لقد كشف التقرير الذي أنجزته اللجنة البرلمانية المنبثقة عن لجنة التعليم والثقافة والاتصال بمجلس النواب، في إطار المهمة الاستطلاعية المؤقتة لقنوات من قطب الإعلام العمومي منذ نهاية شهر يناير 2014، عن اختلالات تدبيرية ومالية فاضحة يمكن لواحدة منها أن تعصف برؤوس وليس برأس، وتقيم الدنيا ولا تقعدها لدى الساسة والرأي العام، لو كنا في دولة لا تندرج ضمن "العالم الثالث" حتى لا يقال شيء آخر. وهي المهمة الأولى من نوعها التي قررها مجلس النواب منذ 27 يونيو 2012 وانطلقت في أشغالها في شهر غشت من نفس السنة. وبنوع من التكثيف فقد وقفت اللجنة البرلمانية على جملة من الاختلالات، أفدحُها، استحواذ شركات إنتاج محدودة ومحظوظة على نصف البرامج والصفقات المتعلقة بالإنتاج الخارجي، بل إن إحدى الشركات بقناة العيون لا تستحوذ على الإنتاج فقط، بل تتعداه لتدبير ملفات النظافة والحراسة، ولم يبق لها إلا أن تكمل جميل صنعها وتدبر ملف تطبيب العاملين بالقناة كما علق أحد البرلمانيين المصباحيين متهكما. ومن الاختلالات التي كشف عنها التقرير كذلك، خضوع الترقي وتولي المناصب العليا داخل القنوات لمنطق الولاء والقرب من المسؤولين، وأيضا وجود غموض كبير يكتنف موضوع التوظيف، فضلا عن ما سجلته اللجنة من غياب لمواثيق ومجالس التحرير بالقنوات موضوع الاستطلاع، مع ما لوحظ من مركزية مبالغ فيها للقرار خاصة على مستوى الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، فضلا عن محدودية فاعلية المجالس الإدارية لمختلف الشركات بالإضافة إلى ضعف وسائل المراقبة والافتحاص الداخلي. وينضاف ما تم الوقوف عليه التمييز الحاصل بين العاملين في القسم الفرنسي عن زملائهم في القسم العربي خاصة بمديرية الأخبار بالقناة الثانية وزد عليه الانتقائية على قاعدة الولاء للمسؤول التي تعتمد في التعويضات وفي بعث الصحفيين والعاملين للتغطيات خارج أرض الوطن كما بداخله، وغيرها من التجاوزات كثير. بل أكثر من ذلك إن مديرا القناة الثانية "دوزيم" و قناة العيون الجهوية وهما مؤسستان عموميتان "زعما"، رفضا في تحد سافر للسلطة الرقابية والنيابية لممثلي الشعب إمداد اللجنة البرلمانية بلائحة تضم أسماء شركات الإنتاج الخارجي التي تعاملوا معها قبل وصول اللجنة وأيضاً البرامج التي أنتجوها والتكلفة المادية لكل منهما، أما عن موضوع الحق في الوصول والحصول على المعلومة من طرف المواطنين، "فحتى يحصلوا عليها السادة نواب الشعب أصحاب الحصانة ويدير الله لخير" فمن يمتلك الجرأة اليوم ليفسر للعالم هذه الظاهرة الشاذة والغريبة، ولعل جزء من هذه الاختلالات يجد جوابه فيما كشفته رئيسة لجنة التعليم والثقافة والاتصال بمجلس النواب من أن اللجنة تعرضت لضغوط شتى منها المكالمات الهاتفية والعراقيل واتهام أعضاء اللجنة بالصحافة حد الخيانة منذ أن أعلن عنها حتى لا تنجز هذه المهمة. على الرغم من كل هذه الكبائر التدبيرية لم نسمع بمسؤول تم إعفاؤه من منصبه أو خفضت رتبته أو اقتطع من راتبه أو أحيل على التقاعد حفظا لماء وجهه، أو تم تصديره للمغرب "غير النافع" عقابا لهما معا...، لا شيء من كل ذلك حصل، أما أن نسمع بواحد منهم قدم استقالته أو لزم داره بسبب أزمة نفسية ناتجة عن ما كشف عنه التقرير من اختلالات، فيبدو أن نجوم السماء أقرب لنا من ذلك. بل إن كل المدراء المعنيين لم يتواروا عن الأنظار ولو لمدة معينة بل حضروا "بوجههم حمر" لمناقشة التقرير بالبرلمان واعتلوا الواجهة وكذلك كانوا في قنواتهم العمومية وفي منابر صحفية مختلفة. يحدث ذلك على الرغم من كون دستور فاتح يوليوز 2011 ينص في فصله الأول من الباب الأول عن ضرورة إعمال مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، حيث قال، "...وعلى مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة"، وهو الأمر الذي أكده وكرره الدستور في الفصل 154 من الباب الثاني عشر حيث قال "تخضع المرافق العمومية لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية، وتخضع في تسييرها للمبادئ والقيم الديمقراطية التي أقرها الدستور". نعم إن للمقاربة القانونية أهمية بالغة في معالجة الاختلالات لا يمكن إغفالها، لكن هذه المقاربة غير كافية لوحدها، وإلا ستبقى كمن يعتني في رياضة كمال الأجسام بعضلات رجل دون أخرى مما سيجعل المشي مضطرب في كل الأحوال، فكيف إذا أراد صاحبها الإسراع أو الجري أو القيام بقفزة نوعية، ويضاف بهذا الصدد أن حكومة التناوب سبقت لرفع شعار تغير القوانين لا الأشخاص فماذا كانت النتيجة؟ وهو ما يؤكد الحاجة الماسة للرجل المناسب في المكان المناسب وتفعيل المبدأ الدستوري ربط المسؤولية بالمحاسبة، بدل تكريس منطق ربط المسؤولية ب"المسامحة"، فلا غنى لأي مقاربة على الأخرى ما أريد إصلاح هذه المؤسسات من الداخل. وحتى إن حاول المرء استيعاب منطق "المسامحة" هذا، ربما من باب "لي غلب يعف" أو العفو عند المقدرة، فإنا سؤالا يقفز للذهن حول هذه المقدرة نفسها، حول من له حق ممارسة هذا العفو أو تلك "المسامحة"، خاصة عندما يتعلق الأمر ببناء دولة المؤسسات وبحقوق الناس ودافعي الضرائب الذين يجمعهم بالمسؤولين وثيقة تعاقد اسمها الدستور وبرنامج حكومي نال ثقة نواب الأمة وكلاهما لم يتحدثا عن "المسامحة" بل عن المحاسبة. هناك مؤشرات عدة للتدليل على أن بلدا ما سائر بقناعة وبشكل جدي في طريق الانتقال الديمقراطي وهو ما يعني أنه كان وما يزال في واقع له عنوان آخر غير الديمقراطية، ولا شك أيضاً أن أمرا من هذا الانتقال تم اليوم ببلادنا وهو بين درجة الصفر ومائة بالمائة، حسب اختلاف مواقع وزوايا نظر مختلف الفاعلين السياسيين والمدنيين والمفعول بهم كذلك سياسيا ومدنيا و...، لكن المواطنين يرصدون وبشكل يومي أنفاس هذا الانتقال هل هي في صعود أم هبوط، ولا شك كذلك في أنهم سيبحثون عن خيارات أخرى إذا تأكد لهم عدم صواب أو جدية من أوكل إليهم تدبير أمورهم والسهر عليها.