بداية العمليات المسلحة: ضيعات المعمرين تشتعل بالقنابل، وأولى الاعتقالات تنطلق يروي لنا المقاوم الحاج التهامي العمراني الزريفي في هذه الحلقات بعضا من ذكرياته حول أحداث المقاومة بفاس وتاونات ونواحيهما، وهي حلقات فضل أن يعنونها:»رسالة إلى الشباب المغربي»، رسالة مفادها، حسب الحاج التهامي، أن «المقاومة لا تنتهي ولن تنتهي، لأننا نقاوم الظلم والفساد والإفساد والشرك والإلحاد والملحدين، ونقاوم انتشار الخمر والحانات، ونقاوم العهارة، ونقاوم تزوير الانتخابات والإرادات والحقائق، ونقاوم التدليس على الشعب المغربي بكل ما في هذه الكلمة من معنى». في الحلقة الماضية من هذه الذكريات، تحدث المقاوم الحاج التهامي العمراني الزريفي عن التحاقه بجامعة القرويين، وعن البدايات الأولى لتفكيره في حمل السلاح، وكذا عن اتصالاته الأولى بالمجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، والرسائل التي تلقاها منه عندما كان مقيما في مصر. وفي حلقة اليوم نواصل مع مقاومنا تتبع ذكرياته، حيث سيحدثنا انطلاق العمل المسلح في الخلية التي أنشأها هو وبعض رفاقه في الدراسة، حيث بدأوا بتفجير ضيعات المعمرين، مما تسبب في اعتقال بعض أفراد الخلية. ابتدأت الخمسينات، وبدأ معها الفرنسيون حملة اعتقالات واسعة، وبدأوا أيضا يفكرون في خلع محمد الخامس، واستمرت الحركة الوطنية في المقاومة، حتى وصل تاريخ 20 غشت 1953، وكنت آنذاك في السنة الرابعة الثانوية بجامعة القرويين، وبدأت فكرة المقاومة تترسخ جيدا في ذهني، وفكرت في إنشاء خلية للمقاومة، وكان سبب هذا التفكير بالدرجة الأولى هو رسائل الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، وكذا نصائح الشهيد عبد الواحد العراقي، وكذلك كل العلماء الذين درسنا عليهم في القرويين، إذ كانوا يشحنوننا في دروسهم، وإن كانت السلطات الفرنسية لها عيون بجامعة القرويين، ولكن كان هناك علماء لا يخشون أحدا. لما فكرت في إنشاء خلية، فكرت في رفاقي في الدراسة الذين يعيشون معي، ومنهم علي الميداوي (أخ المستشار الحالي ووزير الداخلية السابق أحمد الميداوي)، وكذلك بوشتى الميداوي الذي لم يكن يدرس معنا، ولكنه كان يزورنا في سكنانا باستمرار. بعد إنشاء هذه الخلية، اتفقنا على أن يعمل كل واحد منا في منطقته بجميع الوسائل (مناشير مناقشات ثنائية مناقشات جماعية...) وباختصار بكل ما يقدر عليه، كقطع الأسلاك الهاتفية وإحراق متاجر التبغ (كانت متاجر التبغ يفتحها الفرنسيون فقط) وإحراق المحاصيل الزراعية للمعمرين وغيرها. وكان لي صديق يدعى أحمد السعودي، وكان له خط جميل، وكانت له خطوط تتعدى العشرين نوعا، وكان هو الذي يكتب لنا المناشير. وكانت هذه المناشير أول ما بدأنا به داخل وخارج فاس، نوزعها، وكنت أيضا ألصقها على سواري جامعة القرويين بعد صلاة العشاء، وأول منشور علقناه في جامعة القرويين أعطى أكله، إذ بدأ الحديث عن المقاومة وبدأت التجمعات وبدأت الأفكار، وذلك زاد من نشاطنا، وكذلك في البادية كنا نوزع المناشير في الأسواق، وكنا نعبئ فيها ضد الحماية الفرنسية وضد السجائر والتبغ. ومن مستملحات هذه المناشير في تيسة، أن أحد الأشخاص الذين التحقوا بنا في المقاومة، وهو المرحوم محمد بلاش، ذهب هو وصديق له في رحلة حصاد، وتركه ليلة نائما، وذهب هو لتوزيع المناشير وحدث أن نفذت له المساكات ("البيناز") التي يلصق بها المناشير، فنزع "شريطا" من الدوم كان يحزم به ملابسه، فربط به المنشور الأخير على شجرة من الأوكاليبتوس، ثم عاد أدراجه ونام، وفي الصباح أخد الفرنسيون هذا الحزام/الشريط وأخذوا يطوفون به القبائل والمشيخات من أجل التعرف على صاحبه. بدأنا نفكر في إحراق الضيعات، واجتمعنا أنا وعلي الميداوي وبوشتى الميداوي وأحمد الربيعي، من أجل التفكير في تدبير السلاح، وبدأت أرسل الرسائل إلى كثير من أصدقاء أبي يتاجرون في الثياب داعيا إياهم إلى التبرع بالمال من أجل أن نشتري السلاح، وقد تلقينا بعض التبرعات، ولكنها كانت غير كافية. ولما أخبرت رفاقي بأن لدي قنبلة في البيت ووصفتها لهم، أخبروني بدورهم أن هناك الكثير من أمثالها في جبال هوارة، وفعلا بعد حوالي أسبوع أحضروا قنبلتين، وفي تلك الفترة بالذات، كان هناك رجل اسمه محمد قوضاض بمزكيتام، شرق أنكيد ناحية وجدة، كان رحمه الله يذهب دائما إلى سوق مزكيتام، كان هذا الرجل يزورني في مدرسة الأندلس، ويعطيني نقودا باستمرار، وبها كنا نستعين على شراء السلاح وباقي المستلزمات. وهناك الكثير ممن كانوا يتحركون مع خليتنا ويقومون بأعمال متفاوتة في المقاومة، ولكنهم لم يكونوا يعرفون بعضهم البعض، وهذه فكرة أملاها علي الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، وكان لكل واحد منهم الموعد المحدد الذي نلتقيه فيه ونخطط معه دون أن يعلم بالآخرين. اتفقنا إذن على أن نضع قنابل في ضيعات بعض المعمرين في ليلة عيد الأضحى على الساعة الثانية ليلا. وكان محمد قوضاض هذا، طلب مني أن أكلفه هو أيضا بعمل ما في المقاومة. وكانت توجد عندهم في سوق مزكيتام مطحنة "للحَلفاء" يملكها ويسيرها معمرون فرنسيون، ويسكن قربها آخرون. فكانت الخطة هي أن يحرق هو هذه المطحنة، خصوصا وأن مادة "الحلفاء" سهلة الاحتراق وتساعد على انتشار النار بسرعة، واتفقنا على أن تتزامن هذه العملية مع وضع القنابل في الضيعات في الحياينة، حتى يكون هناك رعب حقيقي للمعمرين. قبل وضع القنابل في ضيعتي المعمرين هوك وميسان ( أحدهما في البراطلة والآخر في قنطرة البراشوة) كان لابد من قطع الأسلاك الهاتفية التي تربط بين منزليهما و"البيرو" بتيسة. انقسمنا إلى مجموعتين، واحدة تكلفت بوضع القنبلتين في الضيعتين بتعاون مع بعض العمال فيهما، والثانية تكلفت بقطع الأسلاك الهاتفية. وعلى الساعة الثانية ليلا بالضبط، اشتعلت الضيعتان بالقنابل واشتعلت بتزامن معهما النيران في مطحنة مزكيتام. وعدنا في تلك الليلة إلى البيت كأن شيئا لم يكن، مع أن أمي كانت تعلم بالعملية، أما أبي فاكتشفها فيما بعد. وللتمويه على المعمرين وأعينهم، هب بعض من وضع القنبليتن مع الناس ليطفئوا النيران. والمعمر هوك، عندما انفجرت القنبلة في ضيعته، هرب إلى أحد الدواوير القريبة وأخفته زوجة أحد عماله، وقد كانت له معها بالمناسبة علاقة غير شرعية، وكان هذا الأمر معروفا عند الجميع. وللأسف لم نفطن إلى أنه قد يذهب للاختفاء هناك، وإلا كنا قتلناهما هو والخائنة تلك الليلة. بدأت السلطات الفرنسية بعد هذه العملية حملة بحث وتفتيش واسعة، إلا أن القائد قدور البزاري رحمه الله أضلهم، وقال لهم إن نوع القنابل المستعملة في هذه العملية لا يمكن أن تكون إلا في الريف، مما جعلهم يعتقدون أن مدبري العملية لن يكونوا إلا من الريف هم أيضا، والريف آنذاك كان تحت الحماية الإسبانية. وكان القائد البزاري يعلم جيدا أن العملية من تنفيذ أبناء المنطقة، إلا أنه فعل ذلك من أجل تضليل الفرنسيين. غير أن عمي، كان قد أعطانا ليلة العملية أنا ورفاقي لبنا شربناه، ولم يكن يعلم بمرادنا، وبعد مرور العملية، صرح للعديد من الناس أن ابن أخيه زاره بعض الشبان ليلة العملية وأنه سقاهم لبنا، وكانت هذه التصريحات سببا في اعتقاله واعتقال أبي واعتقالي أيضا، وتعرضنا للاستنطاق، وقد أدليت لهم بشهادة طبية أعطاها لي الطبيب الفرنسي الدكتور شيرو، وكان خاصا بجامعة القرويين، تثبت مرضي بالسل، وهي التي أنقذتني من السجن. مرت مدة، ثم خططنا لعملية أخرى بعين مديونة في حفل يجتمع فيه المعمرون الفرنسيون وبعض الخونة. اتفقنا أن نضع قنبلة في "نافخ" (مجمر) سيستعمل في الطبخ أثناء الحفل، هذا المجمر أدخلناه إلى المطبخ بتعاون مع بعض الطباخات وكان المرحوم أحمد بن الطاهر الميداوي هو الذي حمل القنبلة إلى المكان برفقة علي الميداوي ورجل من المنطقة يسمى خرقوق. ورغم أن هذه القنبلة لم تخلف ضحايا، إلا أنها خلفت رعبا رهيبا في صفوف سلطات الاحتلال الفرنسي وكان أثرها بالغا جدا، حيث وقع الربط بينها وبين العملية السابقة، فقالوا إن هذه الأعمال لابد أن تكون من أبناء المنطقة، فقرروا البحث عن فاعليها. وهنا جاء دور الخائن البوعدلي، وبدأوا يرسلونه إلى سوق رأس الواد لتقصي الأخبار. نوافذ الحلقة الثانية: بدأت أرسل الرسائل إلى كثير من أصدقاء أبي يتاجرون في الثياب داعيا إياهم إلى التبرع بالمال من أجل أن نشتري السلاح، وقد تلقينا بعض التبرعات، ولكنها كانت غير كافية انقسمنا إلى مجموعتين، واحدة تكلفت بوضع القنبلتين في الضيعتين بتعاون مع بعض العمال فيهما، والثانية تكلفت بقطع الأسلاك الهاتفية. وعلى الساعة الثانية ليلا بالضبط، اشتعلت الضيعتان بالقنابل رغم أن هذه القنبلة لم تخلف ضحايا، إلا أنها خلفت رعبا رهيبا في صفوف سلطات الاحتلال الفرنسي وكان أثرها بالغا جدا