إن من الدروس والعبر الأولية التي يمكن استخلاصها من الحرب العدوانية على العراق هي صدق الشعارات التي تعبر عنها الشعوب بحرارة تنبعث من القلوب. فالشعار الذي يعبر عن استعداد الشعوب للدفاع عن أوطانها وكرامتها، في مقابر مساومة الأنظمة، وبحثها عن مصلحتها قد تحقق على أرض العراق الصامدة. فشعب التحدي والصمود قد خرج عن بكرة أبيه منذ بداية الحرب للتصدي للعدوان الغاصب، وقد أذاق قوات التحالف الويلات حتى أصبحوا يشككون في ترسانتهم العسكرية وخبراتهم العلمية، فها هي "الأباتشي" تسقط من طرف فلاح ببندقية عمرها أكثر من 50 سنة، وهاهم الفلاحون وبعض رجال القبائل يقتادون الأسرى الأمريكيين المدربين المدججين بأفتك الأسلحة... وها هو جزء من الشعب العربي والإسلامي يتطوع من شتى بقاع الأرض للذوذ عن مهد الحضارات... وها هم الاستشهاديون يقدمون أرواحهم فداء لهذا البلد الغالي، مما زاد من حجم معاناة المغول الجدد، وأفقدهم صوابهم وبدأوا بقتل الصحفيين ومراجعة حساباتهم في آخر لحظة أمام هذا المعطى الجديد الذي لم يكونوا يتوقعونه. هكذا صارت الأحداث، وظن الجميع أن ظاهر هذه الأعمال هو جوهر الحرب وعين الحقيقة، ولكن النظام البعثي العراقي كان له حساب آخر. دفع الشعب للواجهة لتكون قدرته التفاوضية مع الأمريكان أكبر، أقام جبهات دفاعية من أبناء الشعب حول المدن، ليشعر الأمريكان أن بإمكانه إطالة الحرب، مما سيعمق خسارتهم العسكرية والبشرية. كلف الصحاف بخرجات تمثيلية إعلامية (العلوج أذقناهم مر العلقم محرقة جديدة...) ليبرهن أن النظام العراقي قادر على مجاراة الأمريكان في حربهم الإعلامية، بل التفوق عليهم (إظهار الأسرى على الشاشة ندوات صحفية يومية خروج صدام للشارع لملاقاة الشعب...)، ولكن سقط القناع، وبدأت تظهر معالم خيانة نظامية جديدة، تنضاف لمسلسل خيانات النظام البعثي العراقي في حق الشعب العراقي الباسل. يخرج الصحاف مرة أخرى ليعلن أنه في هذه الليلة الغراء، سيقوم العراقيون بعملية من نوع خاص لإجلاء القوات المتحالفة عن مطار صدام، فتساءل الأمريكان أنفسهم عن نوعية هذه العملية، ودخل الرعب في قلوب القادة الميدانيين. لم يكن يعلم إلا القليل من القادة العراقيين والأمريكيين والروس أن هذه العملية النوعية هي عملية فرار جماعية للنظام العراقي بعد مساومته للأمريكان. توجه العالم صوب أحداث المطار.. فتسلل زبانية النظام من الخلف، تفطن بعض القادة العسكريين فقصفوا "خطأ" القافلة الدبلوماسية الروسية، اجتمع بعد ذلك "بوش" و"بلير" لتهنئة بعضهم واتخاذ التدابير المستقبلية اللازمة، اختفى ذلك الوجه الصنديد الذي توعد العلوج بهزيمة نكراء... خرج الشعب العراقي المقهور لنهب كل ما تبقى من متاع النظام. سقط صنم صدام الكبير... وانتهى المشهد الثاني من مسرحية "الشعب يقاوم والنظام يساوم"، وإلى المشهد الثالث قريبا، في الشرق الأوسط... د. محمد نجيب بوليف