بعد مرور سنة كاملة على انتخاب حكومات الإسلاميين في دول «الربيع العربي»، تتعالى أصوات معارضة للتجربة الأولى من نوعها للإسلاميين، وتبرز بشكل جلي الخطابات المشككة في قدرة الإسلاميين على بناء الدولة الديمقراطية الملائمة لما بعد الربيع. تحتشد في هذا الخط المعارض قوى مختلفة؛ تشن حربا معلنة ومفتوحة على الإسلاميين، بلغت أوجها في مصر التي تصارع بعد الاستفتاء على الدستور للخروج من عنق الزجاجة؛ إثر «الأزمة» السياسية التي افتعلتها المعارضة واتخذت بعدا دمويا في أحيان كثيرة. وإذا كان وطيسها قد حمى في تونس بعد ظهور مشروع الفلول واستخدام نقابة العمال لتغيير الوضع، ففي المغرب لا يشذ الوضع عن القاعدة وإن بطريقة أقل حيث يتعالى السجال السياسي الذي تحركه نوايا استئصالية قديمة أو تخوفات من التجربة. المثير في الأمر، أنه رغم محاولات تقويض التجربة والتشكيك في قدرات الإسلاميين واستمرار حركة «البلوكاج» من طرف الجهات التي انتصبت كجبهة للمعارضة، ما تزال شعبية الإسلاميين والإقبال على خطابهم قويا؛ تؤكدها مؤشرات منها اكتساح حزب العدالة والتنمية لانتخابات الإعادة الجزئية، وخروج مظاهرات حاشدة في تونس دفاعا عن قرارات حكومة النهضة، وتأييد المصريين للدستور رغم دعوات المعارضة لرفضه واستثمار الفلول كل إمكانياتهم المالية والإعلامية لإحباط الشعب. بالمقابل، تطفو إلى السطح تحليلات لمراقبين ومتتبعين تبرز تراجعا في شعبية الإسلاميين قد بفشل تجربتهم الفتية، أو على الأقل تضرر رصيدهم السياسي بما سيؤثر سلبا في الاستحقاقات القادمة. ويستعين هؤلاء في التدليل على ذلك؛ بعودة مظاهر الاحتجاج بمصر بغض النظر عن مكونات تلك الحشود وأطيافها، وتزايد الإضرابات والاحتجاجات الغاضبة وأعمال العنف التي يكون طرفها مكون إسلامي (كحالة تونس) وعدم تحقيق تجربة الإسلاميين لآمال الناخبين في المغرب، واستمرار الواقع الملموس على حاله؛ اللهم إلا بعض القرارات والإجراءات التدبيرية. ولأن وجهة النظر الأولى لا تخلو من تعاطف مسبق تجاه الإسلاميين، ووجهة النظر الثانية فيها الكثير من المزايدات والتسرعات ، فإن الموضوع يحتاج إلى طرح موضوعي يسائل تجربة الإسلاميين ما لها وما عليها. «التجديد» تفتح الملف وتقدم آراء محللين وخبراء يقاربون التجربة. يذهب محللون استقت “التجديد" آراءهم، إلى أن الشارع العربي لم يشهد فرزا سياسيا وثقافيا من قبل كما عليه المشهد حاليا في دول “الربيع العربي" التي وصل فيها الإسلاميون إلى السلطة. في هذا السياق يميز محمد ضريف الخبير في الحركات الإسلامية في حديث ل«التجديد» بين أطروحتين؛ إحداهما تتمثل الأطروحة المعادية التي لا تستند فقط إلى مشروعية صناديق الاقتراع وإنما إلى مشروعية الإنجاز أيضا، وتتطلع إلى مرحلة تأسيسية يجب أن تحكم بالتوافق وليس بمنطق الأقلية والأغلبية، كما حصل في التجربة الإسبانية التي نهجت مقاربة تشاركية أثناء وضع الدستور بعد نهاية حكم فرانكو، إذ مثل الحزب الفائز في لجنة صياغة الدستور بنفس نسبة تمثيل باقي الأحزاب الأخرى. وأطروحة أخرى تتفهم التجربة الجديدة التي يقودها الإسلاميون وترتكز على ثلاثة دعائم؛ أولها، أن الإسلاميين استمدوا المشروعية من صناديق الاقتراع، وكل من يؤمن بالديمقراطية يجب احترامها، ثانيا، أن المرحلة الحالية هي تأسيسية لتحول المنطقة من خلال منح الأولوية لإعداد ورقة دستورية كما في الحالة المصرية والتونسية أو لتنزيل الدستور كما في التجربة المغربية، ثالثا، أنه في المراحل الانتخابية تكون ردود فعل القوى المرتبطة بالأنظمة السابقة قوية لإفشال التجربة الجديدة كما يحصل في مصر وتونس وحتى في المغرب مع “التماسيح والعفاريت". سياق اللغط والسجال! ويرى المتتبعون أنه بعد مرور حوالي سنة على انتخاب الإسلاميين، تصاعدت حدة الاستقطاب السياسي في كل من مصر وتونس وبلغ الجدال السياسي في المغرب أوجهه بين الحزب الحاكم وخصومه في المعارضة. تعليقا على ذلك، يرى لكريني في حديثه ل"التجديد"، أن السجال الذي أخذه ولوج الحركات الإسلامية إلى الحكم يعكس مستوى التضييق عليها من طرف الأنظمة المستبدة، وأن اللغط الذي واكبهم في السلطة واتهامهم بالفشل فيه قدر من التضخيم غذته مجموعة من العوامل أهمها؛ حجم الانتظارات الاقتصادية والاجتماعية التي تعبر عنها الشعوب، وهامش الحرية الكبير الذي جعل الكثير من القوى السياسية التي ظلت صامتة لسنوات بسبب الاستبداد تجد الفرصة لتتحدث مِلْء الفم وتحمل المسؤوليات كلها للإسلاميين في بعض الأحيان. بالمقابل، قال المتحدث، إن الإسلاميين في السلطة لديهم مسؤولية ألا يعتبروا أنفسهم موجودين لوحدهم في الساحة وأن يؤمنوا بالاختلاف وأن لا يتعاملوا مع الشأن العام بخطاب وسلوك المعارضة الذي لازمهم لعقود طويلة، لأن ذلك مدخل لاستيعاب التغيرات في سياقها. وأشار أنه لا يمكن إصلاح الملفات الاستراتيجية (مثل التعليم، الفضاء، والريع والفساد) بين عشية وضحاها، كل ما في الأمر أن تضع الحكومات الضمانات وتؤسس لسياسات عمومية جديدة وأخلاقيات وتوازنات وسلوكات مبنية على احترام المواطن والقوانين والمواثيق الدولية المصادق عليها، يضيف لكريني. وبعيدا عن توصيف المشهد العام في الدول التي يقودها الإسلاميون، يؤكد ادريس لكريني أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاضي عياض بمراكش، أن نجاح الحركات الإسلامية المشاركة في العملية السياسية كان طبيعيا ومنتظرا بالنظر إلى ما راكموه من اجتهادات فكرية كبيرة تتفاعل مع المستجدات الحاصلة في المجتمعات، مشددا على أن ولوجهم “سدة" الحكم أعطى دينامية للمشهد السياسي. مسؤولية إنجاح التجربة وأمام عودة الحشود إلى ميدان التحرير في مصر احتجاجا على قرارات الرئيس الإسلامي محمد مرسي، بغض النظر عن مكونات تلك الحشود وأطيافها، وتزايد الإضرابات والاحتجاجات الغاضبة وأعمال العنف التي يكون بعض أطرافها إسلاميا كحالة تونس، وتزايد الاتهامات لحكومة عبد الإله بنكيران في المغرب بالفشل واستمرار الواقع على حاله دون تغيير، ونهج المعارضة المغربية أسلوب القذف العلني والتخويف مما تسميه “خونجة الدولة"، تطرح تساؤلات عديدة عن حقيقة فشل الإسلاميين ومدى تحامل المعارضة التي احتشدت من جديد للمواجهة؛ رغم معرفتها بتحديات المرحلة وأن الإسلاميين حديثوا عهد بالسلطة. ضريف يؤكد أن تدبير المرحلة وإنجاح التجربة ينبغي أن يتحمله الإسلاميون لأنهم كانوا يقدمون أنفسهم بديلا؛ ووحدهم من يمتلك قاعدة شعبية، داعيا إياهم للعمل دون التفات إلى المعارضة، وعدم استعمال “فزاعة" العلمانيين على غرار “فزاعة" الإسلاميين التي استعملت لعقود طويلة من طرف الأنظمة المستبدة. من جهته، اعتبر لكريني، أن المرحلة لا تسائل الحكومات الإسلامية لوحدها؛ وإنما المعارضة أيضا التي يجب أن تكون مسؤولة في معارضتها وعلى وعي تام بأن المنطق الديمقراطي الذي أوصل الإسلاميين إلى الحكم يقتضي تقييمها في إطار السياسات العمومية بعيدا عن التنابز بالألقاب وافتعال المعارك. الحقيقة! بغض النظر عن تشابه ما يجري في الدول التي يحكمها ويسيرها الإسلاميون، يؤكد حسن قرنفل أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة أبي شعيب الدكالي بالجديدة، أن الحقيقة اليوم هي أن القاسم المشترك بين الدول الثلاثة التي أدى ما سمي “الربيع العربي" إلى صعود الإسلاميين يخفي اختلافات أساسية في التجربة؛ ففي النموذج التونسي كانت حركة النهضة حزبا معارضا ومحظورا ومغيبا عن النقاش السياسي، وفي النموذج المصري، كان هناك مشاركة خجولة للإسلاميين في الانتخابات ومعارضة منبرية دون تزعم المشهد (لأنهم كانوا يشاركون في الانتخابات كمستقلين رغم أنهم يحصلون على مقاعد في مجلس الشعب كالانتخابات الأخيرة في عهد مبارك التي حصدوا فيها 80 مقعدا). أما عن التجربة المغربية؛ فقد قال المتحدث في حديثه ل«التجديد»، إنها من أنجح التجارب في العالم العربي دون مبالغة لأن تجربة الإسلاميين نمت وتطورت على نار هادئة، مبرزا أن نضجا كبيرا كان لدى الحركة والتنظيم السياسي للإسلاميين في علاقته مع الدولة، رغم اتسامها في بعض الأحيان بالشد والجذب، وهو ما جعل حزب العدالة والتنمية يشارك في الانتخابات مثل باقي الأحزاب السياسية التي تؤثث المشهد الحزبي المغربي، يضيف المتحدث. وأشار قرنفل، إلى حقيقة ثانية وتتجلى في وجود تشابه بين الحالتين المصرية والتونسية في مقابل تباين التجربتين عن التجربة المغربية، حيث أوضح أن حكومة الإسلاميين في المغرب ليس لها تحدي بناء المؤسسات كما هو الشأن لدى المصريين والتونسيين، لأن المهام المنوطة بها تدبيرية وتشريعية فقط؛ لأن الدستور حُسِم قبل الانتخابات وتبوئها السلطة، اللهم إلا تحدي إصدار القوانين التنظيمية لتنزيل الدستور. تميز التجربة المغربية.. يجمع محللون، على أن الوضع في المغرب مختلف عن وضع مصر وتونس، بالنظر إلى مؤشرات عديدة، إذ أكد أستاذ علم الاجتماع السياسي حسن قرنفل؛ أن المغرب لا يعرف مواقف حادة من مشاركة الإسلاميين كما في مصر، وقال إن الأمر مختلف لأن حزب العدالة والتنمية يتبنى خطابا بسيطا يفهمه أفراد الشعب، وقائم على طرح قضايا المواطن في النقاش العمومي وتبني الصراحة التي لم يعتدها الرأي العام. مضيفا، أن ذلك جعل الرأي العام ينظر بإعجاب وتشجيع إلى حكومة العدالة والتنمية التي تتبنى خطابا واقعيا يتأسس على حصر المشاكل ومحاولة إيجاد الحلول لها بواقعية تعتمد على الإمكانيات المتاحة، مستحضرا ما وصفها بالشجاعة التي تحلى بها بنكيران في إصلاح صندوق المقاصة ونظرته الاستراتيجية من خلال لجوئه إلى الزيادة في الأسعار كحل أصعب يهدد شعبيته. وأكد المتحدث، أن التدبير الحكومي يتسم بالواقعية السياسية لعدم تقديمها للحلول السهلة التي ترفع من شعبيتها وعدم ترددها في اتخاذ الحلول الصعبة. وكانت الانتخابات الجزئية في بعض الدوائر التي يعاد فيها الانتخاب فرصة لمعرفة حجم الثقة التي ما تزال الحكومة تتمتع بها، واعتبر المتحدث، الفوز الساحق في دائرة إنزكان الأخير يؤكد أن المواطن المغربي لا يزال لديه أمل في الحكومة ومقتنع بما قدمته إلى حد الآن، ومقتنع أنه لم يعطها الوقت الكافي. وأوضح أن الحكومة تتحمل مسؤولية كبيرة في تحقيق رهانات الإصلاح والقطع مع مظاهر الماضي فيما يتعلق بالفساد والاستبداد الذي كان الإسلاميون أنفسهم يعانون منه وخاصة الصوت الواحد وإنكار الآخر.