قد عرفت في الحلقة الماضية أن معيار الحكم على الحديث بالغرابة والتفرد، هو انفراد الراوي في أي حلقة من حلقات السند برواية الحديث؛ فقد يكون المنفرد صحابيا أو تابعيا أو من بعدهما. وهذا المعيار ينبني على أصل مهم في علوم الحديث قد ذكرناه فيما ما مضى، وهو أنه يُقضَى للأقل على الأكثر في السند، ومثال ذلك حديث "إنما الأعمال بالنيات" انفرد بروايته عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإن كان قد اشتهر بين الرواة بعدُ، فلا يُعَدُّ لأجل ذلك مشهورا. فما القولُ في هذا الحديث الغريب أو الفرد من ناحية القبول ؟ المعتمدُ في ذلك أن يُنظَرَ فيه كما يُنظَرُ في غيره ممّا تعددت رُواته كالعزيز والمشهور، فما جمع شروط الصحيح عُدَّ صحيحا، أو نقص منها فهو الحسن أو الضعيف، وعلى هذا عمل المحدثين. وكان الترمذي(279ه) رحمه الله يجود هذا المبحث في سننه، فيَسْتَعْمِلُ في الحكم على الحديث معيارين اثنين، أي معيار القبول ومعيار عدد الرواة، فيقول في حديث: هو صحيح غريب، وفي آخر: حسن غريب، وفي آخر: حسن صحيح غريب. وقد حرر ابن حجر(852ه) رحمه الله تعالى كعادته، مقصود الترمذي من هذه الاصطلاحات؛ وزبدةُ ما قاله، أنه إن اقتصر في الحكم على الصحة مع الغرابة، فللحديث إسناد واحد صحيح، فإن اقتصر على الحسن مع الغرابة، فإسنادُه المنفردُ حسنٌ، فإن جمع وصف الصحة والحسن فللحديث إسنادان أحدهما صحيح والآخر حسن، كأنه قال: حسن وصحيح؛ أو أن الإمام تردد في الحكم عليه بين الصحة والحسن، كأنه قال: حسن أو صحيح. فإن جمع الأوصاف الثلاثة وهي الصحة والحسن والغرابة، فمقصوده التردد في الحكم على إسناد الحديث المنفرد بالصحة أو الحسن. ومع أني قلت لك، إن تصرفات المحدثين أنبأت عن جعل الحديث الغريب الفرد مجالا للنقد التفصيلي كغيره من الأنواع الأخرى، إلا أنه صدرت من بعضهم عبارات إجمالية دلت على أن الغريب من الحديث أقرب إلى دائرة الرد منه إلى القبول، كقول الإمام مالك(179ه) رحمه الله الذي كان أمير المؤمنين في الحديث ومرجع أهل العلم فيه: «شَرُّ الْعِلْمِ الْغَرِيبُ وَخَيْرُ الْعِلْمِ الظَّاهِرُ الَّذِي قَدْ رَوَاهُ النَّاسُ»، رواه عنه ابن عبد البر(463ه) في الجامع، وروى أيضا عن النَّضْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ(183ه) قوله: «أَفْضَلُ الْعِلْمِ الْمَشْهُورُ» وعن عبد الرزاق الصنعاني(211ه) قوله: «كُنَّا نَرَى أَنَّ غَرِيبَ الْحَدِيثِ خَيْرٌ فَإِذَا هُوَ شَرٌّ». وأنت خبير أن مثل هذا الكلام قد صدر عن استقراء منهم، وعن معرفة عميقة بأصول الشريعة ومراتب مواردها. والحمد لله أولا وآخرا.