"سي أحمد" رجل في الستين من عمره يقطن بالرباط، سافرت أسرته خلال عطلة الصيف لزيارة العائلة بمدينة تازة تاركة إياه وحيدا يكابد ألما ألم به فجأة في غيبة منهم. بيت "سي أحمد" يوجد ضمن تجمع سكني، به عشرات الأسر، لكن لم ينتبه أحد من رجال الحي أو نسائه وحتى أطفاله لغيابه، إلى أن فاحت رائحة كريهة من بيته ..سارع أحد الجيران إلى إبلاغ رجال الأمن، الذين اكتشفوه جثة هامدة تحوم الديدان حولها. قصة "سي أحمد" كما يناديه الجميع، تركت أثرا عميقا في قلوب ساكنة الحي، وأثارت الجدل حول "هذه الأيام..وتلك الأيام"، حيث طغى موضوع حق الجوار وعلاقة الجيران ببعضهم البعض، حيث يتولى الجار رعاية أسرة من سافر عنها الأب أو توفى ..وكانت الأمهات والجدات أمهات لكل أبناء وبنات الحي. ما وقع للراحل "سي أحمد"، واحدة من الأحداث الواقعية الأليمة التي نعيشها اليوم في ظل ضعف أو انعدام روابط الجيرة والعلاقات الأسرية، ولم يعد الجار كما السابق يسأل عن جيرانه، ويواسيهم في همومهم ويتعرف عن الجدد منهم، بل صار الجفاء وتباعد الجيران بعضهم عن بعض، لشهور دون أن يعرف الواحد منا جاره وأحواله العنوان العريض لعلاقات الجيرة الحديثة. الجار قبل الدار قيل قديما "إبحث عن الجار قبل اقتناء أو كراء الدار" لما للجيرة من أهمية، ولما لا وقد كان الجيران عونا لبعضهم البعض في السراء و الضراء، وملاذا لكل عجوز غيبت الموت ذويها أو هجرها إبن عاق، ومصدر رزق للمحتاج من الجيران...مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه). وقال الله تعالى: "واعبدوا الله ولا تشركوا بِه شيئا وبالوالدينِ إِحسانا وبذي القربى واليتَامى والمساكينِ والجار ذي القربى وَالْجار الجنب والصاحب بالْجنب" (النساء:36)، وفي تفسير قوله تعالى: والجار ذي القربى والجار الجنب يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: "أما الجار فقد أمر الله تعالى بحفظه والقيام بحقه والوصاة برعي ذمته في كتابه وعلى لسان نبيه، ألا ترى سبحانه أكد ذكره بعد الوالدين والأقربين: "والجار ذي القربى" أي القريب، "والجار الجنب" أي الغريب، إلى أن قال: وعلى هذا فالوصية بالجار مندوب إليها مسلماً كان أو كافراً، وهو الصحيح، والإحسان قد يكون بمعنى المواساة، وقد يكون بمعنى حسن العشرة وكف الأذى والمحاماة دونه" . اليوم وفي ظل الارتباطات والمسؤوليات الدنيوية الكثيرة، اعترى الجيرة الوهن، وأصبح الجار آخر من يعلم عن جاره شيئا، وكادت تلك الصلات أن تنقطع إلا من بعض التحايا المحتشمة في بعض المناسبات. وفي هذا الإطار، أكد ابراهيم الحمداوي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عبد المالك السعدي بتطوان أن المدنية طورت المجتمع في بنيته و بناياته، فكان الانتقال كبيرا جدا من آليات التضامن التقليدي إلى مجتمع حضري أو عصري لا يختار المرء مكان سكنه بل تفرضها عليه ظروفه المادية، ومكان عمله أو مكان تواجد مدارس أبنائه، أو قرب السكن لوسائل التنقل ...، وبالتالي انتهى زمن "اختر الجار قبل الدار"، على اعتبار أن الاستقلالية والعزلة عن الجيران هي المبدأ السائد لتفادي أي صراع قد ينشب بين الإثنين سواء بسبب مرآب العمارة أو بسبب نظافتها..وحتى بسبب الأبناء. ونفى الحمداوي أن تكون الماديات سببا في تنافر بعض الجيران، موضحا أن كل أسرة صارت تشعر بأنها مؤسسة اجتماعية مستقلة ليست في حاجة إلى الآخر، وهذا جعل الناس يعتقدون أنهم لن يحتاجوا إلى جيرانهم، وبالتالي هم ليسوا في حاجة إلى معرفتهم، ومد جسور التواصل معهم. والخطير في الأمر-يضيف المتحدث نفسه-أن خلل العلاقة بين الجيران توسع، وانعكس على أفراد الأسرة داخل المنزل الواحد، فبدأنا نرى انحسار العلاقات داخل الأسرة نفسها، إلى درجة أن بعض الآباء صارت علاقتهم بأولادهم لا تتعدى حدود التمويل المادي، وإذا كان هذا بين أهل المنزل الواحد فما بالنا بالعلاقة بين الجيران. حقوق الجار للجار حقوق كثيرة، فحق الجار على جاره مؤكد بالآيات والأحاديث، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "خير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره"، وجعل من العلاقة بين الجيران معيارا يعرف به إحسان المرء من إساءته، فقد جاءه رجل فقال: كيف لي أن أعلم إذا أحسنت وإذا أسأت؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :"إذا سمعت جيرانك يقولون: قد أحسنت فقد أحسنت، وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأت فقد أسأت"، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حسن الجوار سبب من أسباب الشفاعة، إذ يقبل الله عز وجل شهادة الجيران لبعضهم، ويتفضل عليهم بمغفرة ذنوبهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة أهل أبيات من جيرانه الأدنين إلا قال: قد قبلت علمكم فيه، وغفرت له ما لا تعلمون". فرد السلام وإجابة الدعوة، وكف الأذى عن الجار سواء كان بالقول أو بالفعل واجبة أيضا، حيث قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : "واللّه لا يؤمن واللّه لا يؤمن واللّه لا يؤمن قالوا : من يا رسول اللّه ؟ قال : الذي لا يأمن جاره بوائقه". كما أوصانا الرسول الكريم بتفقد الجيران وقضاء حوائجهم وستر وصيانة عرضهم، وقال تعالى :" وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى المساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل". واقع علاقة الجيرة اليوم صار مؤسفا، حيث يؤكد الحمداوي أن علاقة الجيران ببعضهم في السابق كانت أكثر ترابطا بل صار بعض الجيران بمثابة الأهل، وهو ما نفتقده بالمدن الكبرى على الخصوص، فلازالت البوادي وبعض المدن الصغيرة تحتفظ بخاصية حسن الجوار، فيما خلفت هيمنة القيم الرأسمالية التي تعلي من شأن المصلحة الفردية وتعطيها الأولوية على حساب ما هو جماعي ومشترك على المدن الكبرى بالخصوص. ونزوع الفرد نحو الفردانية، واعتقاده بأن العلاقات الاجتماعية -خصوصا التضامن الاجتماعي- صار مكلفا ساهم بشكل كبير في هذا الفتور، والبرودة في العلاقات الاجتماعية التي قتلت روح التضامن و التآزر فبدأت تختفي تدريجيا-يضيف المتحدث-.