(1) كنت قد خططت في مقال اليوم لتناول مأزق أهل فلسطين مع سلطتهم، خاصة بعد المصيبة في الفقيد زياد أبوعين الذي سقط دفاعاً عما بقي من فلسطين، والقيادة الفلسطينية تتفرج، وقد أسلمته كما أسلمت البرغوثي من قبل وعرفات. باختصار أردنا التذكير بأن ما يسمى بالسلطة الوطنية الفلسطينية ليست بالقطع سلطة، وليست فلسطينية (أترك الخوض في وطنيتها لغيري)، وهي أداة من أدوات الاحتلال. ولن تتحرر فلسطين ما لم يتم التحرر من هذه «السلطة». وأضيف أن حماس أصبحت جزءاً من هذه التركيبة. (2) إلا أن كوارث هذه الأمة لا تتوقف أو تقف للأسف عند فلسطين. فلم أكد أفرغ من مقال هذا الأسبوع حول الإرهاب حتى وقعت كارثة هجوم سيدني من قبل مأفون يحتجز الأبرياء، ويرفع علم «لا إله إلا الله» فيروج للعالمين أن الشهادة هي عنوان الفسق والفجور والعصيان. ولم نكد نفيق من هذه الصدمة حتى جاء هجوم طالبان باكستان على مدرسة بشاور، وما تبعه من قتل وحشي للأطفال. ومرة أخرى رفعت راية الإسلام فوق هذا الغدر، للإيحاء بأن الله – سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً- يأمر بمثل هذا الفجور ويرضى عنه! (3) لم يعد يكفي مع تواتر مثل هذه الأحداث أن نقول إن الإسلام بريء من أفعال أمثال هؤلاء. فلن يقنع هذا العالم وهو يرى في كل حين راية «لا إله إلا الله» ترفع من مجرم بعد آخر. فيكفي أن نتابع الأخبار خلال أسبوع واحد لنسمع عن كبائر يرتكبها «أنصار الله»، و»حزب الله»، و»الدولة الإسلامية»، و»أنصار الشريعة»، إلخ. وما يجمع بين هؤلاء هو ارتكاب العظائم والتمسح برموز الإسلام. فلماذا يختص الإسلام دون غيره بهذا الكم من محترفي القبح، وفي وقت واحد تقريباً؟ (4) الإجابة الحاضرة عند الكثيرين هي أن الإعلام يركز أخطاء المسلمين المظلومين ويغفل خطايا غيرهم. فإذا كانت داعش والقاعدة تمارسان ذبح الأفراد، فإن خصومهما يقتلون الآلاف، بل عشرات الآلاف، بالقصف والتجويع والتعذيب. وإذا كان الطالبان يقتلون الأطفال، فإن الطائرات بطيار وبدونه تفني أسرهم كل يوم. أما عن إسرائيل وضحاياها الفلسطينيين، فحدث ولا حرج. فلا يوجد تناسب بين ما تفعله الأطراف الإسلامية، من موقع الدفاع وعلى أرضها، وما يجترحه خصومها. (5) هناك ما يدعو للتأمل في هذه المزاعم. فإذا كان ذبح شخص أمام الكاميرا، حتى لو لم يكن بريئاً، عملاً بربرياً بامتياز، فإن هذا لا ينقص شيئاً من أن قصف مبنى بالقنابل أو الصواريخ من على بعد آلاف الأميال، وتدميره وقتل كل من فيه، لا يقل وحشية وبربرية. ولكن الفرق أن من يقصف من بعيد يهدف إلى القتل، بينما من يذبح أمام الكاميرا يهدف إلى إرعاب الآخرين بمشهد القتل، وهما أمران مختلفان تماماً. (6) الدولة الحديثة، كما أفاض في ذلك ميشيل فوكو، برعت في إخفاء العنف. حالياً، لا يتم إعدام المجرمين وبقر بطونهم وتقطيع أوصالهم علناً، كما كان يحدث في العصور الوسطى، وإنما يتم حبسهم خلف جدران عالية، أو قتلهم بالحقن بعيداً عن الأعين. فالمجتمع الحديث لم يعد يطيق مثل هذه الوحشية العلنية المقصود منها إرهاب الناس وبث الرعب في قلوبهم. ولكن الأساليب الحديثة، بما فيها قتل الآلاف بالقنابل من بعد أو الغاز، أو التهديد بالتدمير الشامل عبر السلاح النووي وغيره، هي أكثر فعالية من سابقاتها. (7) من هذا المنطلق، فإن الاحتجاج بأن بربرية «المسلمين» أقل وإن كانت تبدو أفظع، هو عذر أقبح من الذنب. ذلك أن إحدى أهم أدوات النظام الحديث هي إظهار بربرية من يعارضه، حتى لو كان صاحب حق. في أفلام هوليوود الهنود الحمر هم دائماً البرابرة لأنهم يستخدمون السهام والخناجر. ولهذا أبيد الهنود الحمر وملك البيض أرضهم. المسلمون كذلك يخدمون المستعمر ينفذون خطة العدو في إخضاعهم وإبادتهم عندما يتصرفون كبرابرة. فطعن إسرائيلي واحد بسكين أو تفجير بضعة أشخاص عبر حزام ناسف، قد يشفي غليل البعض، ولكنه يضع البقية في قائمة الانتظار للإبادة دون أن يعترض أحد. (8) ولكن المسألة أبعد من ذلك. فحتى لو كانت مثل هذه الأفعال البربرية فعالة وتؤدي الغرض فإن هذا لا يقلل من طبيعتها الإجرامية. ومن وجهة نظر المؤمن فإن النتيجة لا تهم، وإنما صواب الفعل. ذلك أن الإساءة إلى الإسلام بشائن الأفعال جناية لا يمكن أن تكفر عنها أي نتائج، مهما كانت مرغوبة. (9) من هذا المنطلق، فإن «إسلام» هؤلاء فعلاً هو المشكلة، لأنه ينطبق عليهم قوله تعالى: «قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين». ولا بد أن نذكر هنا أن شطراً كبيراً من آيات القرآن مخصصة لتقريع ورثة الكتاب من أتباع الديانات الإبراهيمية، بعد أن تحولوا من حملة رسالة إلى «طوائف» تدافع عن مصالحها، حتى على حساب الرسالة. وما نخشاه هو أن يكون «الإسلام» قد لحق بتلك الأديان، بحيث أصبح من يدعون اتباعه يضعون المصالح الضيقة لجماعات صغيرة فوق أوامر الله، فيرتكبون الكبائر دفاعاً عن فصيل «جهادي» معين، ويعبدون الطائفة والتنظيم من دون الله، ويتخذون أحبارهم ورهبانهم وقادة تنظيماتهم أرباباً من دون الله. وما لم يتحرك المسلمون الحقيقيون – إنْ وجدوا- لاستنقاذ دينهم، فقد يوشك الله تعالى- وعنده وحده مفاتح الغيب- أن يستبدل قوماً غيرهم ثم لا يكونون أمثالهم