رغم اختلاف الوضع والسياق السياسي بالمغرب عن مصر وتونس لدرجة يصعب معها القياس فإن خطاب من يصفون أنفسهم بالحداثيين من ليبراليين وعلمانيين ويساريين يقفز على هذا الاختلاف، ويعممون بقولهم إن الإسلاميين الذين فازوا في الانتخابات التشريعية بالأغلبية سواء في تونس أو مصر أو المغرب يريدون أن يستولوا على الدولة، ويفرضوا نمطا من التدين على المجتمع ويخلقوا التوتر و... كما قال بذلك العلماني والناشط الأمازيغي المغربي أحمد عصيد في محاضرة له بتونس حول «الإسلام السياسي والحراك الاجتماعي»، معتبرا أن الديمقراطية ليست هي صناديق الاقتراع وأغلبية وأقلية، بل هي قيم وقواعد كونية. وهذا الكلام إدانة لمن يصفون أنفسهم ب «الحداثيين» لأن جزءا منهم كانوا مهيمنين ومتغلغلين في عدد من المؤسسات، ولم ينشروا القيم الديمقراطية التي يتباكون عليها اليوم، ولم يشيعوا الثقافة الديمقراطية في الحياة العامة، بل على العكس من ذلك نشروا من خلال هيمنتهم على المؤسسات الإعلامية بشكل عام ثقافة الاستئثار بالسلطة، وشيطنة الآخر ورفضه، خاصة عندما يكون ذلك الآخر إسلاميا من دون التفريق بين منفتح معتدل مؤمن بالعمل العلني والمؤسساتي، وبين متطرف رافض للمؤسسات، ولقواعد اللعبة الديمقراطية خاصة في مصر وتونس حيث كان كثيرون ممن يتباكون اليوم على الحداثة في خدمة استبداد الحزب الواحد المهيمن على كل مناحي الحياة. وفي المغرب هيمن «الحداثيون» بشكل أساسي على الإعلام، خاصة الإعلام الفرانكفوني (الناطق بالفرنسية) وأعلنوا حربا شعواء على العدالة والتنمية لاسيما بعد محطتين أساسيتين، الأولى السجال الكبير حول خطة إدماج المرأة في التنمية عام 2000 وخروج مسيرة مليونية بقيادة الإسلاميين بالدارالبيضاء ضد التغريب والتصادم مع ثوابت الشريعة الإسلامية والهوية المغربية، سجال انتهى بتحكيم ملكي وإقرار مدونة أسرة حديثة لم تمس ثابتا دينيا شعارها الكبير قول الملك محمد السادس «لا يمكنني بصفتي أميرا للمؤمنين أن أحل ما حرم الله أو أحرم ما أحل». والمحطة الثانية تضاعف عدد المقاعد التي حصل عليها حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية صيف 2002, أكثر من ثلاث مرات ب42 مقعدا, بعدما كان يتوفر في الولاية التشريعية التي قبلها على 14 مقعدا، ليصبح ثالث حزب وقوة برلمانية في مجلس النواب. وشكلت هاتان المحطتان فوبيا لدى «الحداثيين» من اتساع حجم تأثير الإسلاميين في الحياة السياسية والحزبية, والعجز عن منافستهم في الميدان، لذلك سارعوا لتحميل الحزب المذكور المسؤولية المعنوية عن تفجيرات الدارالبيضاء الإرهابية في مايو 2003، وشنوا عليه حملة إعلامية استئصالية خانقة لتشويهه، وصلت لدرجة المطالبة بحله والتخلص منه، لكن الملك محمد السادس رفض هذا المنطق الاستئصالي. وبعد هبوب رياح الربيع العربي وخروج حركة 20 فبراير، انهار مشروع حزبي كان يسعى -كما أكد ذلك كثير من السياسيين والحزبيين والمتتبعين- للهيمنة على الحياة السياسية واستنساخ تجربة حزب التجمع بتونس والحزب «الوطني» بمصر. لكن مبادرة الملك بجرأة وثقة كبيرين في طرح إصلاح سياسي من خلال تعديل شامل للدستور أدخلت البلاد في دينامية سياسية واجتماعية جديدة بعد موافقة المغاربة على الدستور الجديد بالأغلبية المطلقة في يوليو 2011، تضمن أمورا مهمة في مستويات مختلفة, منها المستوى الحقوقي والسياسي، بحيث مكن رئيس الحكومة من صلاحيات واسعة وربط المسؤولية بالمحاسبة، وتكليف الحزب الذي يحصل على المرتبة الأولى في الانتخابات برئاسة الحكومة وتشكيلها، وكذلك كان فاز حزب العدالة والتنمية بالمرتبة الأولى ب107 مقاعد في انتخابات تشريعية سابقة لأوانها يوم 25 نوفمبر 2011، وعين الملك محمد السادس الأمين العام لحزب العدالة والتنمية الأستاذ عبدالإله ابن كيران رئيسا للحكومة، بمعنى آخر -وكما كتبت في هذا العمود في حينه- المغاربة عاشوا ربيعهم الديمقراطي بطريقتهم وعبر الخيار الثالث، أي الإصلاح في إطار الاستقرار، خاصة أن المؤسسة الملكية محل إجماع وتتمتع بشرعية دينية وتاريخية ووطنية جعلتها تقدم على خطوات إصلاحية بجرأة وثقة كما سلف. طبعا «الحداثيون» أحسوا بصدمة كبيرة لأنهم فشلوا في معركتهم، لكنهم لم يستوعبوا الدرس، وواصلوا وما زالوا يواصلون حملاتهم الإعلامية بتشويه الحقائق واختلاق الأخبار الزائفة وتصوير الحكومة التي يقودها العدالة والتنمية وتشارك فيها أحزاب أخرى (التقدم والاشتراكي والاستقلال والحركة الشعبية) على أنها حكومة فاشلة، وأن الشعب فقد أمله فيها وفي برنامجها، غير أن صناديق الاقتراع تثبت مرة أخرى عدم صحة تلك الادعاءات، حيث حصدت الأحزاب المشكلة للحكومة 9 من المقاعد من أصل 11 مقعدا في انتخابات جزئية (الإعادة بعدما تم قبول الطعن الدستوري فيها). في هذا السياق يأتي تركيز «الحداثيين» على أن الديمقراطية ليست هي صناديق الاقتراع وانتخابات وأغلبية وأقلية، بل هي قيم وتربية وسلوك وحوار وطني، وديمقراطية تشاركية لأنهم يخافون من الديمقراطية ولا يخافون عليها وغير قادرين على المنافسة والاحتكام لكلمة الصناديق، فلم يبق أمامهم إلا الحرب الإعلامية، بعدما أكد الأستاذ أحمد عصيد في المحاضرة التي سلفت الإشارة إليها، إن كل التقسيمات الأيديولوجية لم يعد لها معنى، وبتنا أمام ثنائية لا ثالث لها؛ إسلاميون بكل أطيافهم - حيث لا يفرق بين معتدلين ومتشددين- وصفهم بالأقلية المنظمة، وحداثيون (علمانيون ليبراليون يساريون) وصفهم بالأغلبية المتفرقة. ودعا عصيد هذه «الأغلبية» المزعومة سواء بالمغرب أو مصر وتونس لتشكيل جبهة موحدة، لأن هناك خطرا موحدا مشتركا جامعا يهددهم بتراجع المكتسبات والعودة للوراء وما إلى ذلك من الكلام المعروف والمكرور. لكن ذلك لن يحصل، لأن مكونات الجبهة المفترضة ل «الحداثيين» خاصة مكون اليسار المتطرف، كائنات تدور حول نفسها وذات طبيعة انشطارية داخل المكون الواحد، فكيف تجتمع مع باقي المكونات التي ترى فيها برجوازية طفيلية وما إلى ذلك... جيناتها انقسامية والواقع يؤكد ذلك. سيكون مفيدا جدا للديمقراطية توفر معارضة قوية للإسلاميين في الحكومة, بل هي مطلوبة لتقويم أي اعوجاج، لكن بأساليب قانونية حضارية وبقواعد ديمقراطية وليس بلغة الاتهامات والافتراءات و...، سيكون مفيدا للديمقراطية وداعما لها وجود معارضة حقيقية لها مصداقية يطابق قولها فعلها، لأنه لا يمكن لأحزاب وتيارات لا تمارس الديمقراطية داخلها أن تكون ديمقراطية، ولا يمكن لأحزاب عاشت بالدعم وليس لها قاعدة شعبية جماهيرية تسندها أن تكون ديمقراطية. ومخطئ من يعتقد أن مشكلة من يصفون أنفسهم ب «الحداثيين» بالعالم العربي مع الإسلاميين، بل هي بالأساس مع الشعوب التي تعالوا عليها، واستخفوا بذكائها وحسها وحدسها، واستهانوا بها واعتقدوا أنها صدقت مسرحياتهم، حتى إن أحدهم بمصر وهو كاتب «ديمقراطي جدا» دعا لمنع الأميين من التصويت لأنه فضلا عن حرمانهم من حق دستوري، لم يفرق بين التعلم والوعي، متجاهلا أنه قد يكون الإنسان أميا في القراءة والكتابة لكنه واع, خاصة في عصرنا هذا. آمل أن يستوعب «الحداثيون» الدرس بالشكل المطلوب, ويراجعوا أوراقهم، ويكونوا ديمقراطيين قولا وفعلا, فذلك السبيل السليم لمنافسة الإسلاميين