في سياق العدوان الصهيوني على قطاع غزة، كنا أمام خطابين بائسين؛ الأول يتهم حماس بأنها تغامر بأرواح الشعب الفلسطيني ولا تتوخى الحكمة في التعاطي مع الوضع، بينما يشكك الثاني فيها إذ يراها تميل إلى التهدئة عبر وساطة مصرية جديدة، لا تختلف برأيه عن وساطة عمر سليمان مطلع 2009، إثر حرب “الرصاص المصبوب"، أو حرب الفرقان بحسب تسمية حماس. في الخطاب الأول، لا ندري كيف تكون الحكمة برأي أولئك؟! وكيف تثبت حماس أنها عاقلة؟! هل يكون ذلك بإعلانها الاستسلام لإرادة العدو، وقبول معادلة العيش؛ مجرد العيش تحت الحصار، وفي ظل احتلال البحر والجو، واستمرار الاغتيالات؟! ما ينساه هؤلاء أن الكيان الصهيوني هو من بدأ العدوان باغتياله للقائد أحمد الجعبري حين توفرت إمكانية اغتياله؛ هو الذي يُعد صيدا ثمينا لا تحول دون اغتياله أية تهدئة مهما كانت. سيقولون إن ذلك قد تم على خلفية استهداف جيب صهيوني على مشارف القطاع، وهذا غير صحيح ابتداءً لأن حماس لا يمكنها منع عمل من هذا النوع يتم خارج المناطق التي تسيطر عليها، كما أن شيئا كهذا قد سبق ووقع من دون أن يُرد عليه بعدوان واسع (سباق الانتخابات حضر في عقل نتنياهو وباراك من دون شك). هل يعني هذا الخطاب أن على حماس أن تتحول إلى حارسة لأمن الكيان الصهيوني، حتى في المناطق التي هي جزء من القطاع ولا تزال محتلة، حتى لو تعاملنا هنا مع منطق ما يسمى قرارات الشرعية الدولية؟! ضرب الجيب الصهيوني حتى وفق القرارات الدولية يعتبر مقاومة مشروعة، وحماس لا يمكن أن تقبل دور الحارس لأمن الصهاينة. وفيما خصَّ الصواريخ، فإن حماس تمنعها لأن كلفتها عالية، وليس التزاما بالتهدئة فقط، لاسيما أن إطلاق مقاومة من القطاع المحاصر والمعزول، في ظل رفض محمود عباس لذلك في الضفة غير ممكن بحال. ولو فعلت لكالوا لها الاتهامات بالمغامرة بالدم الفلسطيني. والخلاصة أن حماس ترفض، ويجب أن ترفض، أن يتحول قطاع غزة إلى دولة جوار للكيان الصهيوني مقابل العيش والهدوء مع استمرار الحصار من البحر والجو، وهي تصر على أن تبقى جزءا من فلسطين، وتصر على أن التهدئة يجب أن تكون متبادلة، وليست من طرف واحد، فضلا عن أن حماية جنود العدو في محيط قطاع غزة ليست جزءا من مهماتها حتى لو وقع الاستهداف من قبل أناس خرجوا من القطاع نفسه، وليس لها أكثر من التفاهم مع قوى المقاومة على ما يخدم الوضع الفلسطيني. من هنا كان من الطبيعي أن ترد حماس على العدوان حتى لا يعتقد العدو أنه فرض الاستسلام على قطاع غزة، وحتى لا يعتبر أن ما هو قائم وضع نهائي لا يمكن التمرد عليه. نأتي إلى المزايدة الأخرى (المعاكسة للمفارقة)، والتي ترى أن حماس قد تركت محور المقاومة والممانعة، وانضمت لمحور الانبطاح بحسب رأيهم. هذا الفريق لم يردد هذا الكلام إلا بسبب وقوف حماس إلى جانب الشعب السوري، بدليل أن الوضع في القطاع لم يتغير منذ اتفاق التهدئة بعد نهاية حرب الفرقان 2009. كان من الطبيعي أن يصاب هذا الفريق بالإحباط في ظل المواجهة الجديدة ورد حماس عليها بإباء واقتدار وصولا إلى قصف تل أبيب والقدس. ولأنه لا يعدم المزايدة، فقد راح يتحدث عن التهدئة الجديدة التي يتوسط فيها النظام المصري، وليضرب عصفورين بحجر واحد، يدين الرئيس المصري، في ذات الوقت الذي يؤكد أن حماس لا تريد المقاومة!! هؤلاء يدركون أكثر من غيرهم حقيقة أن انتصار 2009 قد انتهى بتهدئة، وأن انتصار تموز 2006 لحزب الله قد انتهى أيضا باتفاق على نشر قوات اليونيفيل في كامل مناطق التماس مع الاحتلال، الأمر الذي قيَّد حزب الله كما لم يحدث من قبل. وحين أطلقت بعض الصواريخ على الكيان الصهيوني من الجنوب عام 2008 وصفها الحزب بأنها مشبوهة. هم يدركون أن حماس لا يمكنها إعلان حرب على الكيان الصهيوني، وكل ما يمكنها أن تفعله هو أن ترفض الاستسلام وتصر على خيار المقاومة، وهو خيار لن يكون فاعلا إلا في حال أجمعت عليه كل قوى الشعب الفلسطيني، بخاصة حركة فتح، وفي كل الأرض الفلسطينية. في نهاية المطاف لن يفلح أي من الخطابين إياهما في تزييف وعي الناس، وستخرج حماس منتصرة في هذه المواجهة، تماما كما انتصرت في المواجهة السابقة، وسيوقف الصهاينة العدوان من طرفهم وفق تهدئة متبادلة ومتوازنة، وسيجرُّ نتنياهو أذيال الخيبة، تماما كما جرها إيهود أولمرت عام 2009.