأيا وأنبل موقفا من الشيخ الجليل مصطفى الفيلالي، مع أنه تجاوز الثالثة والتسعين من العمر. كما أن من الصعب أن تجد في الصحافة العالمية اليوم معلقا أعمق فكرا وأرشق أسلوبا من الكاتب الفرنسي جان دانيال، مع أنه تجاوز الرابعة والتسعين! ثم إن التفرقة على أساس العمر، التي تعرف في بلدان اللغة الانكليزية بالageism، والتي تحرم الأفراد من الحق في ممارسة بعض الأعمال أو الوظائف أو في بلوغ بعض المناصب لسبب وحيد هو تقدمهم في العمر هي من كبريات المظالم المعاصرة التي أخذ النضال الحقوقي المدني يتصدى لها في المجتمعات الغربية. ذلك أنه قد يظن عندنا، في البلاد العربية والإسلامية، أن المظلمة الوحيدة التي لا تزال مستمرة حتى الآن في الممارسات الاجتماعية داخل الديمقراطيات الغربية هي مظلمة العنصرية (بمتفرعاتها المتنوعة، وخصوصا الإسلاموفوبيا). إلا أن الواقع أعقد. ذلك أن النضال الحقوقي المدني في المجتمعات الغربية يخوض الآن معارك ضد مظالم أخرى لمّا تنته. وأول هذه المظالم ما يعرف بالsexism، أي التفرقة على أساس الجنس. وهي أساسا تفرقة ضد المرأة في مجال العمل، حيث لا تزال هنالك اعتبارات ثقافية أو مؤسسية تعطي الأفضلية للرجال في مجال التوظيف. ولعل أشهر أسباب هذه التفرقة الجنسية أن المنطق الاقتصادي السائد يعتبر أن في توظيف المرأة قدرا من المجازفة بسبب احتمالات الحمل والوضع والإجازات المدفوعة الأجر. أما المظهر الثاني لهذه التفرقة الجنسية، فهو أن عدد النساء اللائي يبلغن أرقى المناصب في مختلف المؤسسات الاقتصادية لا يزال محدودا. ولا يقتصر الأمر على كبريات الشركات في مجالات الصناعة والمال والأعمال. بل إنه يشمل المؤسسات الثقافية والإعلامية. مثال ذلك أن السؤال المطروح في الوسط الإعلامي في بريطانيا حاليا بعد استقالة رئيس تحرير الغارديان آلن رسبريدجر هو إن كانت الجريدة ستسند المنصب، لأول مرة في تاريخها، إلى امرأة. وبما أن الأمر يتعلق بعراقيل ثقافية واجتماعية، وليس بقوانين ونصوص، فإن الصورة الشائعة التي تستخدم للإشارة إلى هذه المظلمة هي «سقف الزجاج» الذي لا تستطيع المرأة اختراقه أيا كان علو كعبها ورفعة قامتها ومقامها في مجال اختصاصها المهني. المظلمة الثانية هي التفرقة على أساس العمر. وقد بينت مختلف الدراسات أن هذه التفرقة ليست منافية للحقوق الإنسانية فحسب، بل إنها منافية أيضا للمنطق الاقتصادي، حيث أن متوسط الأعمار قد ارتفع عالميا ليتجاوز 71 عاما. أما في بلد أوروبي مثل فرنسا، فهو يتراوح بين 78 عاما للرجال و85 عاما للنساء. وكثير من هؤلاء المسنين أصحاء نشطون منتجون. أما التفرقة على أساس العمر في حالة الرئيس التونسي الجديد، فإنها ليست منافية لمكارم الأخلاق التي تقتضي الترفع على الصغائر فحسب، بل إنها منافية أيضا للمنطق السياسي الذي يقتضي عدم الاعتداد إلا بالجوهر: البرامج والنتائج.