ممن نتعلم «فقه الحياة»، وكيف السبيل للوصول إلى هذا الفقه المنشود، الذي من خلاله يستطيع المسلم أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، وأن يعمل لآخرته كأنه يموت غدًا. هل نتعلم «فقه الحياة» ممن يتمسك بأدلة الشرع فحسب؟ أم نتعلمه ممن يتمسك بأدلة الشرع مع النظر كذلك إلى الواقع؟. هذه الأسئلة وما يتفرع عنها من قضايا، وما يتعلق بها من مسائل وإشكالات، هي موضوع «المائدة الفقهية» الدسمة التي قدمها العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين على قناة «أنا» الفضائية، وذلك من خلال برنامج «فقه الحياة»، والذي تعمل «المساء » على نشره بشراكة مع قناة «أنا» اعتبر العلامة الدكتور يوسف القرضاوي أن الجهاد لا يقتصر فقط على حمل السلاح والقتال، موضحًا أن هناك جهادًا مدنيًا يشمل تعليم الناس وتثقيفهم وتشجير الشوارع والحفاظ على الصحة وبناء المستشفيات، كما أن هناك جهادًا اجتماعيًا برعاية الأسرة وحمايتها من التفكك. وأشار إلى أن ذلك لا يتعارض مع جهاد القتال أو يلغيه، لافتًا إلى أن الأمر يندرج في إطار التخصيص وتوزيع الأدوار، لتتمكن الأمة من سد كل الثغرات، وأكد أن التظاهرات تعد جهادًا مدنيًا إذا استهدفت إيقاظ الأمة لقضية من القضايا أو لرد العدوان. وتطرق العلامة القرضاوي، خلال حلقة برنامج «فقه الحياة» الذي استضاف العلامة القرضاوي على قناة «أنا» الفضائية وقدمه أكرم كساب، إلى دور المرأة في الجهاد، مشيرًا إلى أن المرأة تجاهد سواء بالقتال أو بمعاونة المقاتلين وإسعاف الجرحى، وفي الحروب الحديثة فإنه إذا لم يمنعها مانع فلها أن تشارك مثل الرجل تماما. وأوضح أنه في جهاد الدفع للمرأة دورها مثل الرجال، حيث تخرج للجهاد بدون إذن زوجها أو أبيها، ضاربًا المثل بالعمليات الاستشهادية التي نفذتها فلسطينيات. - الجهاد المدني مصطلح جديد، وحسب علمي أن لكم السبق في هذا، فما المقصود بهذا المصطلح الجديد وهل هذا خروج عن الجهاد الذي عرفه الناس في القديم؟ > بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا ومعلمنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد.. فالجهاد المدني هو كلمة أطلقتها عندما أسسنا مؤسسة القدس الدولية، التي شرفني الإخوة برئاستها، وهذه المؤسسة مهمتها الحفاظ على القدس، كبلد، ومدينة، ومسجد، ومقدسات، وكشعب، بمسلميه ومسيحييه؛ لأن إسرائيل تحاول أن تفرغ القدس من أهلها، وتعاملهم معاملة تجعلهم يملون وييأسون ويتركون البلاد بما فيها. فنشأت مؤسسة القدس، فيها عرب وعجم، ومسلمون ومسيحيون، وسنة وشيعة، وإسلاميون وقوميون، أي من كل الفئات، وقد سألني بعض الإخوة: أليس من حقنا أن نجاهد في سبيل الله، ونحرر القدس ونقف أمام الطغيان الإسرائيلي، فقلت لهم: نحن هنا نجاهد ولكن جهادنا جهاد مدني وليس بجهاد عسكري، فكان هذا أول استخدام لهذا التعبير على ما أعلم. - لعل البعض يتوهم أن في هذا نوعًا من التخاذل، وفصلا بين المدني والعسكري، فأين الشمول؟ > هناك شمول في الدعوة، ولكن الحركة يجب أن يكون فيها تخصص؛ لأنه أيضًا حينما دعوت إلى إنشاء الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية، لمقاومة موجات التنصير والمنصرين الأمريكيين الذين أرادوا أن ينصروا المسلمين في العالم، اجتمعنا في الكويت لوضع النظام الأساسي لهذه المؤسسة وكان من ضمن قواعدها ألا تتدخل لا في السياسة ولا في الجهاد، وقال لي بعض الإخوة وأذكر منهم الدكتور أحمد الملط رحمه الله : أأنت يا شيخ يوسف الذي تدعو إلى الإسلام الشامل، وإلى أن الإسلام عبادة وقيادة وصلاة، وجهاد، ودين، ودولة، وحق، وقوة؟ أنت الذي تقول لا نتدخل في السياسة ولا نتدخل في الجهاد، قلت له: أنا أؤمن بأن الإسلام يشمل هذا كله، ولكن أؤمن بالتخصص؛ لأننا في هذه الهيئة متخصصون في العمل الخيري والعمل الدعوي، وليس لنا علاقة لا بالسياسة ولا بالجهاد، الذي يريد أن يجاهد هناك مؤسسات مخصصة لهذا. هذا الذي قولته في الهيئة الخيرية، وقولته أيضًا في مؤسسة القدس للإخوة الذين قالوا لي: وأين الجهاد؟ الجهاد له أناس، وهناك فصائل مخصصة للجهاد وللمقاومة والعمل العسكري، إنما عملنا نحن عمل مدني، نجاهد في هذا الميدان. - إذن هو تخصص وتوزيع أدوار؟ > نعم. تأصيل شرعي - من أين استقيتم فكرة الجهاد المدني؟ وما تأصيلها الشرعي؟ > بالنسبة للتأصيل الشرعي فإن القرآن نفسه يشير إلى أن الجهاد ليس جهادًا فقط بحمل السيف، كما في سورة الفرقان حينما قال: (فَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) أي بالقرآن، فاعتبر جهاد البيان، وجهاد التبليغ، وجهاد الدعوة (جِهَاداً كَبِيراً). والجهاد يكون أيضًا بتحمل الأذى والصبر على مراحل الطريق وإن طال (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ) وقال: (وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ) وكذلك في آخر سورة العنكبوت (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا). وقد ذكرنا فيما سبق، جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الظلمة، وهذا كله من الجهاد الاجتماعي، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول عن هؤلاء الظلمة: «من جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» فاعتبر هذا نوعًا من الجهاد. - إذن فضيلتكم تعتبرون أن تغيير المنكر بأنواعه يدخل تحت الجهاد المدني؟ > نعم، من الجهاد المدني جهاد اللسان، والرسول عليه الصلاة والسلام قال لحسان بن ثابت: «إن المؤمن ليجاهد بلسانه، وقال له: اهجهم- أي الكفار- فشعرك عليهم أشد من وقع الحسام في وقع الظلام، اهجهم وروح القدس يؤيدك، فالجهاد قد يكون بالشعر وبالبيان، وبعض الصحفيين يمكن أن يجاهد بكتابة مقالة أو عمل تحقيق صحفي يكون أشد على اليهود من العمل بالسيف. والقرآن أيضًا أشار إلى قضية مهمة، حين قال بعد غزةتبوك (وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا) فلا يصح أن يعمل كل الناس في الجهاد العسكري، وتنسى الأمور الأخرى، والأمة الواعية هي التي تسد كل الثغرات، فلابد أن يوجد من يفقه الناس في الدين، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: «من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع»، ولذلك نحن نعتبر العمل العلمي والعمل التعليمي، وتثقيف الناس وتعليمهم، وفتح المدارس، وفتح الجامعات كل هذا يعتبر نوعًا من الجهاد المدني. جهاد بيئي وتعليمي - إذن تسمون ذلك «الجهاد التعليمي» فهل هناك أنواع أخرى من الجهاد المدني؟ > نعم، مثلاً النبي عليه الصلاة والسلام جاءه رجل يطلب أن يبايعه على الجهاد، فقال له: «أأحد أبويك حي؟» قال: بل كلاهما حي، قال: «إرجع ففيهما فجاهد» فهذا جهاد أسري أو جهاد اجتماعي؛ للإبقاء على الأسرة حتى لا تتفكك ولا تضيع إذا ذهب عائلها وليس لهم غيره، وأحدهما قال للنبي: «جئت وتركت أبواي يبكيان، قال له: إرجع فأضحكهما كما أبكيتهما، ويقول لآخر: إرجع إلى أمك والزمها فإن الجنة عند رجليها، كل ذلك نوع من الجهاد الاجتماعي. - لعلي أفهم أيضًا أن قضية التشجير والتثمير، نوع من أنواع الجهاد المدني؟ > هذا نوع من أنواع الجهاد، وهناك أيضا الجهاد الصحي للحفاظ على حياة الناس وصحة الناس، فاليهود مثلا يريدون أن يموت أهل القدس، بمسلميهم ومسيحييهم، جوعًا أو مرضًا أو ضياعًا، فلابد أن نقاوم كل هذه الأهداف، بحيث نحافظ على الصحة، ونحافظ على المستشفيات، ونبني مستشفيات جديدة، ونمد هذه المستشفيات بالأدوية المطلوبة، وبالأطباء المطلوبين، ونبعث ببعض طلابهم إلى الخارج ليستكملوا دراستهم العالية، حتى يعودوا ليقوموا بواجبهم، كل هذا نوع من الجهاد المدني. - لكن ألا ترون أنه من الممكن في فترة من الفترات أن يرى العلماء أن الجهاد بهذا الشكل هو المشروع، وأن القتال قد رفع تمامًا؟ > هذا غير وارد، فالأمر كما أشرنا يتعلق بالتخصص، فكل واحد له وظيفته وله دوره بحسب المكان وبحسب الزمان، وبحسب السياسة الشرعية، التي تقتضي أن هذا غير هذا. - هل المظاهرات مثلاً تدخل في الجهاد المدني؟ > يمكن أن تدخل في الجهاد المدني إذا أردنا بها إيقاظ الأمة تجاه قضية من القضايا، أو أن يحدث عدوان مثلاً على القدس ونحتاج إلى تحريك الأمة كلها. - هناك من يقول إن هذه المظاهرات فيها ما فيها من البدعة؛ لأننا نقلد الغرب؟ > هذا قول عالم أو اثنين، ولا يمكن أن يؤثر على آلاف العلماء الذين يعارضون هذا، وهؤلاء قالوا هذا الكلام ومع ذلك عند الرسوم المتحركة تحركت المظاهرات السلمية في أنحاء العالم، وحينما وقع العدوان على غزة دعا الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في جميع أنحاء العالم إلى أن يخصصوا يومًا يكون «يوم الغضب» على المحتلين والمعتدين، واستجابت الأمة الإسلامية لنداء الاتحاد، وقامت بما قامت به في هذا اليوم، فوجود بعض الناس لا يمكن أن يكون مؤثرًا على مجموع الأمة. - هل تعتقدون أن الجهاد المدني، خاص بالشعوب والأفراد، أم أن الدولة كذلك لها في هذا المجال دور؟ > هذه المؤسسات هي مؤسسات شعبية، ولذلك تقوم بهذه الأدوار، والدولة لو دخلت في مثل هذا، وتبنت بعض الجهاد المدني، لا حرج عليها، إنما الأصل في هذه المؤسسات أنها مؤسسات شعبية أهلية مدنية، وما دامت من مؤسسات المجتمع المدني فلا غرو أن تهتم بالجهاد المدني.