طقس حار من السبت إلى الاثنين وهبات رياح قوية مع تطاير الغبار الأحد بعدد من مناطق المغرب    كأس إفريقيا لكرة القدم للسيدات المغرب 2024.. لبؤات الأطلس في المجموعة الأولى مع الكونغو الديمقراطية والسنغال وزامبيا    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    صادرات الصناعة التقليدية تتجاوز 922 مليون درهم وأمريكا تزيح أوروبا من الصدارة    الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين        الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    وهبي: أزماتُ المحاماة تقوّي المهنة    خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    السجن المحلي بالقنيطرة ينفي تدوينات يدعي أصحابها انتشار الحشرات في صفوف السجناء    ابن يحيى تشارك في افتتاح أشغال المنتدى البرلماني السنوي الأول للمساواة والمناصفة    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    بوريطة: المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال        مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    فاطمة الزهراء العروسي تكشف ل"القناة" تفاصيل عودتها للتمثيل    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    الرابور مراد يصدر أغنية جديدة إختار تصويرها في أهم شوارع العرائش    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    تفكيك شبكة تزوير وثائق السيارات بتطوان    زَمَالَة مرتقبة مع رونالدو..النصر السعودي يستهدف نجماً مغربياً    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد براو الخبير الوطني والدولي في الحكامة: متابعة المفسدين يقتضي إخراج قانون "الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد"
نشر في التجديد يوم 13 - 06 - 2014

يُطالب محمد براو رئيس مركز الأبحاث والدراسات حول الحكامة والمحاسبة ومكافحة الفساد في هذا الحوار، بإخراج قانون "الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد" إلى الوجود، معتبرا أن الحكومة والبرلمان مقصرين في ذلك، باعتبار أنها هي التي ستعمل على متابعة المفسدين، قائلا نحن في المغرب وفي مجموعة من دول العالم الثالث ننتظر من المجلس الرقابي، أن يكشف عن الفاسدين ويقوم بمتابعتهم، وهذا لا نسمع به في بريطانيا ولا في غيرها.
ويوضح براو أن المجلس الأعلى للحسابات بدأ في تفعيل معادلة ذهبية في المنظور العالمي للرقابة، وهي الاشتغال في مثلث أسماه بمثلث الرقابة والمحاسبة، فيه الحكومة والبرلمان وجهاز الرقابة الذين يعملون بشكل تفاعلي، مضيفا أن هذه المعادلة الثلاثية، لا يمكنها أن تكتمل إذا اقتصرت على صبغتها الرسمية فقط، ففي قلب المثلث هناك ما يسمى بالجمهور، قائلا وهكذا تكون عندنا منظومة مراقبة ديمقراطية على الحكامة.
ويرى براو أن هناك من يرفض حتى وجود المجلس الأعلى للحسابات بحد ذاته، موضحا أن للمجلس عدوين الأول يعتبر أن المجلس تجاوز حدود اختصاصاته، والثاني يريد إدخال المجلس في ما لا يجب أن يتدخل فيه، معلل ذلك بأنه أصبح يفرض نفسه كسلطة إلى جانب السلط الثلاث، مضيفا أن الممارسات المتقدمة لا يكتفي فيها جهاز الرقابة بإصدار تقارير تهم التدبير الإداري والمالي للمرافق، وإنما تقارير جديدة في شكلها ومنهجيتها وفلسفة وجودها، تهم موضوعات بالنسبة للدولة والمجتمع.
*صدر تقرير المجلس الأعلى للحسابات السنوي، وتقرير آخر حول "المقاصة"، وقبل ذلك حول التقاعد، وهناك حديث عن اشتغال المجلس بإخراج تقارير عن "الجبايات المحلية للجماعات الترابية"، وعن "التدبير المفوض"... ما تعليقكم على هذه الأعمال؟
**في ما يتعلق بسؤالكم فهو يطرح محور مخرجات المجلس الأعلى للحسابات وتصنيفها. والوجه الجديد لهذه المخرجات بعد دستور 2011. ففيما يتعلق بتصنيف مخرجات المجلس الأعلى للحسابات، فهذه المخرجات تتمثل في التقارير بمختلف أنواعها، والقرارات والأحكام القضائية، والمذكرات الاستعجالية، التي يبعث بها إلى الأجهزة والإدارات الحكومية، فيما يتعلق بالقضايا التي تكتسي طابعا أفقيا فيما يخص نوعية المشكلات في تدبير المرافق العمومية والمالية العمومية، على سبيل المثال "ظاهرة تركيم أجر جديد مع معاش التقاعد"، سبق للمجلس أن أصدر بشأنها مذكرة استعجالية.
وإذا لاحظتم معي فإذا قمنا بتصنيف التقارير، فهذه التقارير المنشورة تهم الاختصاصات الرقابية الإدارية أي التي لا تكتسي طابعا قضائيا، وهي عدة أنواع فهناك التقرير السنوي والذي يعتبر النتاج النهائي بما هو وثيقة لتقديم الحساب للملك والرأي العام عن كيفيات تدبير المال العام، وكذا عن كيفية أداء المجلس لمهامه، ولذلك تجده يتضمن ملخصات لثلاثة تقارير نوعية وهي التقرير العام حول مطابقة الحسابات، والتقرير حول نتائج تنفيذ القانون المالي، والتقرير حول مالية الأحزاب ذات المصدر العمومي؛ فضلا عن الملخصات التقليدية المبتسرة للتقارير الرقابية الخاصة حول المرافق العمومية، والجماعات المحلية، وأخيرا التقارير الجديدة الموضوعاتية حول "التقاعد" و"المقاصة"، هذا كله يتعلق بالاختصاصات الإدارية للمجلس.
أما من جانب الاختصاصات القضائية، فهناك القرارات والأحكام التي هي بمثابة المخرجات التي تهم الاختصاصات الرقابية القضائية. فبالنسبة للتقارير وهو ما جاء في السؤال فدورها الأساسي ليس هو الردع والعقاب، بل هو تحسين الحكامة، وذلك من خلال كشف أوجه الخلل والاختلال في تدبير المرافق العمومية، والقيام بإسداء النصح إلى المرافق العمومية، من أجل استدماج بعض الإجراءات التصحيحية، والسياسات الإدارية، والمالية التصويبية، كل ذلك من أجل النهوض بالمرفق وبالمال العاميين، وإشراك الرأي العام والبرلمان في تتبع توصيات هذه التقارير من خلال النشر الواسع لها، ويصدر ملخص لها في التقرير السنوي، الذي يعد بمثابة تقرير عام يستجمع أهم الملاحظات التي تم انتقاؤها من التقارير الخاصة، فهو لا ينشر جميع التقارير الخاصة. وليس مطلوبا منه ذلك. كما لا يسوغ أن يتضمن تصريحا أو تلميحا اتهامات شخصية.
*وما الذي يميز عمل المجلس بعد دستور 2011؟
**هناك مستجدات جوهرية، وذلك من ناحيتين؛ الأولى إعداد ونشر التقارير الموضوعاتية، والثانية إلقاء عرض للتقرير السنوي أمام البرلمان، وهذه وثبة كبرى للأمام، ويعكس نوعا من الإبداع المحسوب للمجلس من أجل التساوق مع التجارب الدولية النموذجية في الرقابة العليا على المال العام، فقد أصبح المجلس في مصاف الأجهزة العليا للرقابة، كالأجهزة الانكلوسكسونية المتقدمة الأمريكية والبريطانية والكندية، لأن التجربة الفرنسية مازالت مبتدئة في هذا المجال، وهذه الممارسات المتقدمة لا يكتفي فيها جهاز الرقابة بإصدار تقارير تهم التدبير الإداري والمالي للمرافق، وإنما تقارير جديدة في شكلها ومنهجيتها وفلسفة وجودها، تهم موضوعات بالنسبة للدولة والمجتمع. على سبيل المثال فالعجز في ميزان الرعاية الاجتماعية الذي تعيشه الولايات المتحدة الأمريكية، والذي وصل أوجه في عهد الرئيس أوباما، كان معروفا في عهد بوش الابن، هل يعلم الرأي العام أن الجهة التي بادرت بتسليط الضوء الإنذاري عليه هو الجهاز الأعلى للرقابة المالية والمحاسبة الأمريكي، الذي حذر بأن الولايات المتحدة مقبلة على عجز في ميزان الرعاية الاجتماعية، وبالتالي فالأجهزة الرقابية العليا في العالم أصبحت تهتم بهذه القضايا الحيوية في الدولة والمجتمع.
فإذن التطور الذي وقع على دور المجلس الأعلى هو أنه أصبح يهتم بهذه القضايا الحيوية في الدولة والمجتمع، حيث يقوم إلى جانب الدور الرقابي التقليدي بالدور الاستشاري الموسع وذي المنظور الاستشرافي المفتوح على المستقبل، وقد كان هذا المنظور في القانون القديم غائبا، ولم يتم تفعيل حتى الاختصاصات الاستشارية على محدوديتها إلا نادرا وبطريقة عقيمة، أما الآن فالدستور الجديد حدده في القضايا الأساسية التي تهم البرلمان والمجتمع، وهي جميع القضايا ذات العلاقة بالتقييم أي تقييم السياسات والبرامج والمشاريع العمومية، وهذا هو الدور المركزي الآن على مستوى الممارسات الفضلى للرقابة والمحاسبة في العالم، وتفعيل الدور الاستشاري وتوسيعه وتنسيقه مع البرلمان والحكومة هو الكفيل بتفعيل منظومة المراقبة الديمقراطية على الحكامة، وهكذا يكون المجلس الأعلى للحسابات قد وضع قدميه بثبات فوق عتبة العصر الجديد للرقابة المالية ذات الأفق العالمي.
المجلس الأعلى للحسابات -وأقولها بدون الخشية من الوقوع في الخطأ- ولا سيما بعد العرض المقدم مؤخرا من رئيسه الأول أمام البرلمان والمناقشة المنتظرة لمضامينه من البرلمانيين الذين توجد الكرة الآن في ملعبهم جنبا إلى جنب مع الحكومة التي سبق لها على لسان الناطق باسمها أن تعهدت بدراسة وتفعيل توصيات المجلس، انخرط بنجاح ملحوظ في تفعيل الثلاثية الذهبية المنصوص عليها في دستور 2011 (الفصل 147)، ألا وهي حماية وتدعيم الحكامة الرشيدة، والشفافية والمحاسبة بالنسبة للدولة والأجهزة العمومية، وبنشره الواسع لأعماله الرقابية ودراساته التقييمية الجديدة يكون قد ساهم بشكل لافت في إنماء الوعي المؤسساتي من جهة، وكذا الوعي المواطن بموضوعة المالية العامة وحسن تدبير الشأن العام والمال العام. نحن فعلا أمام عهد جديد ورؤية جديدة فيما يتعلق بمنظومة الرقابة والمحاسبة في بلادنا. هذه حقيقة قاطعة وماثلة أمام عيوننا. وستساهم في إدراك الدور الحقيقي والاستراتيجي للمجلس الأعلى باعتباره آلية مساعدة وتدعيم للحكامة الديمقراطية الرشيدة ينشط ويتفاعل مع البرلمان والحكومة والرأي العام، أكثر منه هيئة تفتيشية ينتظر منها الجميع إحالة أعمالها على القضاء، فهذا خطأ شائع سيتم تصحيحه في المستقبل.
*ما موقع العقاب والردع من دور المجلس، خصوصا أنه يقف على جرائم مالية وأخرى موصوفة، وهو ما يثير استغراب المجتمع، الذي يسأل عن من المسؤول؟
**هذا السؤال جوهري وجدالي يطرح إشكالية فهم طبيعة هوية المجلس واختصاصاته والمنتظر منه، فهوية المجلس بالدرجة الأولى أنه جهاز رقابة على المال العام، وليس جهاز كشف المخالفات ومتابعة الفاسدين، فهذا الدور هو الذي يجب أن تقوم به "الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد"، التي ما فتئت أنادي بتفعيل مسار إخراج قانونها إلى الوجود، فإذا لم تخرج هذه الهيئة إلى الوجود فسنبقى نخلط بين أدوار المؤسسات، وبالتالي ندفن المجلس الأعلى والهيئة القادمة.
فالذي يجب أن يقوم بمتابعة المفسدين هو جهاز مكافحة الفساد، بينما المجلس الأعلى هو جهاز أعلى للرقابة، ونحن في المغرب وفي مجموعة من دول العالم الثالث ننتظر من المجلس الرقابي، أن يكشف عن الفاسدين ويقوم بمتابعتهم، وهذا لا نسمع به في بريطانيا ولا في غيرها، بأن الجهاز الرقابي كشف عن فاسد، فهناك أجهزة مكافحة الفساد والقضاء الجنائي، من جهة، وهناك أجهزة الرقابة، من جهة أخرى، وهذا لا يعني أن المجلس ليس له دور في تدعيم مكافحة الفساد، فهو يدعم ذلك من خلال الكشف عن الاختلالات، والتي ليست أساسا جرائم، ولكنها اختلالات لا تقل خطورة عن الجرائم والمخالفات.
فالاختلالات هي البيئة التي يعشش فيها الفساد وأفعال الفاسدين، وفي نهاية المطاف لا نعرف إلا الجرائم والمخالفات المعلن عنها، لكن ماذا عن الجرائم والمخالفات التي لم يستطع المجلس الكشف عنها؟ وماذا عن الجرائم والمخالفات التي تمثل انتصار صناعة الغش والفساد على صناعة الرقابة؟ فدور المجلس الأعلى أنه يذهب إلى عين المكان ويقوم بعملية فحص وافتحاص، فهو لا يقوم بعملية تفتيش، وهذا هو الخلط لأن التفتيش هو جزء بسيط من عمله، فدوره هو الرقابة الافتحاصية التدقيقية ثم الرقابة التقييمية، التي لا تكتفي بالبحث عن أوجه الاختلال في الأجهزة العمومية، بل يبحث عن كيفية تتبع المسار الذي يسير فيه أصحاب القرار فيما يتعلق بتدبير الشأن العام، والسياسات العمومية، والمشاريع العمومية وإلى أين نسير؟ وإلى أين نتجه؟ وما هو المآل؟ وليس من قام بكذا؟ ومن سرق كذا؟
وقد يبدو في بعض الأحيان أن بعض المعاملات المالية مشروعة من ناحية الظاهر، ولكن قد تنطوي على اختلال بنيوي يؤدي إلى تبذير المال العام أكثر من الجريمة الشخصية، وبالتالي فدور المجلس هو إقامة التوازن ما بين دوره الرقابي الافتحاصي، ثم دوره الردعي من خلال الغرامات المالية، فهناك في المجلس محكمة تأديبية مالية تغرم وتتابع، وهناك أحكام كلاسيكية تصدر ضد المحاسبين العموميين، وللمجلس الحق في طلب إرجاع (وليس استرداد كما هو شائع)، الأموال المطابقة للخسارة التي تكبدها المرفق العام، وقد سبق للمجلس الجهوي للحسابات أن وضع هذا الإرجاع موضع التطبيق في قضية مسؤول سابق معروف، والتي تابعها الرأي العام المراكشي، ولكن المشكل هو في التواصل والإعلام، وربما يتم الكشف للرأي العام عن هذه الأمور مع تعديل القانون لينسجم مع المقتضى الدستوري الذي يلزم المجلس بنشر مقرراته القضائية (الفصل 148)، هذا كان عن المخالفات التدبيرية، أما المخالفات التي تنطوي على طابع جنائي مشكوك في وجوده، فهي تحال على القضاء الجنائي، إلى وزير العدل باعتباره إلى اليوم رئيسا للنيابة العامة، وهو دائما يعبر عن استعداده لمعالجة جميع الملفات التي تحال عليه من طرف المجلس، وختاما لهذه النقطة فالمجلس لا ينتظر منه كشف الفاسدين وسوقهم إلى العدالة كأولوية، وإنما أولويته الكشف عن الاختلالات واقتراح التصويبات، والاهتمام بالبرامج العمومية، واقتراح إصلاحات، وهذه الاختلالات التدبيرية هي البيئة الحاضنة لتبذير أو تبديد حجم هائل من المال العام، أكثر من المال العام الذي قد يختلسه فرد أو مجموعة من الأفراد.
*عند صدور تقرير من تقارير المجلس يبدأ البعض في تبادل الاتهامات حول مضامينه ويذهب البعض إلى حد التشكيك في قضاياه، فإلى ماذا يُرد ذلك؟
**هذا المشكل يطرح مسألة ثقافة التعامل مع المؤسسات العليا للرقابة والمحاسبة. ففكرة الجهاز الرقابي القوي مازالت جديدة عندنا، ولاسيما الدور الاستشاري والتقارير السنوية المنشورة، فهو لم يبدأ إلا قبل 5 أو 6 سنوات، وبالتالي هناك نوع من الصعوبة في التأقلم مع هذا المستجد الكبير المتمثل في دخول المجلس الأعلى كسلطة رقابية قضائية من جهة ولكن أيضا كسلطة مضادة، على غرار مؤسسات الحكامة، فالمجلس في حد ذاته أصبح في موضع اتهام وتساؤلات وشكوك، لماذا؟ لأنه أصبح يفرض نفسه كسلطة إلى جانب السلط الثلاث، وبالتالي يجب أن يتم التعامل معه كسلطة رقابية، لا كسلطة قضائية، لأن هذه الأخيرة معروف طبيعة دورها وفلسفة اختصاصها ولها مجلسها الأعلى ولها قضاتها، فهو سلطة رقابية رغم أن أفراد المجلس يمتلكون الصفة القضائية، وبعض جوانب عملهم يكتسي طابعا قضائيا من حيث المساطر. لكنه لا يوفر العدالة.
وبالرجوع إلى إشكالية الثقافة السياسية في التعامل مع الرقابة العليا على المال العام، فهناك من يحس بنوع من المزاحمة ومن الإحراج من وجود فاعل يكشف الاختلالات، والنقطة الثانية أن المجلس الأعلى للحسابات نفسه مقصر إلى حد ما فيما يتعلق بالتعريف بدوره وخصوصية رسالته، فإذن نحن حديثو عهد بدخول قوي لجهاز الرقابة في عملية تدبير الشأن العام، ثم ثالثا التوجه الجديد نحو تقييم السياسات والبرامج العمومية، وهذه الأخيرة تكتسي طابعا سياسيا شئنا أم أبينا، وبالتالي فلا يمكن لتلك التقارير الموضوعاتية إلا أن تكون موضوعا لجدل سياسي، ولا يمكن لملاحظات واقتراحات المجلس إلا أن تكون موضوعا للمناقشة والتحفيز على ردود الأفعال السياسية ، ودور المجلس هنا هو التوضيح وعقلنة الفعل السياسي وترشيد النقاش السياسي، مع والحرص بأن تكون خلاصاته غير قاطعة في اتجاه واحد، وأن تكون عبارة عن سيناريوهات تترك للفاعل السياسي شرف مسؤولية اتخاذ القرار.
*قلت إن المجلس مقصر في التعريف بدوره، ولاحظنا أن المجلس سمح لبعض قضاته بالحضور في الإعلام، فهل يدل ذلك على انتهاجه لسياسة إعلامية جديدة؟
**عندما تحدثت عن التقصير فقد تحدثت عن السنوات السابقة، لكن في سنة 2013 ولاسيما في سنة 2014 المجلس الأعلى بقيادته الجديدة أصبحت يتجه نحو فتح المجال لأعضاء المجلس الأعلى للحسابات وقضاته من أجل التعريف بالمجلس، ولاحظنا مشاركة مجموعة من القضاة في حلقات إذاعية وبرامج تليفزيونية، وأيضا إصدار بلاغات حول جميع أنشطته، وأصبح البرلمان والحكومة يستقبلان بارتياح هذا الانفتاح على الإعلام والمواطنين ومحيطه المؤسساتي، إذن لا حظنا مجلسا منفتحا ومتصالحا مع محيطه وشركائه في العملية الرقابية، ويجب أن نعلم أن المجلس لا يمكنه القيام بدوره الكامل إذا أغفل التواصل الإعلامي والتفاعل المؤسساتي؟
*لماذا؟
**لأن دوره حساس ويثير عليه مجموعة من الإشكالات، بعضها بريء ومشروع، وبعضها لا يتسم بالمنطقية، لأن هناك من يرفض حتى وجود المجلس ذاته، وإذا لاحظنا فإن للمجلس عدوين الأول يعتبر أن المجلس تجاوز حدود اختصاصاته، وهذا التوجه يحاول تقليم أظافر المجلس، ولا يحب أن يفعل اختصاصاته الدستورية، ويريد تجميد اختصاصاته الدستورية الجديدة، التي جعلته يساهم كسلطة رقابية ومضادة للسلطات الأخرى، وككاشف لصحة الجسم الاقتصادي والإداري والمالي، وكفاعل في تطوير الحكامة، لأنه لا حكامة بدون رقابة فنية مهنية على المال والشأن العاميين، ولا مكافحة للفساد بدون دور أساسي داعم ومساعد في جهاز الرقابة في مكافحة الفساد، في انتظار إخراج قانون "الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد"، فالحكومة والبرلمان مقصران في عملية إخراج قانونها، وآنذاك كل جهة تقوم بدورها ويكون هناك تكامل وآليات للتنسيق.
أما العدو الثاني فهو من يريد إدخال المجلس في ما لا يجب أن يتدخل فيه، وهذا سيف ذو حدين، فالمجلس الأعلى يجب أن يلتزم بميزان دقيق، بأن يلزم حدود اختصاصاته، وفي نفس الوقت أن يفعل جانب اختصاصاته الدستورية، ولاسيما الجديدة منها التي لم تفعل بخصوص إخراج القرارات والأحكام القضائية ونشرها، ونشر التقارير الخاصة الرقابية، وليس التقارير الموضوعاتية فقط، ثم مساعدة القضاء.
*هناك من يتهم المجلس بالانتقائية في الافتحاص، فكيف يتجاوز ذلك؟
**هذه القضية جدالية ويجب أن يتم تنوير المتلقي بشأنها، لأن فيها جانبا من الصحة وجانبا من الخطأ، وبالتالي فهي نقطة تحتاج إلى توضيح، ويجب إدراك أن جهاز الرقابة جهاز مستقل، ومن معايير الاستقلال هو استقلاله في وضع برنامجه السنوي الرقابي، والجانب الثاني في الانتقاء هو أن المجلس كان ينشر فقط التقارير وهذا انتقاء في جانبين؛ انتقاء في المهمات الرقابية، وانتقاء في نشر التقارير الرقابية. فعلى مستوى المهمات الرقابية لا يمكن للمجلس أن يراقب الأجهزة دفعة واحدة، لأن هناك مشكل متعلق بالموارد، فقبل الحديث عن الانتقاء في المهمات الرقابية فيجب أن نعرف هل للمجلس موارد كافية لكي لا يقوم بالانتقاء؟ وهذا غير ممكن فجميع الأجهزة الرقابية في العالم بما فيها التي تتوفر على جيش عرمرم من المراقبين، مثل جهاز الرقابة الأمريكي أو البريطاني أو الصيني فهي تقوم كذلك بعملية الانتقاء.
فليست هناك رقابة شاملة ومنهجية لجميع المرافق العمومية وفي وقت واحد، وبالتالي لابد من الانتقاء والجدولة المرحلية والزمنية، وثانيا يجب معرفة معايير الانتقاء، وهنا على المجلس القيام بدوره في التحسيس بمعاييره الانتقائية، بدون أن يكون مطالبا بتبرير عملية الانتقاء، فهو يفسر فقط، ثالثا على المجلس أن يحاول في معايير الانتقاء أن يراعي المعايير الجغرافية، ومعايير الحجم، ومعايير المخاطر المالية، ثم يكون هناك نوع من التوزيع العادل على التراب الوطني وعلى المؤسسات، وإذا لاحظنا في السنتين الأخيرتين فسنرى أن المجلس أصبح يمس جميع المؤسسات التي كانت هناك انتقادات بشأن عدم التقرب منها كصندوق الإيداع والتدبير كأكبر مؤسسة مالية، ثم إن المجلس يتواجد حاليا في وزارة تعتبر سيادية، وبالتالي فالمجلس ينصت للانتقادات. ولاحظنا محاولات لتعميم الرقابة خصوصا على الجماعات المحلية النائية التي لم تكن قد عرفت في حياتها شيئا اسمه الرقابة.
*ما دور المجتمع وفعالياته في المساهمة في تفعيل تقارير المجلس باعتبار الفساد أو الصلاح يمسه أساسا؟
**أركز دائما على هذه النقطة المهمة التي أثرتها في سؤالك، فلا يمكن أن ننتظر من المجلس الأعلى للحسابات أن يقوم بحملة دونكيشوطية ويحارب طواحين الهواء لوحده، فهذا غير ممكن وغير معقول. وهناك مع الأسف من يحاول أن ينفخ في المجلس الأعلى للحسابات، وذلك النفخ قد يكون وبالا عليه. وهناك تجارب انتهت ببعض الأجهزة الرقابية إلى تحجيم دورها، ومنها جهاز الرقابة الجزائري الذي تم استخدامه لكشف فضيحة مشهورة سنة 1990 ثم تم إدخاله في متاهات، انتهت به إلى تقليم أظافره فأصبح اليوم جهازا محدود التأثير، لا يكاد يقارن مع جهاز الرقابة المغربي الذي يتجاوزه بعشرات الأشواط، وأيضا جهاز الرقابة السينغالي ففي العهد السابق قُلمت أظافره، ويحاولون حاليا رد الاختصاصات إليه.
وفي المنظور العالمي للرقابة هناك معادلة ذهبية، بدأ المجلس الأعلى للحسابات في تفعيلها وهي الاشتغال في مثلث نسميه مثلث الرقابة والمحاسبة، فيه الحكومة والبرلمان وجهاز الرقابة الذين يعملون بشكل تفاعلي. فالحكومة تدبر الشأن العام، وجهاز الرقابة يقوم بافتحاص المرافق وتقييم السياسات العمومية، فيقوم بنشر تقارير يحيلها على البرلمان الذي يعد بدوره جهاز رقابة يستفيد من دعم المجلس الأعلى خصوصا على مستوى التقارير الموضوعاتية الداعمة له في وظيفتيه الرقابية والتقييمية، ومن هنا جاء تقرير المجلس حول "التقاعد" ثم تقرير "المقاصة".
وهكذا تتحرك المعادلة الثلاثية، لكن هذه الأخيرة لا يمكنها أن تكتمل إذا اقتصرت على صبغتها الرسمية فقط، ففي قلب المثلث هناك ما يسمى الجمهور ممثلا بالمجتمع المدني، والإعلام والمنظمات غير الحكومية والمواطنين بمبادراتهم الفردية وتحركاتهم الطوعية، فجميع هؤلاء الفاعلون الثلاثة الذين يوجدون في قلب المثلث، يجب أن يتحركوا ويتفاعلوا في سياق الديمقراطية التشاركية جنبا إلى جنب مع الديمقراطية التمثيلية. وبالتالي يمكن الحديث هنا عن المراقبة المواطنة على المال العام، وهنا دور المجلس أن يزود تلك المراقبة المواطنة بالمعلومات الصحيحة وبالأرقام الدقيقة حتى لا تكون تلك المراقبة ديماغوجية أو تستغل سياسيا.
وهكذا تكون عندنا منظومة مراقبة ديمقراطية على الحكامة، يلعب فيها المجلس الأعلى دور ضابط الإيقاع؛ بمعنى أنه يعقلن ويرشد النقاش العمومي لكي لا يكون مغرضا، وكمثال على ذلك، إذا لاحظتم معي التقرير الأخير حول "المقاصة"، فتقرير المجلس بهذا الخصوص كان متوازنا، حيث قال إن الإجراءات التي قامت بها الحكومة على مستوى نظام المقايسة حدّت من استفحال الكارثة المالية بشكل ملموس، ولكنه قال كذلك إن ذلك ليس كافيا فالحكومة يجب أن تقوم بإصلاح عميق وهو ما تعهدت به. وهكذا تلاحظون أن المجلس يعطي لكل ذي حق حقه فهو يقول للمسيء أسأت ويقول أيضا للمحسن أحسنت، فيزداد مصداقية واحتراما لدى الجميع هذه المصداقية التي تعتبر بمثابة الدرع المنيع الذي يقيه من ضربات أصحاب النفوذ من ذوي اللسان الطويل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.