مع الصعود الانتخابي للإسلاميين في أكثر من بلد عربي ومشاركتهم في الحكم، بدأ التيار العلماني والحداثي المتشدد يصيح في العالمين أن الحريات في خطر، وأن الفن والإبداع مهدد، واختيارات الناس الشخصية قد تتحول لميدان تدخل الحكومة. وسلاحهم في ذلك كله التباكي على حرية المعتقد والحريات الفردية و «القيم الكونية»، مطالبين باحترامها وجعلها المرجع الأعلى فوق الدين الإسلامي وقوانين البلاد. ويتحدث هؤلاء الحداثيون جدا عن ما يسمى ب «القيم الكونية» وكأنها منزلة من السماء وقدر حتمي لا ينبغي مناقشته، والحال أن ثمة أسئلة مطروحة على جزء من تلك «القيم» هل هي محايدة؟ أم هي تعبير عن مرجعية ثقافية وحضارية معينة؟ أليس فيها إقصاء وتجاهل لمرجعيات ثقافية وحضارية أخرى؟ أليس فيه ضرب للخصوصية الثقافية؟ كيف جاءت تلك القيم وكيف تم تبنيها؟ ولماذا يراد فرضها بالقوة سواء الصلبة منها أو الناعمة على العالم والسعي لتنميط هذا الأخير؟ بالرجوع لمصطلح «القيم» بالمفهوم المعياري الغربي لا نجد في التاريخ العربي والإسلامي ما يسنده لغويا أو اصطلاحيا، وبالاضطلاع على المعاجم اللغوية العربية، وعلى رأسها لسان العرب لابن منظور ومعجم الصحاح في اللغة للجوهري نجد أن معنى مشتقات وتفرعات «قيم» و «قيمة» و «الاستقامة» وغيرها تصب في المعاني الاجتماعية والتعاملات التجارية، ولا تحمل بعدا معياريا أو مقياسا لمحاكمة الأفكار والأشخاص والمواقف، ومن ثم لا علاقة بين هذه المعاني ومدلول» القيم» المترجم عن كلمة «les valeurs» بالفرنسية أو values بالإنجليزية. وبناء على ما سبق فما يتداوله الحداثيون في عالمنا العربي والإسلامي حول القيم لا علاقة له في العموم بالكونية، بل هي مدلولات حديثة منها ما هو مشترك إنساني ولا يتعارض مع الدين ولا العقل أو الفطرة الإنسانية السليمة كالديمقراطية وحرية التعبير واحترام كرامة الإنسان، ومنها ما يتعارض مع الفطرة والدين من قبيل التطبيع مع ظاهرة الشذوذ الجنسي في المجتمع، والسماح بإفطار رمضان علنا وإعلان الإلحاد والاستهزاء بالأديان من باب احترام الحريات الفردية وحق حرية المعتقد على حسب حق سلامة المجتمع وتماسكه، وغيرها. وطبعا الحداثيون والعلمانيون المتطرفون لا يقدورن على مناقشة هذه القضايا مع المجتمع العربي، والتفصيل فيها لأنهم يمارسون التقية وعاجزون عن التفاعل معه، لأنهم غرباء عنه ولا يمثلونه بل هم بإعلامهم وجمعياتهم كائنات إعلامية تتمسك بالمرجعية والمواثيق الدولية لممارسة الضغوط على دولهم بحجة التوقيع على تلك المواثيق، ولو كان لهم صلة بالمجتمع وينصتون لنبضه، لعلموا أن أولوياته غير أولياتهم، ولذلك فهو لا يختارهم في الانتخابات ولا يلتفت لهم، لأنهم لا يمثلونه ولا يعبرون عنه، ومن ثم لا غرابة أن نجد في المغرب اليوم على سبيل المثال العلمانيين المتشددين ومن يصفون أنفسهم بالحداثيين ويعتبرون معركتهم الأولى هي الحفاظ على الحريات الفردية المنصوص عليها عالميا، وبدؤوا مناوشاتهم الإعلامية مع الحكومة الجديدة قبل أن ترى النور فقط، لأن حزب العدالة والتنمية (الإسلامي) يقودها معتبرين أنها سترتد على الحقوق المكتسبة في مجال حقوق الإنسان والفن والحرية الفردية، مع أن المغاربة مهمومون بالشغل ومحاربة البطالة وتوفير سكن لائق والتغطية الصحية، ومحاربة الفساد الإداري، ولا يهتمون بمن أراد أن يفطر رمضان علنا أو يعلن هويته الجنسية للعموم و... والواقع أن هذه المناوشات، إذا صح التعبير هي ترجمة لواقع الإحباط الذي يعيشه «الحداثيون» لفشلهم في نشر أفكارهم وأطروحاتهم على مدار أكثر من عقد من الزمن، حتى إن بعض الصحافيين شبه حصول حزب العدالة والتنمية على %27 من مقاعد مجلس النواب (الغرفة الأولى للبرلمان) رغم قيود القوانين الانتخابية والتقطيع الانتخابي، بأنه «زلزال» ضرب الحداثيين، ليبقى السؤال هل سيستوعبون الدرس؟ طريقة تفاعلهم مع نتائج الانتخابات والحكومة الجديدة تشير للأسف إلى أنهم مستمرون في نفس النهج، الذي لن يزيدهم إلا عزلة داخل المجتمع رغم نفوذهم الإعلامي في الداخل وجعجعتهم في الخارج بالركوب.