"وليد عمر ينضم إلى قافلة شهداء الحركة الأسيرة "* من وقت لآخر يداهم الحركة الأسيرة الفلسطينية هذا المشهد المأساوي الحزين..أسير يصل الفصل الأخير لسَفر شاق طويل مع الألم..تتضاعف آلامه..تصل مناشداته ومناشدات أهله كل الآفاق الإنسانية الرحيبة دون أن تصل أية أذن واعية..تنفجر صرخاته المكبوته واستغاثاته المقهورة..يطول به انتظار الطبيب أو الممرِّض المناوب..تشتدّ طرقات إخوانه على أبواب الزنازين..بعد ساعات طويلة لانفجار بركان الألم يشرِّف الممرض مع طاقم الأمن والقمع..يفتحون الباب ويسحبون المرض وهو يجرّ ذيول آلامه المخيفة..يطبق الصمت على السجن..ينزف القيد والحديد دموعه دون أية حركة لمشاعر من يأخذون شكل البشر..ساعات طويلة ثم يأتي الخبر..صاعقة تطرق أبواب القلوب بعنف..شهيد في عيادة السجن... هذا مشهد تكرّر كثيراً..ماذا يحدث هناك في تلك العيادة اللئيمة..كيف يمارسون القتل؟! كيف ختم الأسير المريض لحظات حياته الأخيرة مع زبانية العيادة؟! كيف قتلوه؟! لا نسأل: هل قتلوه أم..؟! هذا سؤال بات معروف الإجابة ولا يحتاج إلى دليل..الشواهد كثيرة وما زال هذا المشهد شاخصاً أبلجاً على مسرح معاناة الحركة الأسيرة..لم يجف بعد دم الشهيد وليد عمرو ..ما زال وهجه يخطف الأبصار..ما زالت ساحة المواجهة في سجن نفحه ملتهبة بكل عنفوان وضراوة ..ما زال القابضون على صرخات آلام الشهيد قبل وداعه الأخير يرفضون فتح قبضاتهم..ما زالوا يذكرون رائحة الموت البطيء والشهادة الحيّة بالبث المباشر لعبد القادر أبو الفحم ويحيى الناطور وعمر القاسم وحسين عبيدات ومعزوز دلال ورياض عدوان وعبد الصمد حريزات.. وهل يُنسى شبح الموت عندما يأتي على شكل إنسان يسير على قدمين ويُدعى طبيب السجن؟!. يصل الأطباء لكتابة تقرير الوفاة..وظيفة محترمة لروسيّ مرتزق يكتب ما يحلو لزبانية الموت.. إنسان يموت لا يعني لهم سوى أن عدد الأسرى قد نقص رقماً.. وقد يتم استخلاص العبر في البحث عن أخراج أفضل للفصل الأخير من مسرحية الموت التي لا يملّون من تكرار تمثيلها بكل ما أوتوا من حقد وأجرام.. وليد عمرو..شاب في مقتبل العمر عانى من أزمة صدريّة..عندما نقلوه إلى هذا المنفى البعيد _سجن نفحه_ ..طالب الأسرى بإرجاعه إلى سجن عسقلان لأن مثل هذه الحالات المرضيّة تحتاج إلى مشفى قريب..رفض ولا مبالاة وبلاده بلا حدود..منطق الأسرى قوي..ماذا لو احتاج إلى مشفى..الطريق تحتاج إلى أربع أو خمس ساعات..وإجراءات الهوس الأمني في عملية إجراء الولادة القيصرية من رحم السجن تحتاج الى المزيد من الوقت... عسقلان هناك مشفى (برزلاي) والنقل إليه عند الحالة الطارئة لا تحتاج إلى كل هذا الوقت.. إن مجرّد نقل هذه الحالة المرضية إلى سجن نفحة جريمة وتناقض مع كل الحقوق والمواثيق الدولية لحقوق الانسان..لقد كانت بكل تأكيد في حق وليد عمرو نوايا مبيَّته لجريمة القتل التي مورست معه بشكل فاضح ومكشوف..ثم نأتي للنظر في طبيعة الرعاية الصحية في هذا السجن البئيس..لا يتسنّى للمريض زيارة الطبيب إلا بعد أن ينتظر الدور الذي قد تنتهي أيام الأسبوع بطولها وعرضها دون أن يحظى بهذه الزيارة . على الممرّض الحاقد أن يقتنع أوّلاً بأن الحالة التي أمامه تحتاج إلى طبيب..يستنفذ محاولاته في تسكيت المريض المطالب بزيارة الطبيب..وفي حالة الإلحاح من قبل الذي تلح عليه آلام مرضه يتكرم الممرض بوضع إسمه على قائمة المرضى الطويلة..أصحاب الأمراض الخفيفة يكفيهم الله شرَّ العيادة قبل أن يأتيهم دورهم..أما أصحاب الأمراض المستعصية فلا مناص من مواجهة الطبيب الذي يتلازم دواؤه مع نظراته الحاقدة..الثقة معدومة من كثرة الممارسات التي خرّبت أكثر مما عمرّت. يجد المريض نفسه أمام طبيب لا يُرى في وجهه أثر الطب ولا يسمع منه سوى همهمات على طرف لسانه وكتابة تخرج شزراً وكأنها دماء الموت تجري في شرايين قلمه..ثم عليك أن تنتظر المساء حتى إذا جنّ الليل أنت وحظك في الدواء.. قد يقال لك أن الطبيب لم ير أنك بحاجة إلى دواء..(أو أن دواءك غير موجود..وصَّينا عليه..كم من الوقت؟! نهاية الشهر إن شاءوا صرفه..). وقد يأتيك "الأكمول" بصفار الموت الفاقع.. كيف سينفع الدواء في حالة التحطيم النفسيّ الذي يُمارس على الأسير قبل وصول حبة الدواء إلى فمه..كيف سينفع بعد كل طقوس الشعوذة التي يضطر الأسير لسبر أغوارها بكل شك وحذر؟! هم أنفسهم وعلى لسان "دالية إتيسك" عضوة حزب العمل الصهيوني تقول بأن شركات الأدوية تجرّب أدويتها في السجون الصهيونية..مختبر تجارب أعزكم الله..كيف يثق الأسير المريض بعد ذلك بدوائهم؟! ثم يعودون بعد ذلك للتنصل من الأدوية الشحيحة التي يقدمونها بالادعاء بأن الأسرى يجمعون الدواء لصناعة المتفجرات في السجون..أيبلغ الافتراء هذه الدرجة أم هو محاولة لرمي شُّحهم وتقصيرهم في ملعب الأسرى..يا له من ملف مفضوح..شيك بلا رصيد إلا ما بلغت به نفوسهم من الخبث والالتواء واللجاجة في كل دروب الباطل ما عرفناه منهم وما لم نعرفه بعد.. وعندما بلغت الأزمة أشدّها مع الشهيد وليد عمرو اضطر الأسرى للطرق على الأبواب حتى تسمع زبانية الموت في العيادة..ومع العلم أن الشرطة متواجدة في كل الأقسام ليل نهار ولا يحتاج استدعاء الممرض سوى اتصال سريع من الشرطي المناوب إن أرادوا ذلك..ولكنهم يريدون غير ذلك..يستمر الطرق عدة ساعات ووليد يتلظى في دوائر آلامه التي ضربت صدره وسدت عليه شرايين أنفاسه..الموت يزحف والأسرى يفجرون جبال الغضب المحشورة في صدورهم.. الصراخ والاستغاثات تشق عنان السماء ولا حياة لمن تنادي..ساعتان على هذا المنوال استطاعت أن تأتي بالممرض ميِّت المشاعر..ملاك رحمة جاء بقلب شيطان مريد..أخذ يسأل والعلكة تتمرّغ بين أسنانه بكل صلف ووقاحة..عاد أدراجه ثم جاء بعد نصف ساعة بحمالة الموت مع طاقم شرطي مجهّز بالهراوات والغاز..فتحوا الباب وساروا بالحمالة التي ألقوا عليها وليد بموكب جنائزيٍ صامت مريب.. ...ويستمر المشهد المعتاد ببثّ ظلال سوداء لعدة ساعات قاتلة.. القلوب تتقلب بين خيارات الموت المنتظر.. تعرف تماماً كيف سيسدل الستار وتسمع لحناً جنائزياً قد شهدته مراراً وتكراراً..العلاج في السجون الإسرائيلية ما هو إلا وصية سحريّة للموت البطيء على طريقة بني صهيون الخبيثة . *استشهد وليد عمرو (30) عاما، من بلدة دورا، جنوب الضفة الغربية، بتاريخ19-2-2003م في سجن نفحة الصهيوني بعد إهمال طبي منذ اعتقاله قبل سنة ونصف. بقلم الأسير المحرر وليد الهودلي رام الله-فلسطين