في خضم التدافع الاجتماعي الذي تعرفه كثير من مجتمعاتنا الإسلامية في سياق البحث عن الذات وتحصينها وتلقيحها ضد الذوبان والاستلاب الفكري، وبعثها من عنقائها، وإخراج الأمة من نفقها المظلم، وإيقاظ الهمم في أبنائها لتتبوء المكانة التي تستحقها بعد أن توانا قدرها وانحط شأنها في سلم الرقي الاجتماعي؛ انحطاط أنتجته سنون من الأزمات الدستورية التي تغذي الفساد وتطيل أذناب التفقير والتحقير في مختلف البلدان الإسلامية. إن راهننا المأزوم يقتضي اجتهادا عميقا يسفر عن انتاج تغيير جذري في عقليتنا وطريقة تفكيرنا التي تنتج طريقة تدبيرنا المعتل لمختلف ازماتنا. في ظل هذا الواقع تتعالى أصوات من هنا وهناك تنادي بالعودة إلى الدين الإسلامي، ( حياة السلف ) وإن كان القول الصائب في نظري هو التقدم الى الدين الإسلامي، فقد تخلفنا عن مبادئه بسنوات ضوئية لا حصر لها. فهناك اليوم شبه إجماع من مختلف الجماعات التي تمارس ما يسمى بالإسلام السياسي، والحركات السلفية، إضافة إلى فئة عريضة من الشعوب تجمع على ضرورة تطبيق النظام الإسلامي باعتباره حلا لمعضلاتنا الاجتماعية التي عجزت عن حلها النظم المستوردة بشكل انتقائي مفعم بمصالح فئوية ضيقة. لكننا نتغافل عن السؤال الملح حقيقة ألا وهو: هل هناك نظام إسلامي جاهز يمكن تطبيقه على الحياة الفردية والاجتماعية في كل جزئياتها؟ فالنظام الإسلامي ليس محصورا فيما فعله المسلمون في هذا العصر أو ذاك بل هو ما يجب فعله في كل الازمنة لينالوا فضيلة الخيرية " خير أمة اخرجت للناس" وإذن فالمطلوب تجديد شامل في متن المتحول وإعادة قراءة الثابت قراءة مستفهمة لا متذكرة من اجل إنتاج حلول عملية لما يطرحه راهننا من قضايا لم تكن ملحة في أمسنا؛ حلول تكون مفعمة بالخلقية الإسلامية، خلقية قادرة على الدفع بنا إلى استنكاه المستقبل. إن تجديد فهمنا الديني تمليه الرهانات التي نعيشها، فنحن نحيى في حضارة مركبة ومعقدة جدا، إذ العالم لم يعد إمبراطورية عربية إسلامية تمتد من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، فالعرب والمسلمون اليوم أمة لا تكفي ذاتها بنفسها بل تحتاج إلى الغير علمياً واقتصادياً وثقافياً وعسكرياً كما لم تكن بحاجة إليه في أي وقت مضى، فضلا عن كون هذه الحضارة ليست من جنس الحضارة التي عاش فيها أسلافنا وليست امتدادا مباشرا لها، ثم انها ليست من إنتاجنا ولم نشارك الا بما هو ماضوي فيها، إذ مجمل راهنها من اصدار غيرنا، فنحن لسنا سوى تابع لاصحابها في مختلف المجالات؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية… وفي ضوء هذه التحولات العميقة، ينبغي على كل من يدعو للعودة الى قيم السلف الصالح لحلحلة أزماتنا أن يدرك أن المجتمع الإسلامي اليوم يحتاج إلى سلفية دينية اجتهادية عكس ما هو موجود من سلفية اقتصادية " نفطية " وسلفية سياسية رميها الأساس الوصول إلى الحكم وليس إلى الحكمة. أما السلفية التي تقدم نفسها كسلفية دينية فهي مجرد وسيلة ملتحية لتبرير السلفيتين السابقتين، وليكن حزب النور السلفي المصري خير دليل على تبرير وتشريع الجاهلية. إن السلفية المجتهدة التي يحتاج إليها المجتمع سلفية متزنة متنورة لها ملكة النظر في تراث السلف وتنقيته مما غشيه من الغواشي التاريخية وذلك لأسباب متعددة؛ إما نتيجة سوء فهم أو سوء تأويل وإما تكيفا مع واقع القهر المفروض؛ فتحول رجل الدين ( المفروض فيه نشر حياة السلف ) إلى آلة للي أعناق النصوص وتكييفها مع واقع مأزوم، إنه فقه التكيف. لقد كان على الدوام لرجل الدين دورحاسمفي التشكيل السياسي العربي منذ القدم، كما قال ابن خلدون: "إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية…" وبعد الاستعمار الى الآن أصبحت المؤسسة الدينية كفكر تسويغي وتبريري وتحريضي، تحليلي وتحريمي من الأسس التي يقوم عليها النظام السياسي العربي، ولذلك فإن أي دعوة إلى الاجتهاد والتجديد تعني بالضرورة التجديد في الفكر السياسي وهو ما يعد من المحرمات، بل من الكبائر. إننا اليوم كمجتمعات إسلامية بحاجة إلى مؤسسة دينية لها سلطتها الاقتراحية والتنفيذية التي تمكنها من إنتاج نظام إسلامي متكامل يتعاطى بفاعلية مع التحديات الراهنة؛ حيث توجد مَأْسسة للجاهلية لها قوتها الضاربة المسنودة نفطيا وسياسيا. وواضح أن الجاهلية المنظمة لا تجابه إلا بإسلام منظم. وعليه، فلا بد من مأسسة نظام إسلامي متنور يعمل على تنمية المبادئ الإسلامية التي بقيت أجنة بتعبير محمد اقبال؛ فالعدالة والشورى والمساواة والتعددية والتكافل وغيرها من القيم كلها لم تتح لها ظروف الزمان والإمكان فرصة النمو بعدما انحرفت الخلافة الى ملك، فكل هذه المبادئ كان يمكن تنمية شكلها الجنيني لتصير نبراسا تهتدي به الأمة لولا الانحراف السياسي والردة الشورية التي ضربت عمق الحضارة الإسلامية؛ ردة بدأت منذ الصدر الاول للإسلام مرورا بقرون من النكبات والأزمات، وأكملت نثنها مع الأنظمة التي تتكئ على منسأة الاستعمار، مما أوغل الأمة في وثنية سياسية أرخت بسدولها على كل المشاريع التجديدية وأطلقت العنان لإنتاج عاهات سياسية واقتصادية واجتماعية… في ظل هذا التمزق الذي تحياه الأمة، يجب على كل الفاعلين الدينيين ( علماء، جماعات، مؤسسات…) أن يضطلعوا بدورهم المحوري بعيدا عن الوثنية السياسية، وذلك من أجل تنمية المبادئ الإسلامية وممارسة اجتهاد فعال يخرج الأمة من أزماتها ويقطع الطريق أمام من يهدد الأمن الروحي والجسدي باسم الدين، تحت تأثير فهم معلول لتعاليم الإسلام؛ فهم يستمد شرعيته من الظلم والاستبداد والإيثار والاستئثار بالسلطة والثروة وجمود الفكر الديني الذي انتج في مرحلة التكيف مع الواقع المفروض، ولم يراوح مكانه، فلا زالت ولاية المتغلب هي القاعدة التي تحكم جل مجتمعاتنا الاسلامية. وحاصل الكلام أن الأمة اليوم بحاجة إلى أن يشمر علماؤها ونخبها عن سواعد الجد والاجتهاد لإنتاج نظام اسلامي يكون مستوعبا لنوازل العصر، وقادرا بخلقيته الإسلامية على مجابهة التحديات الراهنة التي تقوض وجودنا الذاتي وتبقينا أمة منسية في سرداب التخلف الناتج عن الاستكانة الى واقع مأزوم، واقع يستوجب ضرورة نفض الغبار عن تراثنا الديني وتجريده من العوالق التاريخية التي امتزجت به، بل صارت جزءا منه عند البعض.