شكل مصطلح الانضباط التنظيمي أحد المفاهيم المرافقة للمنظمات والهيئات في جل المراحل التي تمر بها سواء في لحظات صعودها أو أفولها. فيعتبر لدى البعض عنصرا رئيسيا ومرتكزا أساسيا لرفع الفاعلية وتقوية الجاهزية ومن ثمة اعتبر أن أي تساهل في انضباط الأعضاء سيؤدي لا محالة إلى ترهل تنظيمي قد ينتهي بانفراط عقد المنظمة وتلاشي هياكلها. و يعتبر البعض الآخر أن المبالغة في الانضباط التنظيمي تشكل عائقا أمام حرية المبادرة والإبداع وتؤدي إلى التنميط والعجز، مما دفع ببعضهم إلى حد المطالبة بحل التنظيم وتعميم مفهوم"ابن المشروع،"وإحداث أشكال هيكلية مرنة تشجع الدخول والخروج بلا قيود، وتستوعب المنتمين بلا حدود. إن مما لا شك فيه أن هذا الإشكال يحتاج إلى دارسة وتفكير والبحث عن بدائل وخيارات لا ترتهن بالضرورة لثنائية "الانضباط الشامل أو التسيب الكامل"، خاصة أننا نعيش بداية طور جديد في العمل الإسلامي تداخلت فيه عناصر جديدة، وانتقل في مجمله من مفهوم الجماعة والطائفة والتنظيم المحوري المركزي إلى العمل المؤسساتي المتعدد الواجهات والمتنوع الكفاءات والقدرات. و بما أن أشكال الانضباط التنظيمي كثيرة ومتنوعة يمكن التطرق لثلاث حالات منها كالآتي: - الانضباط الحديدي: وهو نموذج ارتبط بالانضباط التنظيمي الصارم الذي عرفته مراحل التأسيس وإعداد النواة الصلبة، ومرحلة السرية حيث كان المنطق المؤطر هو التحصين والحماية من الاختراق والخوف من الاحتواء. في ظل تنظيم مركزي محوري محتكر لمصادر المعلومة وتحليلها، مبادر لاتخاذ القرارات وإصدار الأوامر، إذ ليس للعضو سوى الاستعداد الجيد للتنفيذ والجاهزية العالية للانخراط والانضباط. وإن كانت لهذا الاختيار بعض المسوغات حين كانت مصادر التلقي الوحيدة بالنسبة للعضو هي الهيئات التنظيمية والشخصيات القيادية، فإنها لم تعد صالحة مع ظهور الثورة المعلوماتية وتعدد وسائل التواصل بين الأعضاء، وتعرض هذا الأسلوب من الضبط لانتقادات كبيرة، كما لم يصمد أمام التطورات والتحولات التي عرفتها التنظيمات الإسلامية. - الانضباط "الفطري": وهو انضباط عرفت به الجماعات ذات "التنظيمات الفطرية "من مثل بعض الحركات التركية، وهي الجماعات التي لم تعتمد هيكلة معلنة واضحة، وليست لها قوانين داخلية، ولا لوائح تنظيمية تحدد صلاحيات الهيئات التنفيذية وتراتبيتها. بل تكتفي بإعلان رئيسها "الأستاذ المؤسس" أو "الشيخ المربي" والذي يتطلع الأعضاء للتفاني في خدمة توجيهاته أو إشاراته دون أن تصدر على شكل أوامر أو مقررات، لذلك فهو انضباط "فطري" وعن طواعية وتتم متابعة التنفيذ بهيكلة غير رسمية يشرف عليها المقربون من "الأستاذ" أو "الشيخ". ويبقى هذا النوع من الانضباط مهددا بالتراجع بعد رحيل القائد المؤسس. - الانضباط التعاقدي: وينبني هذا التوجه على تعاقد مستند لوثائق تحدد الحقوق والواجبات للعضو قبل أن ينتمي للتنظيم. ويبنى هذا التعاقد كذلك على مساطر للمحاسبة و كل أشكال المتابعة لحالات التراخي والترهل التنظيمي. وتنضاف إلى ذلك هيئات للتحكيم لاستقبال التظلمات والحسم في الطعون. ويمكن لهذا الخيار أن يشكل أرضية صالحة للتطوير والملائمة مع التحولات، وأن يأخذ بعين الاعتبار مختلف القدرات بحكم أنه مبني على تعاقد واضح يلتزم فيه كل طرف (العضو ومؤسسات التنظيم) بما تعهد به. ومجمل القول في الختام أن الحاجة قد اتسعت دائرة راهنيتها بغية فتح نقاش حر ومسؤول حول فاعلية التنظيم و جاهزية الأعضاء، بهدف التطوير والتحسين والملائمة، والتي يمكن أن تشمل تبسيط شروط الانتماء، وتيسير طرق الارتقاء، واستيعاب اختلاف الآراء، شريطة الحزم في عدم التطبيع مع التمرد وقلة العطاء والتسيب والارتخاء.