من أخطر المخاطر التي تواجه الديمقراطية المغربية وجود أدعياء لها يتغنون بها وينسبون أنفسهم للعقلانية والحداثة، بينما يشهد واقعهم ورؤيتهم للمخالفين لهم فكريا وسياسيا عن نظرة قوامها الاستبداد الفكري والدعوة إلى الاستئصال. قبل أسبوعين تقدم فريق العدالة والتنمية بسؤال شفوي حول فيلم "لحظة الظلام" وسؤال آخر حول ظاهرة الاختطافات التي أنكرها وزير حقوق الإنسان وتؤكدها يوميا عشرات الوقائع، وهو ما يدخل في إطار قيام الفريق بواجبه الدستوري في الرقابة على الحكومة ومساءلتها. طرح النواب أسئلتهم وأجابت الحكومة بما أجابت وانتهى الأمر، الاستئصاليون اعتبروا القضية هجوما بدأه الإسلاميون في إطار خطة لبسط السيطرة والتحكم في المجتمع. وهذا ما ورد على لسان السيد عبد المنعم الدلمي المدير العام لجريدة ليكونموميست في المقال الافتتاحي للعدد الثلاثي لأيام الجمعة والسبت والأحد. كاتب المقال قال إن الديمقراطية المغربية في خطر (أي والله! سؤال شفوي يهدد أوصال الديمقراطية). والأكثر من ذلك أنه وجه نداء إلى المسؤولين الحاليين إذا كانوا عاجزين عن مواجهة هذا الخطر أن ينسحبوا من مواقع القرار ويتركوها لغيرهم ممن هم مصممون على أن يحسموا في الأمر. ولعل المقصود هنا حسب السياق مسؤولين استئصاليين لا يرون في التجربة المغربية في العلاقة بالحركة الإسلامية خصوصية، ويرون كما يرى السيد الدلمي أن مختلف الأطراف تتعامل مع الحركة الإسلامية تعاملا موسوما بالضعف وتغلب عليه المجاملة. وبما أن الطيور على أمثالها تقع، فقد التقطت "الأحداث المغربية" افتتاحية ليكونوميست وأعادت نشرها في الصفحة الأولى، وهي الصفحة التي نزل إليها مدير "الأحداث" هو الآخر ليعرف على نفس النبرة، ويؤكد أن المغرب يواجه خطر التطرف الديني الذي يعمل حسب ادعائه على عدة واجهات منها بعض المساجد الرسمية أو الخاصة أو العشوائية، وواجهة العنف، وواجهة الشبكات الإرهابية التي تخطط للقيام بعمليات مسلحة ضد مصالح أجنبية ومنشآت سياحية. وحصيلة هذا الخطاب الاستئصالي، أنه ليس هناك اتجاهات معتدلة داخل الحركة الإسلامية بما في ذلك تلك التي تعمل في إطار المشروعية وتظهر خطابا معتدلا في الشكل ولكنه في زعمهم متطرف في الجوهر. والدليل على ذلك حسب أصحاب الخطاب المذكور هو استنكار بعض الصحف التي تحترم نفسها لأسلوب الاختطافات الذي دأبت عليه بعض الأجهزة الأمنية في الآونة الأخيرة في خرق سافر لمبادئ دولة الحق والقانون، ومساءلة نواب الأمة للحكومة في هذا الموضوع...فهذا الاستنكار وتلك المساءلة في عرف المنطق الاستئصالي ليس سوى مجهودات للبحث عن الأعذار لدعاة القتل والإرهاب. هذه الكتابات الاستئصالية التي بدأت تتكاثر هذه الأيام كما تكاثرت قبيل الانتخابات التشريعية، تزامنت هذه المرة مع مساءلة الحكومة سواء داخل لجنة الداخلية أو في الجلسة العمومية عن تجاوزات بعض الأجهزة الأمنية وعن ظاهرة الاختطافات والاعتقالات غير القانونية. كما تزامنت مع اقتراب موعد الانتخابات الجماعية مما يطرح أكثر من سؤال حول خلفيات هذه الحملة المنظمة وحقيقة غيره أصحابها على الديمقراطية كما يحق لنا أن نتساءل عما إذا لم يكن أصحابها هم الذيم يبذلون مجهودات كبيرة للبحث عن الأعذار للخروقات المذكورة ويسعون لحث الدولة المغربية التي تبني مقاربتهم الاستئصالية التي قادت بلادا مجاورا إلى حروب أهلية رهيبة. والأخطر من ذلك هو تشكيك هؤلاء في مقومات الدولة المغربية وقدرتها على المحافظة على الاستقرار وحماية المجتمع، والتشكيك في مقاربتها الراشدة القائمة على الانفتاح على الحركات الإسلامية التي تؤمن بالعمل من داخل الشرعية التي جعلت التجربة المغربية من الاستثناءات الفريدة في العالم الإسلامي. بقيت هناك ملاحظة أخيرة تتعلق بمفهوم التطرف في الخطاب الاستئصالي، فالحديث عن التطرف من قبل دعاة الاستئصال مفهوم ماداموا متطرفين في الجهة الأخرى، ومادام البعض منهم قد تخصص في الدفاع عن نشر الفاحشة في المجتمع المغربي وكل ما هو مخل بالفضيلة والحياء مما يجرمه قانون الصحافة. والواقع أنه عند الفحص والتأمل فإننا سنجد أن الشبح الذي يهدد بلادنا ليس هو "التطرف" الديني، فالنسيج الثقافي والحضاري والتاريخي لبلادنا ومجتمعنا قد برهن دوما على أن المغرب محصن ذاتيا ضد التطرف والمقارنج بالدول المجاورة والتجارب العربية دالة وشاهدة، لكن الشبح الذي يهدد بلادنا هو التطرف الذي ينطلق منه الخطاب الاستئصالي والذي يتستر بشعارات براقة مثل الحداثة والعقلانية والديمقراطية والله يعلم أن أصحابه ما هم بحداثيين ولا عقلانيين ولا ديمقراطيين. والله يعلم أن الاستئصاليين لكاذبون. الشبح الذي يهدد بلادنا هو التطرف الإباحي والإمعان في استفزاز مشاعر المواطنين المغاربة، والانتكاسة التي قد تنزلق إليها بلادنا إذا سايرت منطق الدولة البوليسية الذي أصبح له أنصار ومدافعون تحت ذريعة مقاومة "الإرهاب". فالمتطرف الأول والانتكاسة المذكورة هما اللذان قد يجران بلادنا إلى أنواع من التطرف عافانا الله منها.