إن عالمية الإسلام تنطلق من تمسك المسلمين بهويتهم و خصوصيتهم الحضارية و عدم الذوبان في هوية ليست هويتهم، فالمسلم حريص على الخصوصية الحضارية والثقافية والاجتماعية لكنها خصوصية متفاعلة وليست خصوصية منغلقة على ذاتها وهي سبيل تحقيق الاستقلال الحضاري وخلع التبعية. وهنا ينبغي التمييز بين نوعين من الخصوصية: الخصوصية الثقافية المغلقة التي تتمركز حول أصول ثقافية نقية وتتشبث بأنساب فكرية قارة لرفض الآخر ،ظنا منها أن الخصوصية الثقافية ذات جوهر خالص غير قابل للتغيير، فيترسخ التعصب الأعمى في أبعاده العرقية أو الدينية أو القومية لتكريس عقيدة أحادية ،مكتفيه بذاتها ونافيه لإمكانيات وجود عقائد مخالفة ،ومعلنة بشكل مسبق عن لا شرعيتها وعن ضرورة نقضها وإقصائها إن وجدت. وهذه الخصوصية لا يمكن أن تحقق عالمية، و لا يمكن أن تكون إلا إقصائية صدامية، والأخرى هي الخصوصية الحضارية المناوئة لنزعة التمركز الغربي وكل أشكال التمركز التي تلغي الآخر. وهي مجموعة الخصائص و السمات التي تشكلت نتيجه تفاعل عوامل مركبة عديدة مع الواقع،من طرف الذات ومع الآخر الخارج من طرف ثان، ولا تعتبر الهوية الثقافية جوهرا ثابتا ولا معطي جاهزا بقدر ما ينظر إليها بوصفها حصيلة تفاعل مع متغيرات العصر ومعطيات الواقع المتحولة في إطار الزمن . نحن في حاجة إلى فهم جديد للهوية يتجاوز مقولات الثبات والتطابق والنقاء واليقين الجازم ويمكننا من مواجهة الرؤي المتحجرة وكسر النرجسية الثقافية عبر الإعلاء من قيم العقل التواصلي والقيم التبادلية التي تؤكد تنوع وغنى ثقافات العالم بدلا من نمذجتها قسريا وإدخالها في نموذج وحيد يفقرها ويختزلها، حتى لو كان هو النموذج الغربي الذي يدعي بأنه الأصلح، في حين تفصح ممارساته عن ازدواجية في المعايير ونفاق مفضوح عندما يتصل الأمر بقضايا المسلمين المصيرية. وللخروج من مأزق التعارض المتوهم بين الخصوصية و العالمية ذهب بعض المفكرين، مثل محمد حسنين هيكل و محمد عزيز الحبابي، إلى أنه “لا يجوز شطر الحضارة إلى جزأين منفصلين، فلا وجود لحضارة شرقية و أخرى غربية ،إنما الحضارة هي تراث عالمي مشترك“ وهذا صحيح ،شريطة الاعتراف بأن “الحضارة التالية تضيف و تحذف و تستبعد أشياء و تستحدث أشياء، ومن هنا يأتي تميز الحضارات“ بل إننا نجد صمويل هنتنغتون نفسه يؤكد أن ما “يكشف عن حقيقة الشعوب،هو غير البضائع الغربية و مشاهدة الأفلام الأمريكية و الاستماع إلى الموسيقى الغربية، فروح أي حضارة هي اللغة و الدين و القيم و العادات و التقاليد» وقد ألف الدكتور يوسف القرضاوي كتابا سماه»ثقافتنا بين الانفتاح و الانغلاق»، رصد فيه أهم المحاذير التي يعلنها دعاة الانغلاق على الخصوصيات وأهم مبررات دعاة الانفتاح غير الواعي على الآخر، واختط منهجا أكد فيه، بمنهجه الوسطي ،على المنهج الوسط الذي “يسمح بانفتاح منضبط ،يأخذ خير ما عند الآخرين، ويستفيد من تجاربهم، ويلتمس الحكمة من أي وعاء خرجت و يعطيهم كذلك ما لديه من قيم و مفاهيم و شرائع و تجارب و ممارسات حضارية، فهو يأخذ و يعطي و يصدر و يستقبل ويرسل.» و « الثقافة الإسلامية “وسعت في رحابها الفسيحة الأديان المختلفة، و الأجناس المختلفة، والألوان المختلفة، واللغات المختلفة، ولم تضق بدين ،ولا عرق و لا لسان» إذن هناك علاقة جدلية بين الخصوصية و العالمية. فخصوصية الحضارة الإسلامية ليست انكفاء على الذات ، بل هي تحديد لموقع «فلك الذات في المجرة الحضارية و الثقافية و العقائدية و الكونية ودورانها،حيث تصنع و تصاغ القرارات و الخيارات التي هي محض خصوصية الذات.فإما أن ترقى بنفسها إلى مستوى المشاركة –ولنقل التدافع-في صناعة و صوغ تلك القرارات، وإما أن تقبل بما تقرره الجهات المتغلبة فتكتفي بدور المستهلك لقيم و أفكار الغير استهلاكها لمنتجاته و معلباته.» ولكي نخرج من منطق رد الفعل إلى منطق الفعل الحضاري، ولكي لا تكون «الدعوة إلى العولمة المضادة، من منطلق فكري يوحي بالرغبة في تسجيل مواقف ضد توجه فكري آخر قادم من الآخر» ، وكأصحاب خصوصية مستهدفة، وقادرة على الانفتاح و العطاء، و متسلحين بنماذج تاريخية لنجاح عالمية بالمفهوم المنفتح الذي أبرزناه آنفا، لا بد أن نسعى إلى أن نقدم للعالم أنموذجا لعالمية بديلة تتجاوز مقولات العولمة، بعيدا عن كل منطق انغلاقي، مبنية على التضامن بين الشعوب حتى يكون الغد مبنيا على العدالة الاجتماعية و الديمقراطية و الكرامة والتنمية والتضامن في عالم يكون شيئا آخر غير عالم الأسواق، بنفس الفعل البنائي لنموذج جديد