بعد الجزء الاول الذي حاور فيه الزميل عبد الغني بلوط، حماد القباج، المنسق العام للتنسيقية المغربية لجمعيات دور القرآن، يتناول في هذا الجزء الثاني من سلسلة حوارات مع «قادة الحركة الإسلامية وتحديات الربيع الديمقراطي»التحديات والأثر الذي طرح مع دخول السلفيين لممارسة العمل السياسي من بوابته الحزبية المباشرة وتأثيرها على الساحة الدعوية وعلى الدعوة السلفية نفسها، كما يقدم لهذه التحديات بقراءته للأثر الذي أحدثه الربيع الديمقراطي على فكر وممارسة التيار السلفي بالعالم العربي والإسلامي عموما وبالمغرب على وجه التخصيص وحول ما إذا كان هذا الأثر نهائي أم قابل للارتداد؟ في هذا الجزء يتطرق القباج كذلك إلى علاقة دور القرآن بالسلفيين وما تطرحه من سؤال هويتها وما إن كان هناك من تمايز بين ما تقوم به دور القرآن بالمغرب عن أنشطة التيار السلفي عموما أم أنهما تعبيران عن هوية واحدة، القباج يقيم كذلك حضور التيار السلفي في الإعلام العمومي وأيضا في المجالس العلمية وواقع الإعلام بالمغرب وأيضا لأداء المجالس العلمية. كل ذلك بعد أن تطرق لتركيبة ومكونات الخريطة السلفية بالمغرب ومجالات تقاطعها وتمايزها عن المدارس السلفية بالعالم، ووجهة نظره فيما يثار حول السلفيين من أسئلة تتعلق بضبابية البرامج والتشدد في الدين والخطاب وسهولة الاستدراج. المحور الأول: أسئلة حول المدارس السلفية كيف تقدم للقراء الخريطة السلفية بالمغرب، تركيبتها، مكوناتها ومجالات التقاطع والتمايز بينها وبين المدارس السلفية بالعالم؟ أود في البداية أن أوضح حقيقة هامة لها ارتباط بهذا السؤال وهي أن الوجود السلفي بالمغرب الحديث له ارتباط وثيق بالحركة الإصلاحية التجديدية التي قادها العالم المصلح عبد الله السنوسي بعد المحاولة التي قام بها قبله بنحو ثلاثة عقود السلطان العالم مولاي سليمان بن محمد الثالث، ويمكن أن نعتبر جهود الإمام عبد الله السنوسي رحمه الله التي دعمه فيها السلطان المجدد مولاي الحسن الأول رحمة الله عليه أولى محاولات الخروج بالمغرب من واقع التخلف والجهل وما أفرزاه من ظواهر سلبية، وكان منطلقه الإصلاحي هو التجديد الديني وبعث الروح في العلوم الإسلامية وكسر الحاجز بين الأمة وبين القرآن والكريم والسنة المشرفة الذين هما منبع الحياة للأمة مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعده أبدا كتاب الله وسنتي» رواه الحاكم في مستدركه وهو في الموطأ بلاغا، فسر السنوسي القرآن الكريم بعد أن كان ذلك محظورا حتى كان يقال: إذا فسر القرآن مات السلطان ودعا إلى الانتقال بقراءة صحيح الإمام البخاري وغيره من كتب الحديث من قراءة لمجرد التبرك والاستسقاء إلى قراءة تدبرية استنباطية تجعل من الأحاديث الشريفة مع القرآن الكريم مصدر استلهام واقتباس يهدي إلى الخير والحق في كل مجالات الحياة. وعارض الجمود والركود الفقهي، كما عارض الفلسفات الدخيلة في باب المعتقد، وقد فتح هذا المصلح الكبير الباب لمن جاء بعده والذين كان منهم العلامة المتفنن أبي شعيب الدكالي وبعده شيخ الإسلام الإمام محمد بن العربي العلوي، وهذا الأخير في نظري أفضل مثال في المغرب المعاصر للعالم المناضل الجامع بين النظر العلمي والإصلاح الدعوي والسياسي. والشيخ بن العربي هو من أقنع الدكتور الهلالي بالتحول من الطريقة التيجانية التي تمتح من معين التدين الصوفي إلى طريقة الاتباع والتمسك بالقرآن والسنة التي هي جوهر التدين السلفي وقد حكى الهلالي هذه القصة بطولها في مقدمة كتابه: الهدية الهادية إلى الطائفة التيجانية ومعلوم أن الدكتور محمد تقي الدين الهلالي هو رائد السلفية في هذا القرن وإليه ترجع الخريطة السلفية في الواقع المغربي اليوم وذلك أن الدكتور رحمه الله خلف عددا كبيرا من الذين استفادوا منه وتأثروا بدعوته الإصلاحية والذين يتوزعون اليوم بين من هو عالم ومن هو مفكر ومن هو سياسي ومن هو مواطن من عموم المواطنين. وأبرز من تأثر به من النخبة هم العلماء من أمثال الشيخ لحسن وجاج والشيخ محمد الأمين بوخبزة والشيخ محمد المغراوي والشيخ محمد زحل والشيخ القاضي برهون والشيخ زين العابدين بلافريج والشيخ عبد الله بن المدني وغيرهم كثير. ومن هؤلاء من انخرط في سلك المؤسسات الدينية الرسمية ومنهم من اختار العمل بشكل فردي في المساجد والجامعات ومنهم من اختار العمل المؤسسي الحر من خلال تأسيس الجمعيات وأبرز هؤلاء الشيخ المصلح الدكتور محمد بن عبد الرحمن المغراوي مؤسس دور القرآن المعاصرة. أما علاقتها بالسلفية في العالم الإسلامي فهي علاقة انفتاح واستفادة متبادلة وإذا كانت السلفية في المغرب ذات جذور تاريخية أصيلة ومن جذورها سلفية إمامنا مالك رحمه الله فإنها بقيت منفتحة على المشرق الإسلامي وغيره من العالم العربي ولها تعلق بكل الدعوات الإصلاحية كدعوة الشيخ عبد الحميد بن بادس في الجزائر ودعوة الشيخ محمد الخضر حسين في تونس ودعوة الشيخ محمد رشيد رضا في مصر ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الحجاز ودعوة الشيخ جمال الدين القاسمي في الشام وقد توطدت العلاقة مع هذه الدعوات الإصلاحية من خلال علماء بارزين كانوا سفراء تاريخيين بين الدعوات الإصلاحية المذكورة وبين علماء السلفية الحاليين وأبرز أولئك السفراء إن صح التعبير الشيخ أحمد شاكر والشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحم الله الجميع. تثار بعض الأسئلة حول السلفيين من قبيل عدم وضوح الأفكار والبرامج السياسية كيف تعلق على هذا الأمر؟ لقد أشرت إلى أن المتأثرين بالدعوة الإصلاحية السلفية للدكتور تقي الدين الهلالي كان منهم العلماء وكان منهم أفراد آخرون من النخبة في المغرب، ومن أبرز هؤلاء أطر وعلماء الحركة الإسلامية بمختلف تلاوينها، فالحركة الإسلامية فيها عدد من العلماء والمفكرين والسياسيين الذين تشبعوا بالدعوة الإصلاحية للدكتور، ومنهم من توجه نحو العمل السياسي ففي نظري هؤلاء هم من ينبغي أن يسأل عن البرنامج السياسي، أما وضوح الفكرة ولعلكم تقصدون بها المنهاج الإصلاحي فأظن أنه ظاهر في الدعوة السلفية وله عناوين كبرى تلخصه وهي: جوهرية الدعوة إلى التوحيد في العملية الإصلاحية والوظيفة الدعوية، التركيز على التمسك بالسنة النبوية باعتبار الهدي النبوي أفضل الهدي ،التمسك بمنهاج السلف الصالح الذي هو قواعد وأصول الاستنباط من القرآن والسنة وهي القواعد التي بلورها وطبقها الأئمة الأربعة، رفض ومقاومة الابتداع في الدين أي إضافة وتشريع ما لم يشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور الدين. ولاشك أن من مقتضيات التمسك بالهدي النبوي المحافظة على الوسطية والاعتدال وأخلاق التسامح والعفو والآداب الجميلة في القول والفعل. فالدعوة السلفية تعتقد أن هذا هو المدخل نحو إصلاح حال الأمة جريا على توجيه الإمام مالك: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. البعض يربط السلفيين بالتشدد في الدين والخطاب، وسهولة التوظيف والاستدراج من طرف بعض الجهات والأجهزة المحلية والدولية، دعوات القتال في سوريا نموذجا...، ما تعليقك؟ بالنسبة للتشدد وما يقابله من التفلت هذه أوصاف نسبية فقد يرى إنسان في سلوك أنه تشدد ويرى غيره أنه اعتدال كما أن البعض قد يرى في سلوك معين أنه اعتدال ويرى الآخر أنه تفلت وتحلل، والوسيلة المثلى لعلاج هذا الاختلاف والتباين ترجع إلى: التحاكم إلى القرآن والسنة، كما قال الله تعالى: }فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول{. والشيء الثاني الالتزام بالأخلاق الإسلامية من صبر وحلم وعفو وتسامح حتى لا يكون سوء الخلق والكراهية هو الدافع للاتهام بالتشدد أو التفلت، أما التوظيف والاستدراج فهذا وارد وواقع بحكم أن العلماء والدعاة السلفيين كغيرهم من أهل العلم والدعوة ليسوا متمرسين في السياسة ومعرفة مكايدها ومخططاتها بالتفصيل بالإضافة إلى تغليبهم السلوك التربوي الملتزم بالأخلاق الكريمة فهذا يجعل التأثير فيهم سهلا ممن لا يحرمون حراما ويؤمنون بقاعدة الغاية تبرر الوسيلة من السياسيين الذين لا يؤمنون بالأخلاق الكريمة، واسمح لي أن أقول لك أن هذا المشكل عانى منه العلماء منذ الاستقلال والذي يطالع الطريقة التي تم إقصاءهم بها من لجنة إعداد الدستور ولجان صياغة القوانين يدرك الفخ الذي نصبه السياسيون وبعض الأحزاب للعلماء والدعاة، وهو الواقع الذي لعبت الحركة الإسلامية دورا مهما في استدراكه وتداركه مع صعوبة هذه المهمة. أما المشكلة السورية فلا أرى أن الأمر كان استدراجا أو استغفالا ولكن العلماء الذين اجتمعوا في القاهرة كانت لهم وجهة نظر لها ما تستند إليه وإن كنت أرى أن تنزيلها كان يحتاج إلى دراسات معمقة توفر إحاطة أوسع بالموضوع وتحتاج إلى احتياطات أكبر على مستوى الشكل وهذه المستلزمات هي ما جعلني أؤكد رفضي للتصرفات الفردية في موضوع كبير وحساس كالجهاد فخطورته تتطلب إخضاعه لنظر العلماء الكبار من مختلف التخصصات. علاقة دور القرآن بالسلفيين تطرح سؤال هوية دور القرآن فهل هناك من تمايز بين ما تقوم به دور القرآن بالمغرب عن أنشطة التيار السلفي عموما أم أنهما تعبيران عن هوية واحدة؟ دور القرآن الكريم تؤدي دورا أساسيا في المشروع الإسلامي السلفي والرسالة الدعوية بالتركيز على الجانب التعليمي أي تعليم القرآن الكريم وعلومه الشريفة لعموم المواطنين وتأطيرهم علميا انطلاقا من أول المستويات في طلب العلم الشرعي إلى أعلى المستويات التي يتخرج منها القراء والعلماء والفقهاء فتجد في دار القرآن مستوى خاص بالمبتدئ في طلب العلم الشرعي فهذا له برنامج لتلقينه أوليات علم التجويد والتوحيد وما يحتاج إلى معرفته من فقه العبادات والمعاملات كما تجد المعاهد العلمية لتكوين العلماء والدعاة وهذه تم إيقافها مع الأسف بقرار سياسي عام 2013 بعد أحداث 16 ماي الإجرامية وقبل ذلك كانت هذه المعاهد قد خرجت نخبة طيبة من العلماء المصلحين والقراء المتقنين والدعاة الذين لا يزالون يعملون في المجال العلمي والدعوي وأرجو أن تتهيأ الأسباب لإصلاح سياسي يرجع الأمور إلى نصابها. كيف تقيم حضور التيار السلفي في الإعلام العمومي وأيضا في المجالس العلمية وتقييمك لواقع الإعلام بالمغرب وأيضا لأداء المجالس العلمية؟ تقييمي لأداء المجالس العلمية أنه أداء يتطور ويرتقي من حسن إلى أحسن إلا أنه يعاني في نظري من اختلالات أتمنى أن يتم تداركها وأبرزها إقصاء العلماء والدعاة والسلفيين وعدم فتح المجال إلا لمن يظهر التنازل عن بعض آرائه وقناعاته وهذا خطأ بكل المقاييس، لأن اختلاف الرأي لا ينبغي أن يعالج بالإقصاء والإبعاد وفرض الرأي بقوة السلطة أو بالترغيب والترهيب ولكن يعالج بالحوار والنقاش ومحاولة الإقناع هذا هو مقتضى الشرع وهو مقتضى الديمقراطية وثقافة الانفتاح والتسامح وهو الخيار الذي اختاره المغاربة، فما دمت ملتزما بالدستور والقانون فلا ينبغي لأحد أن يقصيني وأن يحرمني من حقي في الممارسة السياسية أو المشاركة في تأطير المجتمع لأنني أخالفه في الرأي فهذا منطق استبدادي لا يقره شرع ولا تقره ديمقراطية والحقيقة أن الإعلام المغربي لا يزال بعيدا كل البعد عن المأمول في ظل دولة الحق والقانون والمؤسسات. وهناك فرق وبون بين الدستور المتقدم الذي توافقنا عليه في 2011 وبين الممارسة الإعلامية وقوانينها القائمة على ثقافة الخوف من المخالف في الرأي وسلوك إقصاءه. المحور الثاني: تحدي المشاركة السياسية كيف تقرأ الأثر الذي أحدثه الربيع الديمقراطي على فكر وممارسة التيار السلفي بالعالم العربي والإسلامي وبالمغرب على وجه التخصيص وهل هذا الأثر نهائي أم قابل للارتداد؟ أكبر أثر أحدثه الربيع الديمقراطي هو كسر شوكة الاستبداد وإضعاف نفوذ وقوة المستبدين الذين يتصرفون بالمنطق الفرعوني: «ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد» ولا شك أن هؤلاء يحملون طبائع الاستبداد ومن طبائعه أن صاحبه جبان وغادر وأنه كلما أتيحت له الفرصة ليمارس استبداده فعل لأنه متشبع بخلق الكبر وازدراء الآخرين واعتبارهم دون مستواه فالمستبدون الذين عصفت بهم رياح الربيع وزوابعه اجتهدوا في الخفاء لتجميع ما شتته العاصفة من أدوات الاستبداد (البوليس الديكتاتوري / الإعلام الكذاب / الخونة وأصحاب النفوس المريضة ..) فعلوا ذلك في كل الدول التي مرت عاصفة الربيع وتجلى ذلك بوضوح أكبر في الانقلاب الذي حدث في مصر مما يؤكد أن الوضع قابل للتراجع وهو ما يفرض على المصلحين الذين يهمهم استثمار الربيع للإصلاح أن يتحلوا بمزيد من الحذر والفطنة والقدرة على تأطير مجتمعاتهم بشكل إيجابي قائم على العدل والمرحمة والحكمة والبصيرة والإشراك السياسي الإيجابي، ومع ذلك فلا أعتقد أن عقارب الساعة سترجع إلى الوراء وأن الاستبداد سيرجع إلى عهده السابق فهذا مستحيل لا سيما إذا ما أحسن كارهو الاستبداد مدافعته. أي أثر لدخول السلفيين لممارسة العمل السياسي من بوابته الحزبية المباشرة وتأثيرها على الساحة الدعوية وعلى الدعوة السلفية نفسها؟ هذا الواقع يمكن اعتباره مكسبا كبيرا للدعوة والمسار الإصلاحي إن أحسن استغلاله وتنزيله كما يمكن أن يكون ذا آثار سلبية والمطلوب من الذين خاضوا غماره أن يكونوا على درجة عليا من الحكمة والرشد والتمسك بالمبادئ التي يؤمنون بها مع الحرص على الاحترافية والبعد عن الارتجالية والمزاجية وعليهم أن يستحضروا دائماً منطلقهم وهو تقليص الشر والفساد وتوسيع الخير والصلاح مع تصحيح النية والقصد وكلما تحلت هذه الممارسة بالبصيرة الثاقبة والوعي العميق والانضباط الشرعي والسلوك الأخلاقي والفطنة والتضحية كلما كانت لصالح الدعوة والإصلاح وكلما كانت مليئة بالتسرع والتفلت من الضوابط وحب النفس ومصالحها والسذاجة والارتجالية كلما كانت مضرة بالدعوة.