يمكن بحق أن نعتبر أن الخطاب الملكي لافتتاح الدورة التشريعية بمثابة طرقة قوية لاستدعاء الضمير الوطني والسياسي للوعي بشروط المرحلة ومقتضياتها، وما تستدعيه من استثمار كل ما يملكه المغرب من رصيد لتحقيق تطلعه في أن يصبح دولة صاعدة في المنطقة. لن نتوقف كثيرا عند العناوين التي تشكل خارطة طريق لتنزيل الدستور، واستكمال الإصلاحات الهيكلية، ولن نتوقف أيضا على المواصفات المفترضة في النخب السياسية، خطابا وممارسة، لكي تكون في مستوى تحقيق هذه التطلعات، ولن نتوقف أيضا عن تشخيص حساسية اللحظة التاريخية وما تتطلبه من السعي لتحقيق أعلى منسوب من الوفاق السياسي والاجتماعي لإنجاح مسار الإصلاحات التي انخرط فيها المغرب، فهذه القضايا باتت اليوم تشكل التحديات الأساسية المطروحة على كل النخب، ولذلك ما فتئت الخطابات الملكية الأخيرة تذكر بها وتستدعيها بكل قوة. ولكن سنتوقف على أس الأسس في مسار الإصلاح، والمرتبط بقضية التربية والتكوين، والتي أفرد لها الخطاب حيزا مهما حين دعا جلالة الملك محمد السادس إلى إعادة النظر في منظور ومضمون الإصلاح، وفي المقاربات المعتمدة، والانكباب على القضايا الجوهرية، وفي مقدمتها إشكالية لغات التدريس، واعتماد البرامج والمناهج الملائمة لمتطلبات التنمية وسوق الشغل، وإعطاء كامل العناية للتكوين المهني، وإتقان اللغات الأجنبية، لتأهيل الخريجين لمواكبة التقدم التقني، والانخراط في المهن الجديدة للمغرب. فلا يتصور اي إصلاح، بما في ذلك إصلاح النخب السياسية، بدون إعادة النظر في منظومة التربية والتكوين، وذلك من خلال تشخيص نقدي موضوعي يقف عند الأعطاب الأساسية، ويحدد المداخل والمقاربات الضرورية في الإصلاح. والحقيقة أن الخطاب الملكي كان في غاية الدقة حين تعرض لعائق الخلافات وحين تدخل الاعتبارات الإيديولوجية والسياسية ومنعها من الوصول إلى أي وفاقات استراتيجية بخصوص لغة التدريس وتدريس اللغات، إذ يتطلب الأمر عند دراسة وتشخيص هذه الإشكالية الانطلاق من المقتضيات الدستورية المحددة للخيارات اللغوية في هذا الباب، والتجرد من كل الضغوط، وكذا الاعتبارات الإيديولوجية والاستقراء العلمي الموضوعي لتجارب الدول المتقدمة، في تعاطيها مع اللغة الأم، ومع لغات الانفتاح، وعرض كل الخلاصات على طاولة الحوار ضمن الآلية التي يتيحها المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، والانتقال إلى إدارة حوار مجتمعي في الموضوع بغية التوصل إلى ميثاق جديد على غرار ميثاق التربية والتكوين. المنطلقات واضحة، فقد حدد الدستور الثوابت بكل وضوح، وجاء هذا الخطاب ليعطيها وضوحا أكبر حين ركز بجرعة زائدة على قضية الانتماء للوطن، والاعتزاز به، وما يتطلبه هذا الشعور من تجسيد يومي في كل لحظة، وفي العلم والتعامل، وفي الخطاب، والبيوت، وعند القيام بالمسؤوليات، وأيضا حينما أكد على أن الاعتزاز بالوطن لا يعني الانغلاق على الذات أو التعالي على الآخر، وإنما يعني الانفتاح والتفاعل الإيجابي مع مختلف الشعوب والحضارات. ليس هناك وصفة جاهزة لترجمة المقتضيات الدستورية التي تخص المسألة اللغوية، وفي المقابل، يصعب القفز على هذه الثوابت إلى خيارات قسرية تمليها ضغوط هنا أو هناك، فالدستور في فصله الخامس يعتبر اللغة العربية واللغة الأمازيغية اللغتين الرسميتين للبلاد، ويوكل إلى الدولة مهمة حماية اللغة العربية وتطويرها وتنمية استعمالها، وينيط بالقانون التنظيمي مهمة تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وكيفيات إدماجها في مجال التعليم وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، وينيط بالدولة مسؤولية إنتاج سياسة لغوية وثقافية وطنية منسجمة، وعلى ضرورة ضمان إتقان اللغات الأجنبية الأكثر تداولا في العالم باعتبارها وسائل للتواصل، والانخراط والتفاعل مع مجتمع المعرفة، والانفتاح على مختلف الثقافات، وعلى حضارة العصر. لكن، هذه المبادئ، لا تقدم الجواب عن الكيفيات ولا عن التفاصيل. نعم، لا جدال على أن مقتضى رسمية اللغة تقتضي أن تكون هي لغة التدريس، لكن، ثمة أسئلة كثيرة تطرح بخصوص اللغات الأخرى، وهل يقتضي اتقان اللغة الأجنبية أن يصير تدريسها قرينا للغة العربية في المستويات الأولى للتعليم وفي الحصص، وهل يبرر التفاعل مع مجتمع المعرفة والانفتاح على مختلف الثقافات أن تدرس المواد العلمية بلغة أخرى غير اللغة الرسمية؟ وما المعايير المعتمدة في تحديد اللغات الأكثر تداولا في العالم؟ هل هو المعيار العددي؟ أم المعيار العلمي البحثي؟ أم معيار الإرث التاريخي؟ أم معيار الموقع الجغرافي الذي يوجد عليه المغرب؟ الأجوبة عن هذه الأسئلة ليست سهلة، ولا يمكن للإيديولوجيا أن تحسمها لأن الإشكالات التي ترتبط بها جد دقيقة، والخطأ في الجواب عنها يعتبر مكلفا، ولذلك، فالتقدير أن التفكير في هذه الملف الشائك، يتطلب أن يكون المحدد العلمي حاسما في الاختيار، لأنه هو المحدد الوحيد الذي يملك أن يحدد الجواب عن سؤال تدريس العلوم بهذه اللغة أو تلك، وهو الوحيد الذي يستطيع أن يقدم جوابا عن سؤال أثر الازدواجية اللغوية في التدريس، كما يشكل المخرج المريح للنقاشات التي يمكن أن تثار حول لغة الانفتاح والتواصل، بحكم الخيارات الثلاث المطروحة أمام المغرب: الفرنسية، والإنجليزية والإسبانية. النقاش الجدي في هذه القضايا يحتاج قدرا كبيرا من الهدوء، والهدوء لا يوجد إلا على طاولة النقاش العلمي، الذي تحضر فيه البيداغوجيا، وعلم النفس، واللسانيات، والتاريخ، وعلم الاجتماع وغيرها من العلوم التي تملك أن تتحدث في هذا الموضوع، وتستعرض التجارب الدولية في الموضوع. لغة السياسة بتوزاناتها ورهانات بعض أطرافها، ولغة الإيديولوجيا، ولغة الضغط الدولي، ولغة التوافقات، كل هذه اللغات لا يمكن أن تنتج خيارا لغويا استراتيجيا، فقط الذي يمكن أن يسعفنا في حل الإشكالية، هو الانطلاق من قاعدة المقتضيات الدستورية وتحكيم المعيار العلمي الموضوعي في التفاصيل.