يبدو أن لبنة جديدة وقوية ستنضاف إلى رصيد الحريات والمسار الديمقراطي في المغرب بإعلان وزارة الاتصال عن الخطوط العريضة لمشروع مدونة النشر والصحافة في بيت الصحافة بطنجة، والذي قطع مسارا طويلا من النقاش والتداول والتفاوض بين الوزارة الوصية ومختلف الفاعلين في القطاع إلى أن تم التوصل في النهاية إلى الحسم في معظم القضايا الإشكالية. لا يهمنا التوقف عند البعد الكمي في التداول، مع أهميته البالغة، فأن تقبل الوزارة الوصية 115 تعديلا من ضمن 120 تعديلا قدم إليها من قبل فدرالية الناشرين، ونفس الشيء بالنسبة للنقابة الوطنية للصجافة، فهذا رقم له دلالته، كما أن إشادة المجلس الوطني في شخص أمينه العام السيد محمد الصبار، بمضامين هذا المشروع وانفتاحه على أغلب الملاحظات التي قدمها المجلس، فهذا هذا أيضا له دلالته سواء من جهة تثمين المشروع أو الإقرار بالمنهجية التشاركية التي تم اعتمادها لبلورته. لكن ما يهمنا في تقييم هذا المشروع هو الأجوبة التي قدمها في التعاطي مع الإشكالات الأساسية التي كانت تعاني منها الصحافة الوطنية، والآليات المنفتحة التي يتم تحريكها من أجل التوصل إلى جواب جماعي فيما يخص ما تبقى من إشكالات قليلة. أول جواب، يمكن تلمسه في هذا السياق هو ما يتعلق بحذف العقوبة السالبة للحرية في هذا المشروع، وتعويضها بغرامات معتدلة، وهو المطلب الذي ظل يشكل التحدي الأساسي المانع من صدور المدونة في التجارب السابقة. ثاني جواب يرتبط بتعزيز ضمانات الحرية في ممارسة الصحافة من خلال التنصيص على الأخذ بحسن النية في تقدير التعويض عن الضرر وتمكين الصحفي من أدلة الاثبات طيلة مراحل الدعوى، وهو ما يعد إنجازا غير مسبوق لأنه يعطي المسافة الزمنية الكافية للصحفي لإثبات براءته. ثالث جواب، وهو عند التقدير من أفضل المكاسب التي حققتها الصحافة الوطنية، وهو ما يرتبط بحماية الصحفي لمصارده، إذ أقر المشروع الحماية القضائية لسرية المصادر وهو مكسب كبير لم تستطع الصحافة الوطنية في المراحل السابقة أن تحققه. رابع جواب قدمه هذا المشروع، هو ما يرتبط بوضع آليات عملية لإقرار احترام أخلاقيات المهنة عبر ما يسمى بتفعيل قضاء الزملاء، وهي خطوة أخرى في اتجاه تخليق الصحافة الوطنية بالاعتماد على آلياتها الذاتية وجسمها الصحفي الداخلي. خامس هذه الأجوبة وهو المرتبط بالاختصاص المكاني لدعاوى الصحافة وذلك بحصرها ومنع التسيب الحاصل فيها سادس هذه الأجوبة وهو جعل القضاء سلطة حصرية في قضايا الصحافة تختص وحدها بسلطة تلقي تصريحات إصدار الصحف وبحجز وحجب وإيقاف الصحف بمقرر قضائي، وهو ما سينهي عمليا تعسف الإدارة، إذ سيسحب منهخا سلطة الإيقاف والمنع والمصادرة. هذه على العموم، سبع أجوبة إصلاجية كبرى، ستعطي مضمونا ديمقراطيا لهذا المشروع، والتقدير أن الجسم الصحفي بمختلف مكوناته، سيستقبلها بالتثمين والإشادة. لكن في الجانب الآخر، لا تزال هناك تحديات أخرى نتمنى أن تسرع حركية التداول المفترض أن تجري في الأيام القادمة للحسم فيها أو تحقيق قدر من التوافق الإيجابي فيها، إذ لا تزال هناك إشكاليات عصية تحتاج إلى إبداع حلول بخصوصها أو تحكيم الإرادة السياسية للحسم فيها بما يناسب تقدم المسار الديمقراطي في المغرب. من هذه القضايا موقع القانون الجنائي في محاكمة الصحفيين، إذ ليس المطلوب في هذه المرحلة فقط أن يخرج قانون للصحافة من غير عقوبات سالبة، بل المطلوب ايضا أن يكون قانون الصحافة هو القانون الحصري الذي يتم به محاكمة الصحفي. من هذه الجهة، يبقى الإشكال الوحيد هو المتعلق بالمس بالثوابت الوطنية والدينية، فهذه القضايا تطرح إشكالا حقيقيا، فخلو قانون الصحافة من الجواب عن هذه القضية يعني بشكل آلي محاكمة الصحفي بمقتضى القانون الجنائي، الذي يقر عقوبات سالبة للحرية، ومن ثمة، فإن النتيجة العملية تقول بأن ما تم تحقيقه عبر مدونة الصحافة والنشر سيتم الإجهاز عليه بواسطة القانون الجنائي. المخرج من هذه المعضلة له طريقان، الأول وهو الاجتهاد في مفهوم المس بالثوابت، والتمييز بين ما يدخل ضمن حرية التعبير وما يندرج ضمن التحريض، أو أن تتجه الإرادة السياسية في متجه استبدال العقوبة الحبسية بالنسبة للصحافة إلى عقوبات غير سالبة للحرية، وهو ما يتطلب حصول تعديل في القانون الجنائي، يستتبعه تضمينه ضمن مدونة الصحافة والنشر. اما القضية الثانية، فهي المرتبطة بالاختصاص المكاني، لدعاوى الصحافة، فمع أن مطلب الصحفيين ومدراء النشر مبرر بحكم التوظيف السيء للقانون الذي يتم اللجوء إليه من طرف البعض لإرهاق المؤسسة الصحفية وشغلها عن وظيفتها، فإن حقوق المدعين لا يمكن القفز عليها، مما يعني في المحصلة أن الاجتهاد ينبغي أن يتجه إلى الحصر بالشكل الذي يمنع توظيف القانون لغير غاية الإنصاف والعدالة. الظن أن هذه القضايا المحدودة ليست عصية على الحل، فقضية تقدير حسن النية في نشر الخبر الزائف، يمكن أن التوافق عن جواب بصدده، إذ يمكن التمييز بين الحالات، لأن المشكلة تطرح في بعض الحالات بحجم أكبر من غيرها، مثل قضية الشخصيات العمومية والحقيقة، أن هذه النقاط الصغيرة التي بقيت، والتي لا تعدم وجود مداخل لحلها، لا تغطي على الإنجاز الكبير الذي سيحققه المغرب من جراء اعتماد مدونة صحافة ونشر بهذه المواصفات الديمقراطية.