لا شيء يسير كما كان متوقعاً في ليبيا. هل كان لزاما أن يتم قتل السفير الأميركي في هجوم 11 سبتمبر 2012 في هجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي حتى يهتمّ الإعلام الغربي بالوضع الأمنيّ في هذا البلد، بالرغم من أنّ هذا الوضع ما انفكّ يتدهور منذ سقوط النظام السابق. صحيح أن ليبيا كانت قد احتلّت المشهد الإعلامي في يوليوز 2012 بعد فوز التحالف «الليبراليّ» بقيادة السيد محمود جبريل في الانتخابات التشريعيّة على حساب حزب الإخوان المسلمين: 39 مقعداً مقابل 17 للإخوان من أصل 80 مقعد مخصّص للأحزاب؛ وهلل الإعلام الغربي كثيرا للحدث. ولكن أمام عجزهم عن إدراك تشظّي المشهد السياسي وتعقيداته، فقد انغمس العديد من المعلّقين في مجالهم المفضّل، أي تحليل نتائج الانتخابات، جاعلين من محمود جبريل رجل المستقبل الجديد. لكن؛ أسابيع فقط بعد ذلك، وكدليل على أن التوقعات والتخمينات إنما جعلت لتُكَذَّب، فإن المؤتمر الوطنيّ الجديد قد اختار رئيساً له السيد محمد يوسف المقريف، الذي لم يحصل حزبه، «الجبهة الوطنية؛ إسلاميّ معتدل كما يُعرفه هو نفسه؛ سوى على ثلاثة مقاعدٍ في الانتخابات. وفي 12 شتنبر، تمّ تعيين السيد مصطفى بو شاقور رئيساً للوزراء بفارق صوتين عن جبريل. والسيد بو شاقور المدعوم خصوصاً من الإسلاميين كان يشغل منصب نائب رئيس الوزراء في الحكومة السابقة التي قيل إنها «الانتقاليّة». هذا الاختيار يبرهن على صعوبة اعتماد توزيع حزبي كلاسيكيّ عادٍ في ليبيا، حيث تتغلب الولاءات والمنافسات المحلية، بل القبليّة، على التمايز بين «الإسلاميين» و«الليبراليين»؛ وهي القراءة المفضلة في الغرب. والحقيقة أن المرشحَين لمنصب رئيس الوزراء قد خاضا حملتهما الانتخابية داخل المؤتمر الوطنيّ العام على أساس مساومات زبونية، وليس انطلاقاً من نقاشات أو مناظرات إيديولوجية. وعلى هذا الأساس؛ سوف يحتل موقع الدين ووزنه أحد رهانات صياغة الدستور الجديد، علماً بأّن الغموض ما زال يكتنف طريقة تعيين الخبراء الستين المكلفين بصياغته: الاقتراع عبر (...)؟ نخب منعزلة المؤتمر الوطنيّ المنتخب حديثا والذي منح الفوز للسيد جبريل في انتخابات يوليوز، يبدو منفصلاً عن واقع البلد، بل ويعاني من عملية إبعاده عن الحكم الحقيقي. كما لا توجد هناك أدنى أوهام لدى العديد من الليبيين حول قدرة السيد علي زيدان المعين منذ أيام فقط كما لم يستطع سلفه مصطفى بو شاقور فرض نفسه وإعادة بناء الدولة وتوحيد البلاد. إذ طالته الانتقادات بشكلٍ رئيسي بسبب انتمائه للحكومة السابقة التي فشلت خصوصاً في المجال الأمنيّ، وبسبب قربه المزعوم من دول الخليج حيث أمضى قسماً من سيرته المهنيّة كباحث ومهندس، وأيضاً لجهله?بليبيا التي هجرها منذ 1980 ليعود فقط في مايو 2011. أما السيد علي زيدان فعلى الرغم من أن قادم من الأوساط الحقوقية المعارضة لنظام القذافي؛ إلا أن افتقاره هو الآخر لمليشيات داعمة يهدد مهمته بمصير مماثل لمصير سابقه. عزلة هذه النخب التكنوقراطية التي لا تتمتّع بصلات وشبكات في هيكليّة الدولة، ولا بأجهزة أمنية تثق بها تفسّر جزئياً الأوضاع الحاليّة: بدءاً بتدهور الحالة الأمنية التي تتجاوز الآن إطار المجابهات القبليّة وتصفية الحساب بين الميليشيات واختطاف وتصفية المسئولين. هكذا اندرج الاعتداء على القنصلية الأميركية في بنغازي ضمن سلسلة من العمليات التي حملت منذ يناير 2012 بصمة السلفيين الجهاديين. حيث توجّهت هذه الهجمات، المتميّزة بتحضيرٍ وتنفيذٍ عاليَي الكفاءة، ضد أهداف غربيةّ أو معتبرة كذلك: القنصلية الأميركية، ومكاتب الأممالمتحدة والصليب الأحمر الدولي، والسفارة البريطانية. وقد تكاثرت في بنغازي ومصراته. ولحسن الحظّ أنّها لم توقع الكثير من الضحايا (في بنغازي أصيب بجروح فقط أحد الحراس المرافقين للسفير البريطاني خلال إطلاق النار على سيارتهم في يونيو 2012). تبنّت هذه العمليات كتائب الشيخ المعتقل عمر عبد الرحمن؛ وهو مصري مسجون في الولاياتالمتحدة بتهمة تورّطه في اعتداءٍ ضد مبنى مركز التجارة العالمي عام 1993. وتتمتّع هذه الجماعة بجذور صلبة لها في الشرق الليبي. كما تكاثرت أنواع أخرى من العمليات في الأشهر الأخيرة، استهدفت مدافن للمرابطين ومزارات صوفيّة تتعارض بحسب السلفيين مع الدين الحنيف. وقد ارتبط اسم ميليشيا «انصار الشريعة» ومركزها بنغازي بهذا النوع من العمليات، ولو أنّها حرصت على النأي بنفسها عن الاعتداءات على الغربيين. وكان مقاتلوها المتمرّسون في الحرب والسلاح، والذين شاركوا في قتال العراق وأفغانستان في العقد الماضي، قد التحقوا بصفوف الثورة المناهضة للقذافي منذ الأيام الأولى في فبراير 2011، وشاركوا في جميع المعارك حتى سقوط مدينة سيرت. كما رصوا صفوفهم مجدّداً تحت راية كتيبة «درع ليبيا» التابعة رسميّاً لوزارة الدفاع، فأرسلوا إلى سبهة والكفرة لفرض الأمن، إثر مواجهات بين قبائل «التوبو» والقبائل العربية المحلية. تجند المدنيين عند عودتها إلى بنغازي في يونيو الماضي، تم تكليف هذه الميليشيات بمهامٍ أمنية في المدينة من قبل قيادة جهاز الأمن الوقائيّ، المكوّن بدوره من مقاتلين إسلاميين سابقين. وبالتالي تتمتع هذه الوحدات بشرعيّة حقيقية وبمساندة من داخل وزارتِي الدفاع والداخليّة الجاري تكوينهما. نجد وضعاً مشابهاً في طرابلس ومصراتة، حيث تأكّد التواطؤ بين بعض الميليشيات السلفيّة واللجان الأمنيّة العليا في هاتين المدينتين، وهي لجان مرتبطة رسمياً بوزارة الداخلية، لكنّها لا تطيع في الواقع سوى قادتها السامين من الحراك الإسلامي. وخلال الأشهر الأخيرة، تعدّدت الأمثلة على عمليات تدمير مدافنٍ للمرابطين وزوايا للصوفيّة، وذلك في وضح النهار وسط طرابلس وبنغازي وزليتن، تحت الأنظار اللامبالية لميليشيات اللجان الأمنيّة العليا. هكذا غالباً ما يتولّى المدنيّون بأنفسهم التعبئة لمواجهة هذه الميلشيات. فقد طالب آلاف من سكّان بنغازي في 21 سبتمبر بحلّ الميليشيات السلفيّة، وهاجموا ثلاثة من ثكناتها. وبعد مواجهات أسفرت حصيلتها الرسميّة عن أحد عشر قتيلاً، أظهرت الحكومة كما العادة حزمها وأعلنت مرّة أخرى حلّ الميليشيات «التي لا تتبع وزارتي الداخليّة والدفاع». وفي المناطق الريفيّة، دافع السكان عن مدافن أوليائهم بقوّة السلاح؛ هذا ما حصل خصوصاً في السابع من سبتمبر في قرية الرجمة على بعد 50 كلم من بنغازي، حيث أوقعت المعارك 3 قتلى و15 جريحاً. (وهو ما يؤكد أن محاربة العقائد مهما كانت منحرفة لا تتم إلا بمقارعة الفكر بالفكر وليس بقوة السلاح). محاربة الأضرحة؛ بين الإقناع والتدمير قبل ذلك بأيام، عزم سلفيون على تدمير «الموزاييك» المصنّفة إرثاً تاريخياً في بقايا فيلاّ رومانية في سيلين على بعد مائة كلم شرق العاصمة طرابلس أو تخريب مزار للمرابطين في مدينة سرمان الساحلية، غرب العاصمة، لكنهّم اضطرّوا للتخلّي عن مشروعهم بعد تدخل الأهالي. كان نظام القذافي يتميّز بوجود مؤسسات رسميّة في الواجهة، لا تملك سوى سلطات محدودة. فهل تتجه ليبيا ما بعد القذافي في الاتجاه نفسه، مع نظام سياسيّ يتمتع بسلطات شكلية؟ يتقاضى الوزراء التكنوقراط خريجو الجامعات الذين أمضوا القسم الأكبر من حياتهم في المنفى، والنواب المنفصلون عن الوقائع المحليّة مرتبات شهرية بقيمة 9 آلاف دينار ليبي (أي ما يقارب 6 آلاف يورو)، ويقيمون في شققٍ يصل بدل إيجارها لليلة الواحدة إلى 250 يورو؛ تحجز لهم لسنة كاملة في فنادق العاصمة المصنّفة خمس نجوم. لكن لا سلطة فعلية لهم على الأجهزة المخوّل لها شرعيا ممارسة حفظ الأمن بالقوة. في هذا الإطار، تكمن المصلحة الموضوعيّة لأمراء الحرب المحليين الصغار وللجماعات السلفيّة وبعض وحدات وزارة الداخليّة والدفاع والمقرّبين منهم إيديولوجياً وتنظيميا، وللمستفيدين من الأوضاع لتطوير تجاراتهم المربحة، جميعاً في الحيلولة بمختلف الوسائل دون بناء دولةٍ قوية. الخاسر الأكبر هو بقيّة الشعب الليبي، الذي دلّت مشاركته الواسعة في انتخابات 6 يوليوز (بنسبة 60%) على الآمال التي وضعها في العملية الانتخابية. ولكنّ هاهو هذا التفاؤل يتراجع بعد عامٍ من سقوط نظام القذافي؛ مع تدهور الأوضاع الأمنيّة وشروط الحياة الماديّة وغياب الدولة وأفعال السلفيين الذين لا تشاطرهم الغالبيّة العظمى من الليبيين معتقداتهم. وهكذا فإنّ الانكفاء على الهويّات المحليّة مرشّح للتجذّر؛ وبالتالي ليبيا للتشظي. أسوأ الاحتمالات على المدى القصير، يبدو هامش المناورة ضيّقاً أمام رئيس الوزراء المُطالب بإلحاح من قبل واشنطن بمعاقبة المسئولين عن الهجوم على قنصليّتها. ولكونه لا يملك وحدات عسكرية موثوقة تعرف جيداً المناطق الجبلية التي يتحصّن فيها رجال كتائب الشيخ المعتقل عمر عبد الرحمن المتّهمين بالتورط في هذا الهجوم، فإن هناك خشية من أن يضطرّ للعب دور المساعد في عمليات مشتركة مع الأميركيين. وأسوأ السيناريوهات بالنسبة للسيادة الليبية أن تعمد الولاياتالمتحدة كما في اليمن أو باكستان، إلى تنفيذ اغتيالات عن طريق طائرات من دون طيار (المعروفة?رسميّاً ب»التصفيات خارج المحاكمة») بحق من يشتبه في تورّطهم بالاعتداءات. فهذه ستكون الضربة القاضية لاستقلال السيادة الليبية. باتريك حايمزاده كاتب ودبلوماسي سابق في السفارة الفرنسية في طرابلس (2001-2004) "لوموند ديبلوماتيك"، عدد أكتوبر 2012