إن الحديث عن مدرسة المستقبل، في زمن استحقاقات القرن 21 ورهانات العولمة، ليس حديثا عن نسق تربوي معزول عن البناء الاجتماعي العام، وإنما حديث في العمق عن مؤسسة تتفاعل بنيويا وتتكامل وظيفيا مع مختلف الأنساق السوسيواقتصادية والمهنية والثقافية والسياسية... ولن يكون هذا الحديث مفيدا وإجرائيا، في اعتقادنا، إن هو لم يستحضر التطور الحاصل في أدوار ووظائف وآليات اشتغال المدرسة، عبر الوقوف على سيرورات التحولات التي طالت وظائف وأدوار المدرسة في الماضي والحاضر. حيث انتقلت هذه الوظائف من التلقين والشحن بالمعارف إلى وظائف أكثر تنوعا ودينامية، تنخرط في محاولات إيجاد حلول ناجعة لتحديات إكساب التلميذ مناهج تحصيل المعرفة، وتعزيز مهاراته الحياتية، وتوسيع خبراته، وتطوير جاهزيته للشغل وتحقيق الذات والعيش المشترك مع الآخر، من أجل مجابهة مصاعب الحياة في ظل متطلبات العولمة. و لا يخفى على المتتبع المهتم الأهمية البيداغوجية والتربوية والسياسية لممارسة تمرين السفر في المستقبل بحثا عن ملامح ومواصفات المدرسة الجديرة بهذا المستقبل، وذلك باعتباره تمرينا يطلق العنان لملكات التخيل والتأمل والاستشراف والتفكير بمنطق البدائل والسيناريوهات. إن الانخراط في تمرين من هذا القبيل، هو انخراط في التخطيط لمستقبل التربية انطلاقا من معطيات الحاضر، هذا المستقبل الذي تعددت بشأنه المنظورات والآراء والأبحاث التي تناولت بالدراسة والتحليل ملامح وأسس وأدوار مدرسة المستقبل، حيث غالبا ما تأتي هذه الآراء مركزة على بعض العناصر التي تهم المقاربة أو النموذج البيداغوجي أو الكتاب المدرسي أو طرق التقييم أواستراتيجيات التعلم أو كفايات المدرس... أو تكون منحازة لبعض الأدوار على حساب أخرى. و في هذا الصدد، يمكن التمييز بين مجموعة من الأطروحات الفكرية، حيث يؤكد الطرح الأول على أن لا سبيل لإصلاح المجتمع إلا عبر المدرسة، وهو طرح متحمس في دعواته لتغليب دور المدرسة في إنجاز وحسم التغيير الاجتماعي، بحكم أن المدرسة تتحكم في معادلات وميكانيزمات التغيير الاجتماعي، وهكذا، فأصحاب هذا الطرح يضخمون دور المدرسة ويحملونها أكثر من طاقتها. وفي مقابل هذا الطرح يبرز طرح معاكس ينكر على المدرسة قدرتها على إحداث التغيير الاجتماعي، ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن المدرسة، في إطار التنشئة الاجتماعية، تعمل على إعادة توليد المجتمع من خلال معاودة إنتاج نفس النمط الاجتماعي السائد بعلاقاته ونخبه وتراتبياته وتمايزاته الطبقية. ولا سبيل في نظرهم لإصلاح المدرسة إلا عن طريق إحداث تغيير في بنيات المجتمع. في حين، برزت اتجاهات أخرى لعل أشدها تطرفا ذلك الذي يدعو إلى موت المدرسة وزوالها، عبر تخليص المجتمع منها وإقامة نظام من التربية والإعداد يتجاوز إطار المدرسة، ويتم في ساحة مؤسسات المجتمع المختلفة. إن كلا من الأطروحات المتداولة سالفا، لا تسعفنا في الفهم العميق والمتوازن لأدوار المدرسة المتعلقة أساسا بإعداد الأفراد للحياة بشكل شامل ومتوازن، وحتى بالنسبة للذين يعتبرون المدرسة محافظة فلا يجوز، في اعتقادنا، أن يرفضوا وظيفتها التطويرية من خلال هامش الحرية الذي تحتوي عليه ومناطق الإفلات الاجتماعي التي توفرها للأفراد. وعليه، فإن مدرسة المستقبل يجب أن تكون وبالضرورة أداة للإبداع وللتجديد والتطوير وصناعة المستقبل وتوفير شروط ومناخ التغيير والتقدم الاجتماعيين، ولن يتحقق لها ذلك إلا بترسيخ ذلك الوعي السياسي النقدي المطلوب لدى مختلف مكوناتها، والقيام بأدوارها الحاسمة في اتجاه تحرير طاقات واختيارات الأفراد والجماعات، وتحقيق التوازن المطلوب بين حاجيات الفرد وحاجيات المجتمع، في أفق تجسيد التماسك والتضامن واستمرارية المجتمع. إن انخراط الخطاب الإصلاحي سواء في بعده الرسمي أو غير الرسمي في الترويج لهذه الأطروحة أو تلك، فوت على الجميع فرصة الإمساك بالمعالجة الشاملة والمتعددة الأبعاد للمسألة التربوية، وأفقد هذا الخطاب طرحه النسقي الاستراتيجي المتماسك وأدخله في دائرة التبسيط والاختزال للقضايا الجوهرية والإشكاليات المعقدة التي ينبغي التركيز عليها، داخل إطار يحدد، بشكل صريح، المرجعيات الفلسفية والتربوية والاجتماعية ويرصد المبادئ والضوابط الموجهة لكل تفكير في شأن مستقبل التربية. إن التأسيس لمنظور إصلاحي لمدرسة المستقبل لا يجوز أن يقفز على أعطاب وإكراهات الحاضر، وإنما يتطلب نوعا من الترصيد والتطوير عبر استيعاب وتجاوز الاختلالات التي تم رصدها في الواقع وفق مختلف التشخيصات والتقويمات المؤسساتية، والتي أفضى جلها إلى خلاصات تؤكد أن المغرب يعمل بمدرسة استنفذت جل أغراضها، ولم تعد قادرة على مسايرة التغيرات الداخلية و تحديات وتحولات القرن 21، بالإضافة إلى تبدد ثقة المجتمع إن لم نقل فقدانها في منتوج وخدمات وأدوار المدرسة. إن خلاصات من هذا القبيل لهي اعتراف رسمي بفشل المدرسة في إيجاد المواطن المطلوب وفي توفير الخدمات الأساسية التي يجب أن تقدم للساكنة المدرسية في زمن برزت فيه صيغ جديدة للتربية والتعليم والعمل، وأصبحت فيه التعلمات تقاس بدرجة وظيفيتها ونفعيتها ومدى إدماجها وتطبيقها في الحياة العامة. إنه اعتراف صريح أيضا بفشل المدرسة في وظيفتها التوجيهية. وعليه، وجب التفكير بمقاربة مغايرة والاشتغال بمنهجية مختلفة عن السابق، ومن هنا تبرز أهمية اعتماد منطق ومدخل المقاربة الموجهة للتفكير في مدرسة المستقبل. إن التفكير في المستقبل بمدخل التوجيه هو تفكير بمنظور تطوري وتنموي، يقطع مع الأطروحات السكونية والديكارتية، وينخرط ضمن جيل البرديكمات الحديثة، التي ترى في المدرسة الموجهة أحد المداخل الإستراتيجية لإعادة النظر في النسق المدرسي شكلا ومضمونا. وما يميز هذا المفهوم، هو غنى مدلولاته الإبستيمولوجية من خلال ما يولده من أفكار وتصورات وأساليب وتدابير للتغيير المخطط في المجال التربوي. ولا تكمن أهميته فقط في توجيه الممارسة التربوية بشكل متبصر ومنسجم مع منطق العصر المتسم بالتحولات المتسارعة في كل المجالات والأصعدة، وإنما أيضا في إعمال الفكر التربوي الموجه لهندسة الفعل التربوي وقيادة وتدبير الإصلاح الذي يستشرف مستقبلا أصبح التغيير قاعدته والاستقرار استثناءه. إن المدرسة الموجهة تشتغل على تجسيد فكرة مفادها أنه في صلب النجاح المدرسي والحياتي يوجد التوجيه التربوي، وفي قلب التعلمات تبرز الميولات والرغبات، وفي مساحات الأنشطة المدرسية تتبلور القرارات والاختيارات والقناعات، وضمن آليات اشتغال المدرسة يترسخ الحس التوجيهي. ولا تشكل هذه المدرسة بديلا للتلميذ في الاختيار، بل على عكس ذلك، تعتبر التلميذ مسؤولا عن اختياراته المدرسية والمهنية والحياتية، وتلزم أطرها بالمهمة التوجيهية، ضمن كل مساحات الاشتغال والتدخل والفعل، وتحرص على القيام بأدوار الإعداد والتأهيل والتحفيز لإيقاظ الإمكانات الذاتية والموضوعية المساعدة على توفير فرص النجاح المدرسي بكل أبعاده. من هنا، تصبح الأدوار المتعلقة بتلقين المتعلمين أنماطا من المعارف والخبرات والمهارات الفكرية متجاوزة لصالح أدوار توجيهية أكثر عمقا ودلالة تجعل من التوجيه وظيفة من الوظائف الأساسية للمدرسة، وذلك من خلال تطوير قدرات التلميذ على الفعل والمشاركة والتجريب والفهم لما يعتمل داخل المحيط الاجتماعي العام، ومساعدته على النماء الشخصي والاجتماعي والمهني في أفق تسهيل اندماجه في حاضر يستشرف المستقبل. إن تجسيد الوظيفة التوجيهية للمدرسة يتطلب ترسيخ ثلاثة مبادئ أساسية.