الحج عبادة الجهاد ومغفرة الذنوب الجهاد في سبيل الله ماض إلى يوم القيامة، ومن لم يغز أو يحدث نفسه بغزو مات على غير شيء. والجهاد مراتب ودرجات، أعلاه القتال في سبيل الله، ومن الجهاد، جهاد النفس وجهاد الشيطان وجهاد المنافقين والجهاد باللسان أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، والجهاد بالقلم والجهاد العلمي والثقافي والسياسي. ففي الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله على النساء جهاد؟ قال: نعم عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة) رواه أحمد وابن ماجة وإسناده صحيح وأصله في الصحيح. وفي حديث آخر عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت >يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور< رواه البخاري. وفي زمان تعطل فيه الجهاد، إلا إذا كان من باب الدفاع عن النفس، مثل الذي في فلسطين والشيشان وكشمير والفلبين وغيرها. فحجوا عباد الله، فإن في الحج من معاني الجهاد ما لا يغني عن القتال، ولكنه خير من القعود والتقاعس، فإذا كان جزاء الشهيد جنة عرضها السماوات والأرض، فجزاء الحج المبرور الجنة والرضوان. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة< متفق عليه. قيل والحج المبرور هو الذي لا يخالطه شيء من الإثم، وقيل هو المقبول، وقيل هو الذي تظهر ثمرته على صاحبه بأن يكون حاله بعده خيرا من حاله قبله. فيا عبد الله يا من يسر لك الله أسباب الحج ونويت وأعددت العدة للسفر المبرور: اعلم أن الحج المبرور إنما ينال بالجهاد في سبيل الله، جهاد النفس، وجهاد البدن، وجهاد الشيطان، وجهاد المال. فالحج جهاد في سبيل الله، ولابد للمجاهد من زاد يتزود به لخوض المعركة تلو المعركة حتى يحج الحج المبرور ويكون مع الصادقين في مقعد صدق عند مليك مقتدر. الحج جهاد للنفس إن النفس حبب الله لها من الملذات والشهوات ما لا تستطيع الفكاك منه إلا بالمجاهدة. قال الله تعالى: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب) آل عمران 14. إن الحاج المسافر إلى الأرض المقدسة يترك خلفه أحب الأشياء إليه وهو لا يدري هل يعود من حجه أم يكتب الله له الشهادة في خير أرض وأعظم بقعة وأطهرها وأقدسها. فالحاج خرج من ماله وترك زوجته وولده وكل ماله. وحب المال والزوجة والولد قد يحول بين الحاج والخروج للحج في سبيل الله، فمن جاهد نفسه في هذه فقد فاز، ومما وجب على الحاج أن يجاهد نفسه فيه وهو في الحج يؤدي مناسكه، ما أخبر الله به في محكم كتابه، فقال سبحانه: (الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) البقرة 197، فجاهد نفسك حتى لا تقع في الرفث أو العصيان بكل أنواعه والجدال، وهو المناقشة التي تفضي وتؤدي إلى الخصومة والسباب والشتائم. ومن الجهاد في الحج جهاد الشيطان فإن إبليس اللعين لا يهدأ له بال حتى يصيب من الإنسان مقتله، إذ هو عدوه اللدود الذي كان آدم سببا في إخراجه من رحمة الله إلى لعنته. ومن مداخل الشيطان إلى الإنسان التخويف بالفقر. قال تعالى: (الشيطان يعدكم الفقر) ويأمر بالشح والبخل، فمتى أنفق الإنسان ماله في الحج سخية به نفسه فقد جاهد الشيطان وأرضى الرحمان، والشيطان ينزغ بين العباد بالكلمة السيئة تخرج من العبد فيردها الآخر بأسوأ منها فتقع الخصومة بين الحاجين، ومن لم يقل إلا خيرا فقد جاهد الشيطان وغلبه، قال تعالى: (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم) وفي الحديث: "والكلمة الطيبة صدقة، عباد الله، إنكم في مناسك الحج ترمون الجمرات في الجمرة الكبرى والوسطى والصغرى، فتذكر وأنت ترميها أن ذلك من مجاهدة الشيطان وجهاده، ففي الحديث قال ابن عباس: لما أمر الله إبراهيم بذبح ابنه عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الأخرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم مضى إبراهيم لأمر الله تعالى. ومن جهاد الحج جهاد البدن فالتنقل لأداء المناسك بين الصفا والمروة وعند الطواف وعند الانتقال إلى منى ثم إلى عرفة ثم منها إلى المزدلفة ثم العودة إلى مكة والرجوع إلى منى والمبيت فيها ثلاثا ورمي الجمرات. كل هذه التنقلات لأداء مناسك الحج في حر الشمس ولهيبها وشدة الزحام، تحتاج من الحاج الصبر المضاعف، فلا يجد راحته إلا في أداء المناسك على مشقتها وعنائها، وقد يزيد من شدة التعب الأمراض التي غالبا ما يصاب بها الحاج كالزكام وألم الرأس بسبب الحر الشديد والتعب المضاعف، فمن صبر وتغلب على المتاعب وأدى مناسكه كاملة رغم التعب فقد راغم النفس والهوى والشيطان وجاهد ببدنه في سبيل الرحمان، وأما الركوب فلا يلجأ الحاج إليه إلا عند الضرورة، سواء في السعي بين الصفا والمروة أو في الطواف أو في التنقل إلى منى أو عرفات أو المزدلفة. فإن لكل منسك فيه مشقة حلاوة للإيمان ومضاعفة للأجور ومما يروى عن قصة الصفا والمروة ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: >... ثم جاء بها إبراهيم (أي هاجر) وبابنها إسماعيل، وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفا إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل فقالت يا إبراهيم، أتذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء، فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال نعم، قالت إذا لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهذه الدعوات، ورفع يديه فقال: (رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع... حتى بلغ لعلهم يشكرون)، وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال: يتلبط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود، ثم جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليه فنظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: فذلك سعي الناس بينهما، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا، فقالت: صه! تريد نفسها ثم تسمعت أيضا، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث (إعانة أو إغاثة)، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه، أو قال: بجناحه حتى ظهر الماء... فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله وذكر الحديث بطوله. الحج جهاد بالمال إن الحج جهاد بالمال في سبيل الله، فالحاج يبذل ماله سخية به نفسه في سبيل أداء الحج الذي هو الركن الخامس من أركان الإسلام، فالنفقة في سبيل الحج درجة عالية من الجهاد ينال العبد بها أعظم الأجر وأعلى الدرجات، كما قال الله عز وجل: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم) البقرة 162، ومن التضحية بالمال الهدي الذي يقدمه الحاج يوم النحر، والهدايا والهبات التي يتبرع بها على أهله وأقاربه وذويه، والنفقات الخاصة بالسفر والسكن والأكل والشرب. وعدو الله إبليس، يقف للمؤمن في باب النفقة فيدعوه إلى البخل والشح ويخوفه الفقر وذهاب المال، فمن أنفق ماله طيبة بها نفسه في سبيل الله فقد جاهد الشيطان وغلبه. عباد الله إن المجاهد يبتغي بجهاده وجه الله وهو بين أحد الحسنيين: إما النصر أو الشهادة، أما الحاج الذي أدى مناسكه على الوجه الذي يرضي الله عز وجل، مقتديا بالنبي صلى الله عليه وسلم في حجه الذي قال: (خذو عني مناسككم) فإن هذا الحج ينتصر نصرا مؤزرا في حال عودته كما في حال موته في الأرض المطهرة، فإن مات فهو شهيد، وإن عاد فهو منتصر على أهوائه ونوازعه ونفسه وشيطانه وقرينه. فالحج المبرور هو الذي يعود صاحبه منتصرا بمغفرة الذنوب، حتى إنه يعود كيوم ولدته أمه، يطلع عليهم ربهم فيقول لملائكته اشهدوا إني غفرت لهم، والحج المبرور ليس له من جزاء إلا الجنة، فاللهم لا تحرم حجاجنا من حج مبرور وسعي مشكور وذنب مغفور، أخي الحاج أختي الحاجة هذا طريق الجهاد في الحج قد عرفته فالزمه واجتهد في طاعة الله وكونوا ممن مدحهم الله في كتابه فقال: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة). فاللهم ارزقنا حجا إلى بيتك المحرم وهيء لنا أسباب ذلك ويسر لكل مسلم أسباب الحج المبرور وتقبلنا وإياهم في عبادك الصالحين.