تعد آفة المراء والجدال من الآفات التي تهدم صرح الصف الإسلامي والجماعة المسلمة لما في هذا السلوك من إشاعة للشك والمماراة والخصومة والاعتراض على كلام الغير. وقد جعل كثير من الناس شغلهم الشاغل هو المماراة والجدل، لا لجلب مصلحة، ولا لدرء مفسدة، ولا لهدف الوصول إلى الحق والأخذ به، وإنما رغبة في اللجج والخصومة، وقد نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيانه لما يجلبه من خصومة وتعصب، وقطع لأوصال الأخوة والمحبة. قال الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن: الجدال: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله من: جدلت الحبل، أي: أحكمت فتله، وجدلت البناء: أحكمته، والأجدل: الصقر المحكم البنية. والمجدل: القصر المحكم البناء، ومنه: الجدال، فكأن المتجادلين يفتل كل واحد الآخر عن رأيه. وقيل: الأصل في الجدال: الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة، وهي الأرض الصلبة. وترجع بعض المصادر أن الجدل كعلم، نشأ في اليونان مع الفيلسوف زينون الإيلي في القرن الخامس قبل الميلاد، وقد كانت أغاليطه نماذج من الجدل الجاد التي استثارت فلاسفة عصره للرد عليها. ولكن هذا الجدل الذي كان فناً للتحاور بغية الوصول إلى الحقيقة، بطرح الفكرة والفكرة المضادة لها عن طريق السؤال والجواب. وينقسم الجدل الى جدل محمود وآخر مذموم، فالجدل المذموم ما كان بقصد الغلبة والرياء والجدل للباطل أو بغير علم، أو في مكان غير مناسب، أو لقصد الجدل فقط، كما قال عز وجل: «وقالوا ءالهتنا خير ام هو ما ضربوه لك الا جدلا بل هم قوم خصمون»سورة الزخرف: 58. فالقصد هنا الجدل للجدل. وقال: «ما يجادل في ءايت الله الا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد» سورة غافر: 3 . الجدل هنا مكابرة لأنها مجادلة في أمور بديهية. وقال: «كذبت قبلهم قوم نوح والاحزاب من بعدهم وهمت كل امة برسولهم لياخذوه وجادلوا بالبطل ليدحضوا به الحق فاخذتهم فكيف كان عقاب» سورة غافر 4. الجدل هنا غايته نصرة الباطل، ومدافعة الحق عن علم وقصد . وقال: «ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد» سورة الحج: 3 . الجدل هنا بغير علم وهو ما نراه اليوم كثيراً في مجتمعنا، وخصوصاً فيما يتعلق بأمور الدين، فقد أصبح الدين أشبه ما يكون بالكلأ المباح، يقتحمه كل الناس بعلمٍ وبغير علم، ودون أن يُراعى فيه أي تخصص، بخلاف العلوم الأخرى فإن لها أسيجة من الحصانة والحماية. وأما الجدل المحمود فهو ما كان بقصد الوصول إلى الحق ودفع الباطل، والدعوة بالحسنى ولذلك قرنه الله عز وجل بالدعوة فقال: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين» سورة النحل 125. وقال عز وجل: «ولا تجادلوا اهل الكتاب الا بالتي هي احسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا ءامنا بالذي انزل الينا وانزل اليكم وإلاَهُنا وإلاهُكم واحد ونحن له مسلمون» سورة العنكبوت 46. وقد جادل الأنبياء أقوامهم كثيراً ولم يملوا من ذلك حتى قال الباري عز وجل حكاية عن قوم نوح: «قالوا ينوح قد جادلتنا فاكثرت جدالنا فاتِنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين» سورة هود: 32. وجادل إبراهيم عليه السلام أباه وقومه وزعيمهم، كما جادل القرآن الكريم أهل الملل المختلفة من اليهود والنصارى وغيرهم .