مع التمييز بين المآل السياسي والمآل الديني في مناقشته للخلاصات المنهجية لتمييز الديني عن السياسي، واعتبار الثاني ممارسة مدنية لا ممارسة "دينية"، يتطرق الدكتور سعد الدين العثماني، في الحقة 14 من كتابه "الدولة المدنية في ظل مقاصد الشريعة"، إلى الخلاصة المنهجية الثالثة و هي أن عموم العلماء والمنظرين المسلمين يميزون بين السياق السياسي والمآل السياسي للأمور من جهة، وبين الحكم عليها دينيا من جهة أخرى. ولذلك ذهبوا إلى "تفضيل" "الحكم الدنيوي" المراعي للعدل والحافظ للصالح العام على "الحكم الديني" المضيع لهما والعاجز عن الأخذ بقواعد السياسة الناجحة. ويقو العثماني بعد أن أورد شواهد من السنة ومن أقوال العلماء، إن هذه المعاني كانت هي التي جعلت العلماء يعتبرون العدل قيمة دنيوية كونية. فهي دنيوية لأن وسائل تحقيقها موكولة لإبداع الإنسان وفق سياقات زمنية ومكانية معينة، وهي كونية يشترك الناس جميعا في معرفته والقبول به. وهو ما جعل علماء الإسلام يؤكدون على أن كل ما هو سياسة عادلة وفق المحددات المنطقية والواقعية فالشريعة توجب الأخذ بها. وأكتفي في ذلك بقول الفقيه المالكي برهان الدين ابن فرحون (ت 799 ه): "والسياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشرع يحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم وتدفع كثيرا من المظالم، وتردع أهل الفساد ويتوصل بها إلى المقاصد الشرعية، فالشريعة توجب المصير إليها والاعتماد في إظهار الحق عليها". ذكر العثماني في الحلقة 15 من حلقات كتابه بأن المحور الأول من هذه الحلقات كيف أن ثنائية الديني والدنيوي (المصطلح عليها لدى بعض العلماء بالعبادي والعادي) مسألة مركزية في النظرة الإسلامية الشرعية لحركة المسلم فردا أو جماعة. ثم رأينا في محور ثان أصالة ثنائية المجالين الديني والسياسي – بالتبع لذلك – في النظرة الإسلامية، وأهمية التمييز بينهما مقصدا ومنهجا. وانتقل للحديث حن المحور الثالث في موضوع مستندات اعتبار الدولة المدنية في الإسلام، انطلاقا من المقدمات المذكورة. مذركر بأن الوعي بمبدأ التمييز بين الديني والسياسي يؤدي تلقائيا إلى تغير مهم في النظرة إلى طبيعة الممارسة السياسية، وطبيعة الدولة في الإسلام و وضعيات الحقوق والحريات في المجتمع المسلم. موضحا أن الدولة هي أعلى مستويات الانتظام السياسي، فيصدق عليها اعتبار المدنية بامتياز. وقال إن هذا ما سنفصله في محاور أولها كون نصوص الكتاب والسنة لم تحدد شكلا للنظام السياسي. و أكد العثماني أن النصوص الشرعية المرتبطة بالحكم والدولة وتدبير الشأن العام لا تتضمن إلا مبادئ عامة وموجهات يطلب من المسلمين أن يجتهدوا في إطارها، وأن يبدعوا أوفق السبل لتحقيقها. وذلك على الرغم من وجود تفاصيل كثيرة في تشريعات متصلة بالمجتمع من قبيل الأسرة مثلا. و أضاف أن المفهوم أن القرآن الكريم ترك تلك المساحة الواسعة دون تشريعات، تفويضا للمسلمين أن يجتهدوا فيها ويبتكروا. فهي مفوضة للجهد البشري، وهو ما يعني مدنية الممارسة السياسية ومدنية النظام السياسي الذي يشيده المسلمون. وقال الكاتب إن القرآن الكريم لم يورد أي تفاصيل عن كيفية قيام الدولة ولا عن طريقة تدبيرها، ولم يرد فيهما أي تفصيل لنظام حكم محدد المعالم. كما أن العلماء لم يتفقوا على أي شيء من قواعد "الخلافة" وتفاصيلها، لا عن كيفية اختيار الحاكم ومدة ولايته ومدى صلاحياته وكيفية محاسبته وكيفية عزله، ولا عن كيفية ممارسة "الشورى" وعن ضوابطها ومن أصحابها، وكيف يحسم الخلاف بين رئيس الدولة و"أهل الشورى"، ولا تدقيق فيما يخص السلطة القضائية ومن يتولاها، وغير ذلك من القضايا ذات الطبيعة الدستورية والسياسية. وسكوت الشارع فيها مطرد، مما يعني أنه مقصود، ينطبق عليه ما ورد في الحديث النبوي: "وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته"، ثم قرأ قوله تعالى "وما كان ربك نسيا". وبعد استشهاده بأقوال بعض العلماء قال إن أهم استخلاص يمكن أن ننتهي إليه هنا هو أنه ليس في الإسلام شكل محدد لبناء الدولة وممارستها وظائفها. وبالتالي فإن الحديث عن وجود "نظام سياسي في الإسلام" يجافي هذه الحقائق الواضحة. فالنظام السياسي يستلزم كيفيات تفصيلية في نظام الحكم، وهي غير موجودة. لكن يمكن أن نتحدث عن مبادئ موجهة وقواعد كلية ومقاصد عامة يطلب من المسلمين الالتزام بها في اجتماعهم السياسي، وهم يقتربون من المراد الشرعي على حسب درجة تحققهم بها. وفي الحلقة 16 ذكر العثماني بالمعايير الخمسة التي تجعل الدولة مدنية و هي تمثيلها إرادة المجتمع وكونها دولة قانون، وانطلاقها من نظام مدنى من العلاقات يقوم على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات، وقيامها على المواطنة بغض النظر عن دين الفرد أو عرقه أو سلطته، مع مساواة جميع المواطنين فيها، وأخيرا الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة. و أكد العثماني أن الإنسان يحتل مكانة مركزية في المنظور القرآني، فهو على اختلاف اللون والجنس والدين والموقع ينحدر من أصل واحد وينتمي لأسرة واحدة. و ختم العثماني هذه الحلقة بالقول "ليس المقصود هنا هو تفصيل المنظور الفقهي الإسلامي لأمور بناء الدولة وهيكلتها وتدبيرها، بل المقصود إثبات أن الأصول الإسلامية لا تتنافى في شيء مع مفهوم الدولة المدنية، بل تؤسس لها على مختلف المستويات".