يروي لنا المقاوم الحاج التهامي العمراني الزريفي في هذه الحلقات بعضا من ذكرياته حول أحداث المقاومة بفاس وتاونات ونواحيهما، وهي حلقات فضل أن يعنونها:طرسالة إلى الشباب المغربي"، رسالة مفادها، حسب الحاج التهامي، أن «المقاومة لا تنتهي ولن تنتهي، لأننا نقاوم الظلم والفساد والإفساد والشرك والإلحاد والملحدين، ونقاوم انتشار الخمر والحانات، ونقاوم العهارة، ونقاوم تزوير الانتخابات والإرادات والحقائق، ونقاوم التدليس على الشعب المغربي بكل ما في هذه الكلمة من معنى». في الحلقات الماضية، تابعنا مع الحاج العمراني بداية العمل المسلح في منطقة تاونات وتيسة، وكذا بعض التقنيات والعمليات التي اعتمدها هو وخليته في إحراق ضيعات المعمرين وبعض الخونة.كما تحدث عن زيارته للقصر الملكي مرتين من أجل تبليغ الملك محمد الخامس خبر اعتقال رفيقيه في المقاومة بوشتى الميداوي وعلي الميداوي. كما روى لنا كيف أنقذوا عباس المسعدي وبعض رجال المقاومة من جواسيس الاحتلال الفرنسي، وكيف خرج عباس المسعدي من فاس متنكرا في هيأة راع ومستقلا شاحنة متوجها إلى تطوان حيث لجنة المقاومة، وفي الحلقة الأخيرة من هذه الذكريات، يتذكر الحاج التهامي ما يعرفه من قصة اغتيال عباس المسعدي، ويستدرك بعض مافاته من حديت حول مظاهرات 4591. جاء الاستقلال، وشبت فوضى عارمة بواسطة جيش تحرير مزور غير جيش التحرير الحقيقي و رجال المقاومة الحقيقيين، وصار هذا الجيش المزور ينشر الرعب في كل الناس، ويتهم بالخيانة من ليس خائنا، وينهب رجاله أموال وأملاك الناس بتهمة الخيانة. وشاءت الأقدار أن ذهب هذا الجيش المزور إلى الشيخ المختار الميداوي أخ بوشتى الميداوي، واتهموه بالعمالة للاستعمار والخيانة. والحقيقة أني أْعرف هذا الشيخ حق المعرفة، وأعلم أنه رغم أنه كان شيخا مع الاستعمار إلا أنه كان وطنيا مخلصا وغيورا على وطنيته وبلده وملكه. أتى إليه هؤلاء فسلبوا أمواله ومواشيه وهددوه، وبلغ الخبر إلى أبي رحمه الله، فتدخل وفرض عليهم ألا يأخذوا منه شيئا، وأن يتركوه، وأكد لهم أن الرجل وطني مخلص. كانت هذه إذن فوضى عامة في بداية الاستقلال لأنه آنذاك كان هناك فراغ كبير والسلطة كانت شبه منعدمة، بقي الخائن الذي تحدثنا عنه وقلنا إنه غدر بالمقاومة وركب الانتهازية، ويجب أن نتساءل لماذا خرج إلى الجزائر ، وكيف عاد منها؟ ولماذا عفا عنه الملك الراحل الحسن الثاني بعد أن تدخل إدريس البصري، وزير الداخلية السابق؟ قلت بقي هذا الخائن الانتهازي يتنقل بتاونات، وذهب بجيشه واستقر مع الناس المرابطين الحقيقيين. فلما ذهب إلى الرباط من أجل النزول هناك حتى يسلم الأسلحة التي كانت معه، ويدعي أنه كان مع المقاومة وجيش التحرير، شاءت الأقدار أن استدعانا أحرضان أنا وعلي الميداوي بواسطة أحمد الميداوي، وكان عاملا على الرباط وسلا آنذاك فلما وصلنا عنده رحب بنا، واقترح علينا أن تتم مكافأتنا على مقاومتنا بتوظيفنا، واقترح علينا في ذلك أن نجتاز مباراة في العمالة، فثارت ثائرتنا لهذا الاقتراح، ولم نرض أن نخضع لمثل هذا الاختبار، فخرجنا على التو من العمالة وللأسف، في ذلك التاريخ كان كل واحد يريد أن يستغل المقاومة والمقاومين حسب أهوائه. رجعنا إلى حال سبيلنا وبقي أحمد بن الطاهر الميداوي رفقة جيش تحريره المزور، وبدأ يتصل بمحمد الغزاوي (مدير الأمن الوطني آنذاك) ويتكلم باسمنا ونحن غافلون، وبدأ أيضا يتوسط لديه ليشغل عددا من الناس في الأمن الوطني تحت غطاء المقاومة، وهم لا يمتون إليها بصلة، وكان يأخذ منهم الرشاوى، وقد أساء بذلك إلى مقاومتنا وأعمالنا. موت عباس المسعيدي أحكي من هذه القصة ما أعرفه فقط. فعباس المسعيدي كان في الريف مع جيش التحرير، وإذا بالمهدي بن بركة يتوجه إليه رفقة وفد إلى الشمال طالبين منه أن يسحب جيشه إلى الرباط، غير أن عباس رفض ووقعت بينهم ملاسنة كادت تنتهي بما لا تحمد عقباه، لولا تدخل بعض الشخصيات التي كانت حاضرة. رجع المهدي بن بركة من حيث أتى، وبقي عباس مع الجيش مدة لا تقل عن الأسبوع، ثم رجع إلى فاس ونزل بدار السي بلقاضي واستقبلنا هناك واتفق معنا أنا وبوشتى الميداوي وعلي الميداوي على أن نتوجه إلى الرباط بعد ثلاثة أيام لزيارة الملك محمد الخامس رحمه الله ليزكي له مقاومتنا، ويخبره أننا ساهمنا في إنقاذ حياته، وإنقاذ المقاومة المغربية من يد الوجود الفرنسي ففارقناه على هذا العهد، على أن نلتقي بعد ثلاثة أيام لنسافر إلى الرباط (كنا سنسافر يوم إثنين أو ثلاثاء) ولم يمر على هذا الكلام يومان أو ثلاثة حتى بلغني الخبر بأن عباسا قد اغتيل، وكان اغتياله من طرف حجاج وجماعته، هذا الشخص الذي كان يحسب نفسه مع جيش التحرير، ولا أدري من الذي دفع حجاجا إلى هذا الفعل؟ الذي أعلمه في هذا الموضوع أنهم توجهوا إليه في بيت الحاج بنعلال بباب الخوخة (صاحب محطة البنزين) لأن عباس كان يتردد على دار السي بلقاضي، وكذلك على دار الحاج بنعلال، وقد اتضح بعد مدة أن الحاج بنعلال لم تكن له يد في هذا الاغتيال، حيث أن المغتالين أخرجوه من بيت الحاج بنعلال محتالين، وكسروا يديه، ورموه في سيارة وأخذوه إلى طريق سبو ثم إلى قنطرة البراشمة فعين عائشة، وقبل أن يدخلوا إلى عين عائشة، خرجوا على طريق واد الغرب، وهناك قتلوه ودفنوه. ولقد اتصلت بالحاج بنعلال بعد مدة، فحكى لي أنهم أخرجوا عباس المسعدي من بيته بالحيلة، حيث أوهموه أنهم يريدون الحديث معه في موضوع مهم وخاص. ومن الحكم الإلهية أن هؤلاء المجرمين لما دفنوه بسرعة تركوا أصابع يده اليمنى ظاهرة فوق التراب، فمر أهل البلدة واكتشفوه، فنقلت السلطات جثته ودفنتها في عين قادوس بفاس، إلى أن جاء وقت قيام رجال جيش التحرير بمحاكمة قتلة عباس، وطالبوا بنقل جثته من عين قادوس إلى أجدير حيث كانت مقبرة للشهداء، وكان آنذاك الصقلي هو العامل على فاس، امتنعت السلطة، غير أن الدكتور الخطيب ورفاقه، كانوا قد بدؤوا عملية نقل الجثة، ولما منعتهم السلطات حضرت جماهير كثيرة من الريف غاضبة وكادت أن تكون كارثة، ولكن الله سلم. بعدها مباشرة ألقي القبض على الدكتور الخطيب والمحجوبي أحرضان وأودعا السجن في عين قادوس، إلى أن تدخل جلالة الملك وأخرجهما من السجن. وكنت أنا قد ذهبت إلى القصر الملكي وأدخلوني على محمد الخامس رحمه الله بمساعدة بنمسعود، وحكيت له قصة اغتيال عباس، ثم أدخلوني أيضا على ولي العهد آنذاك الحسن الثاني رحمه الله وحكيت له القصة بدوره، فقال لي رحمه الله: «عليك أن تحتاط لنفسك إن كان لك سابق علاقة بعباس»، وفعلا بعد خروجي من عنده تعقبني بعض رجال جيش التحرير المزور، وهددوني بالقتل، فرجعت إلى فاس وحكيت ما جرى للحاج الفاطمي بنسليمان فنصحني أن أتصل به في اليوم الموالي، وفيما بعد سعى الحاج الفاطمي إلى الإصلاح بيني وبين من هددوني. مظاهرات 1954 عرفت سنة 1954 مظاهرات صاخبة شارك فيها الرجال والنساء والشباب والشيب، وكنت من بين الذين قادوا هذه المظاهرات بفاس انطلاقا من جامعة القرويين وضريح مولاي إدريس، والكل كان ينادي بشعارات صاخبة. وكانت السلطات الفرنسية تقوم بإنزالات قوية من أجل محاصرة وإخماد هذه المظاهرات، وكانوا بالخصوص يحضرون الجنود الأفارقة الذين كانوا يسمون "ساليكان". وكنا نحن الطلبة بالمدارس التابعة لجامعة القرويين نغلي الماء في مساكننا ثم نصبه عليهم من فوق السطوح، كنا نقاوم بأي وسيلة نراها مفيدة، وكان يشاركنا في قيادة هذه المظاهرات العلامة محمد بن حماد الصقلي الذي كان آنذاك طالبا معنا في جامعة القرويين رغم أنه كان ضريرا. وكنا نؤجج عواطف المتظاهرين خصوصا بأبيات شعرية للزهوي لم أعد أذكرها، وكان الناس يحملونني أنا والعلامة محمد بن حماد الصقلي فوق أكتافهم ونخطب في الحاضرين مؤججين حماسهم. في تلك الآونة كان الشيخ بين العربي العلوي رحمه الله يلقي دروسه في جامعة القرويين، وكان الفقيه الزيتوني آنذاك متهما بالعمالة للفرنسيين، حيث كان هو بدوره يلقي دروسا مضادة لدروس الشيخ بن العربي العلوي، وكنا نخرج المظاهرات أيضا من المساجد، وكان معنا أيضا أخونا الطاهر السميرس، كما عملنا على حرق عدة متاجر للتبغ (صاكات) في الرصيف وبوجلود والنخالين والعشابين وباب الجديد، ويجب أن أشير إلى أن التبغ والمخدرات، المعمرون هم الذين أدخلوها والفساد والانخلال الأخلاقي أيضا وكذلك الخمر، وحتى ما كان في مجتمعنا من فساد وانحلال من قبل، فقد كان قليلا ومحاصرا ومستورا. وكنا أيضا نهدد المقدمين والخائنين والجواسيس العاملين مع السلطات الاستعمارية . وقد دامت هذه المظاهرات أكثر من أسبوعين. تصويب واعتذار : في الحلقة الثالثة من هذه الذكريات، المنشورة في العدد 614، الصفحة 7، عند ذكر اسم السيد الشاهد العمراني وردت معه عبارة «رحمه الله»، وهي عبارة يفهم منها أنه مات، والصواب أن السيد الشاهد العمراني مايزال على قيد الحياة بارك الله في عمره، ورحمه، وجميع المسلمين، في الدنيا والآخرة. وبه وجب التصويب والاعتذار.