كان لماضي الازدهار الكبير الذي عرفته الحضارة الإسلامية لعدة قرون، والذي تلاه أفول وانحطاط سحيق، كما هي سنّة الله في التداول الحضاري بين الأمم والشعوب (وتلك الأيام نداولها بين الناس)، الوقع الحاسم في تشكل العقل المسلم في العصر الحديث، وهو يرقب التحولات السريعة في حياة الناس بفعل الانفجار التكنولوجي الهائل. السلفية باعتبارها رجوع إلى الماضي وبحث في التراث واقتفاء لأثر السلف، واعتماد النص/الوحي، منهجا لتحليل الواقع واستشراف المستقبل، تكون في موقع التناقض الحاد مع الحداثة التي هي تعبير عن تجاوز للتقاليد والأعراف والدين والغيب، وطيّ نهائي لصفحة الماضي، واعتماد العقل والشهوة دون غيرهما في الانتاج الحضاري وتوجيه المجتمع المعاصر. الحداثة دخلت إلى أرض الإسلام عن طريق العنف والاستعمار، واستغلال فاحش لخيرات البلاد، واحتقار واستعباد للمسلمين، فزاد هذا من حدة التناقض بينها وبين السلفية التي شكلت مرجعا في مواجهة الاستعمار، على المستويين الفكري والسياسي وكذا الجهادي، فتشكلت على إثر ذلك ثلاث سلفيات (السلفية التوفيقية السلفية الرافضة السلفية القتالية)، تمتح جميعها من النص/الوحي ومنهج السلف،كل بحسب قراءته، وتنبذ الخرافة والبدعة والتعصب المذهبي، وتحارب شرك القبور الذي انتشر في الأوساط الشعبية بترويج من الطرق الصوفية التي تغلغلت في النسيج الاجتماعي منذ عصور الانحطاط، وتدعو إلى تصفية العقيدة من تلك الشوائب؛ وهذا هو الحد الأدنى الذي يجمع بين السلفيات الثلاث، ويميّزها عن سائر المدارس الإسلامية الأخرى، قديما وحديثا. 1) السلفية الأولى يمكن أن نصطلح عليها باسم "السلفية التوفيقية"، وهي المدرسة التي قدمت اجتهادات معاصرة توفق بين الإسلام وروح العصر،واستصحبت مقاصد الشريعة وهي تفحص النصوص، وتوازن بين المفاسد والمصالح وهي تدعو لتنزيلها، وروادها الشيخ محمد عبده والكواكبي ورشيد رضا ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي ومحمد عمارة، وغيرهم من رواد النهضة في المشرق العربي، والطاهر بن عاشور وراشد الغنوشي وعلال الفاسي وأحمد الريسوني وسعد الدين العثماني وغيرهم من رواد النهضة في المغرب العربي؛ اجتهدت هذه المدرسة في تقديم أجوبة معاصرة لقضايا الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة والأقليات الدينية، هذه المدرسة قلصت من الفجوة العميقة بين الإسلام وقيم الحداثة الإيجابية، وسمحت بشكل من أشكال الحوار مع الغرب. لكن الغرب لم يلقي بالا لتلك الاجتهادات، بل صنع له محاورين في بلاد الإسلام يعشقون قيمه، ويهضمونها دون نقد ولا أدنى تعديل،إذا دخل جحر ضبّ دخلوه، يستميتون في الدفاع عن تلك القيم صحيحها وفاسدها، ويدعون لها، ويحاربون قومهم إذا حادوا عنها، ويفرضونها بالحديد والنار إذا تسلطوا على البلاد والعباد، ويحتقرون قيمهم الأصيلة، ويعتبرونها شرأ ووبالا ورجعية وتخلفا، فقام الغرب بمساندتهم ماديا ومعنويا، وفرض وجودهم في مواقع القرار ومراكز البحث والتوجيه التربوي والقيادة الفكرية والساحة الثقافية يصولون ويجولون، وهمّش مؤسسة العلماء، فقامت في وجهه سلفية رافضة، وجهت أول سهامها ل"السلفية التوفيقية" باعتبارها سلفية انهزامية أمام الحضارة الغربية التي لم تنتج إلا الشرور. 2) هذه "السلفية الرافضة" لكل ما هو غربي، باستثناء المخترعات التكنولوجية، اعتمدت قراءة حرفية للنص/الوحي، أحيانا انتقائية، تسمح لها بتمرير مقولاتها الموغلة في التطرف، وسنقدم نموذجا لبعض تلك الاجتهادات في ما يلي؛ لكن نحب أن نؤكد على أن الغرب شجّع أيضا هذا التوجه، من خلال غض الطرف عن الأموال الهائلة التي كانت تضخّ في سبيل نشره ودعمه داخل وخارج العالم الإسلامي على أوسع نطاق، وذلك لثلاثة أسباب على الأقل: السبب الأول أن هذا التوجه كان يحاصر الإسلام السياسي الذي يعتبره الغرب المنافس والبديل الحقيقي للمشروع العلماني الذي يرعاه؛ السبب الثاني الصداقة الكبيرة التي تجمع مصالح الغرب بالمملكة العربية السعودية الراعي الأول للسلفية الرافضة؛ السبب الثالث أن هذه السلفية تقدم قراءة متخلفة للإسلام، يعلم الغرب أنها ستشكل على المدى المتوسط والبعيد أكبر عائق في وجه استعادة المسلمين للريادة الحضارية وقيادة العالم إذا هم استطاعوا أن يعيدوا قراءة التراث الغربي والاستفادة منه على ضوء الرسالة الخاتمة. سنورد في ما يلي بعض الانتقادات التي وجهتها "السلفية الرافضة" لتلك التي سميناها "السلفية التوفيقية"، والمرجع الذي اعتمدناه هو كتاب "التجديد في الفكر الإسلامي" لصاحبه الدكتور عدنان أسامة، وليست العبرة هنا بمؤلف الكتاب، بقدر ما هي بالمضامين الشائعة في كل أدبيات هذا التيار. أ الموقف من المسلك التوفيقي: " إن دعاة التجديد العصراني (يعني السلفية التوفيقية) لم يعبؤوا بإجماع السلف، ولم يحتكموا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل تتبعوا زلات العلماء وشذوذاتهم، وما ذكر في كتب الفقه من آراء واختلافات، فجعلوها حججا شرعية، ولم يكتفوا بالمذاهب السنية يبحثون عما فيها من غريب، بل دعوا إلى أي قول يناسب أهواءهم ويساير الحضارة الغربية..."(ص.498). ثم ينقل ما ذكره الفقيه الدستوري السنهوري دليلا على ما ذهب إليه: "إن إحياء الفقه يقتضي دراسة مذاهب الفقه الإسلامي السني والشيعي والخارجي والظاهري وغيرها دراسة مقارنة، لنستخلص منها وجوه النظر المختلفة، ولتتركز هذه الوجوه في تيارات من التفكير القانوني، ونستكشف من وراء كل هذا قواعد الصناعة الفقهية الإسلامية، ثم نقارنها بصناعة الفقه الغربي الحديث حتى يتضح ما بينها من الفروق ووجوه الشبه...وحيث يحتاج الفقه الإسلامي للتطور يتطور، وحيث يستطيع أن يجاري مدنية العصر يبقى على حاله دون تغيير، وهو في كلا الحالين فقه إسلامي خالص لم تداخله عوامل أجنبية فتخرجه عن أصله". ثم تعلق "السلفية الرافضة" بقولها : " إن شذوذات دعاة التجديد العصراني وانحرافاتهم في ميادين أصول الفقه والسنة، كان تمهيدا منهم لما أرادوا الوصول إليه من فقه غريب شاذ يهدف إلى تطويع المجتمع الإسلامي لقبول الواقع المعاصر، وإلباس العديد من القيم والمفاهيم الغربية ثوبا إسلاميا، لكن حتى لا يتهموا بالخضوع للغرب، والاستسلام أمام حضارته المنتصرة، طلعوا بتلك القواعد والأصول، وادعوا التجديد والاجتهاد؛ والغريب حقا أن كل الدراسات والبحوث والاجتهادات التي أفرزها ويفرزها التيار العصراني، تنتهي عادة إلى رفع وصمة التناقض بين تعاليم الإسلام ومعطيات الحضارة الغربية، وإثبات مرونة أحكامه الشرعية، وسهولة تشكلها لتطابق ترهات الغربيين...". ب الموقف من الديمقراطية : بعد أن يورد الباحث اجتهادات المدرسة التوفيقية، وهي معروفة من قضية الديمقراطية، يقول منتقدا ما ذهب إليه الشيخ يوسف القرضاوي: "فجوهر الديمقراطية وحقيقتها كفر محض، لا يشك بهذا مسلم، وهي الوجه الآخر للعلمانية، ومتى حاول أحد أن يفسر الديمقراطية بغير ما يعرفه أهلها والمخترعون لها، فقد ناقض الديمقراطية وخرج عليها، شاء أم أبى..وعليه لا يغير من حقيقة الديمقراطية وكفرها قول القرضاوي: (وقول القائل: إن الديمقراطية تعني حكم الشعب بالشعب، ويلزم منها رفض المبدأ القائل إن الحاكمية لله، قول غير مسلم، فليس يلزم من المناداة بالديمقراطية رفض حاكمية الله للبشر)".(ص.509) ثم يضيف:"إن منظومة القيم التي تكوّن الديمقراطية، من حرية التملك، وحرية الاعتقاد، بما في ذلك ضمان حق المرتد عن الاسلام في اعتناقه لما يشاء من مذاهب الكفر والإلحاد، وعدم جواز التعرض له بعقاب، وحرية الرأي، وما يتضمّن من السماح لكل أصحاب العقائد الفاسدة بنشر كفرهم وضلالهم، والحرية الشخصية القاضية بترك كل فرد يمارس ما يشاء ويهوى من القبائح والفواحش والقاذورات دون تعرض لحريته، وما يستتبع ذلك من الدعوة إلى المساواة بين المواطنين دون مراعاة لدين، والمساواة بين الرجل والمرأة في مختلف الميادين، وغير ذلك مما تعنيه الديمقراطية، كل هذه الأمور قبلها دعاة التجديد العصراني، وإن بدرجات متفاوتة، وأخذوا يدعون إليها ويعملون على إقناع الناس بأنها لا تخالف أحكام الشريعة الإسلامية.." ج الموقف من الخروج على الحاكم : بعد رفضها للديمقراطية باعتبارها مجموعة من القيم والآليات التي يؤخذ منها ويرد، لأنها ليست وحيا، ووصمها بالكفر، تستعرض "السلفية الرافضة" مجموع النصوص الدالة على تحريم الخروج على الحاكم المستبد، والصبر على جوره وظلمه،ما لم يعلن كفره أو ينهى عن الصلاة، وهي في معظمها نصوص صحيحة إن لم تكن متواترة المعنى، والنتيجة هي إغلاق سبل التداول السلمي على السلطة الذي تعرفه كافة المجتمعات الحديثة، والذهول عن المقصد الحقيقي من نهي الشارع الحكيم عن الخروج على الحاكم بالقوة، لأنه مفضي للاقتتال وإزهاق الأرواح وهتك الأعراض وإتلاف الممتلكات، وهي الإشكالية التي عالجتها الديمقراطية بحكمة ورشد، أي رفع الظلم وجور الحاكم دون إراقة دماء، والتحاكم إلى قانون أسمى هو الدستور يتوافق الناس على مضامينه، فإن اختاروا الإسلام مرجعية والشريعة حكما فهم مسلمون، وإن اختاروا ما يناقضهما فهم كفار (إلا من عارض وأنكر، ولكن من رضي وتابع) ، وأمرهم إلى ربهم،إن شاء عذبهم وإن شاء عفا عنهم، وواجب العلماء إن كانت فيهم بقية، دعوتهم إلى العودة لكتاب ربهم وسنة نبيهم، وليس لأحد أن يفرض على الناس رأيه بالقوة أو القانون إلا أن تسنده أغلبية تدلي برأيها دون تزوير أو شراء ذمم، كما أن الأقلية ملزمة باحترام عقائد العامة وقيمهم دون استفزاز. 3) السلفية القتالية : الشباب الذي تشرّب مقولات "السلفية الرافضة"، وتدرّب على السلاح في بؤر التوتر، خصوصا في أفغانستان والعراق والجزائر، وحقق بعض الانتصارات العسكرية، ظنّ أنه قادر على حسم المعركة داخل بلده الأصلي بالقوّة، خصوصا أنه يرى معظم تلك الأنظمة الاستبدادية تدّعي الديمقراطية، وهي في نظره كفر بواح يستدعي الخروج، فكان أن خرج من عباءة "السلفية الرافضة" هذا التوجه القتالي الذي جمع إلى مساوئ الخوارج أعطاب الفقه الظاهري، كما خرج الإسلام السياسي من عباءة "السلفية التوفيقية". ولم تنتبه الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى ما كان يغلي تحت غطائها، وهي تحارب الاتحاد السوفياتي بأيدي المجاهدين، حتى ضربها في قعر بيتها في الحادي عشر من سبتمبر، عندها فقط أخذت تراجع أوراقها، وتقترب أكثر من الإسلام المعتدل الذي يمثله تيار الإخوان المسلمين. بعد الربيع العربي، ستقدم التيارات السلفية مراجعات هامّة، لكنها لم تصل بعد إلى القواعد، مما يفسّر الصراع المحتدم بين المليشيات المسلحة في ليبيا والعراق واليمن والساحل جنوب الصحراء، وما لم تستوعب هذه الشعوب، إسلاميوها وعلمانيوها، الدرس الديمقراطي، فسيستمرّ الصراع الذي يغذيه الرجوع الكبير للدين بقيمه المطلقة.