قال الدكتور محمد بوجلال الخبير الإقتصادي الدولي الجزائري إن التجربة المصرفية والمالية الاسلامية تمثل أهم مساهمة لنا كمسلمين في التاريخ المعاصر، بل أنها تمثل شكلا من أشكال العولمة المعاكسة في محيط دولي صعب يحاول منظرو المذهب اللبرالي أن يجعلوا من الشعوب الأخرى أتباعا ليس لهم الحق بالنطق إلا بجملة واحدة: نعم سيدي. وأشار بوجلال إلى ان بريطانيا اليوم تسعى أن تكون المركز العالمي الأول للمالية الاسلامية في حين أن السلطات النقدية عندنا لا تزال تتردد في السماح للبنوك والمعاملات المالية الاسلامية أن تأخذ مكانتها الطبيعية في مجتمعات تدين بالإسلام وتوثق ذلك في دساتيرها. ونبه بوجلال في لقائه بالتجديد على هامش الأيام التكوينية حول التمويلات الإسلامية المنظمة أخيرا بالمدرسة المحمدية للمهندسين بالرباط إلى ان تحقيق الوحدة الاقتصادية لدول المغرب العربي حتمية تاريخية وسيلعب التمويل الاسلامي دور المساعد (catalyseur) على دفع اقتصاداتنا إلى الأمام. ● بداية مرحبا بك دكتور في بلدك الثاني المغرب. ❍ شكرا على الدعوة الكريمة التي تلقيتها من المشرفين على المدرسة المحمدية للمهندسين وأنا سعيد بوجودي بين كوكبة من الباحثين والجامعيين من المغرب الشقيق والذين أكن لهم كل الود والاحترام. ● في نظركم ما هي الفلسفة التي تقوم عليها البنوك والتمويلات الإسلامية؟ ❍ إن أهم ما يميز المعاملات التي تقوم بها المؤسسات المالية والمصرفية الاسلامية أن كل عملية تمويلية هي في الواقع تعبير عن صياغة مؤسسية لصيغة من صيغ التمويل الاسلامي وهي لصيقة بالاقتصاد الحقيقي وليست منفصلة عنه كما يحدث في البنوك التقليدية التي جعلت من النقود سلعة تتاجر فيها عبر آلية سعر الفائدة الدائن والمدين. وفي تعبير أحد الفلاسفة المعاصرين الفرنسي الجنسية البروفسور ميشال تيبو كورنيو (Michel Tibon-Cornillot ) فإن نظام الفائدة قد نشأ في مناخ يتسم باللامرجعية (un contexte de déréférenciarisation) على اعتبار أن لا الفلسفة ولا الأديان السماوية ولا العقل السليم يقرون بالفائدة على القروض، إنه ببساطة نظام لاأخلاقي وما تعانيه الدول اليوم من انسداد اقتصادي ومن أزمة مديونية خانقة لم يعرفها التاريخ البشري من قبل إلا دليل قاطع على عدم صلاحية هذا النظام. جوابا على سؤالكم الكريم أقول أن فلسفة التمويل الاسلامي تقوم على تقليص الفجوة بين الاقتصاد النقدي من جهة والاقتصاد الحقيقي من جهة أخرى لتحقيق الاستقرار الاقتصادي. إن هذا النوع من التمويل لجدير أن يضع النقود في إطارها الصحيح بحيث تؤدي وظائفها الثلاثة المعروفة كوسيط للتبادل ووحدة قياس ومخزن للقيمة، دون أن تتحول إلى سلعة تباع وتشترى، ورحم الله العلامة أبو حامد الغزالي الذي قال عن النقود «هي كالمرآة لا لون لها وتحكي كل لون». إن التعامل بالفائدة أنتج لنا نظاما ماليا سمته اللاعدل واللاستقرار وقد أحسن القول الصيرفي الأمريكي روبرت هولند (Robert Holland) في كلمة له أمام المؤتمر الذي نظمه وموله مصرف الاحتياط الفدرالي لولاية San Francisco عام 1985 تحت عنوان: «البحث عن الاستقرار المالي: 50 عاما الماضية» حيث قال: «لا أعتقد أن السبب في عدم الاستقرار المالي هو الإدارة السيئة أو الإشراف غير الفعال بقدر ما هو مرتبط بطبيعة النظام المالي الذي بنيناه وركنا إليه». ● كيف تقيم تجربة البنوك والتمويلات الإسلامية على المستوى العالمي؟ ❍ في اعتقادي أن التجربة المصرفية والمالية الاسلامية تمثل أهم مساهمة لنا كمسلمين في التاريخ المعاصر، بل أنها تمثل شكلا من أشكال العولمة المعاكسة في محيط دولي صعب يحاول منظرو المذهب اللبرالي أن يجعلوا من الشعوب الأخرى أتباعا ليس لهم الحق بالنطق إلا بجملة واحدة: نعم سيدي. إن الاهتمام غير المسبوق بالتمويل الاسلامي سواء على الصعيد الأكاديمي (كان لي الشرف أن ساهمت في فتح تخصص دراسات عليا في المالية الاسلامية لأول مرة بجامعة حكومية بفرنسا وهي جامعة سراسبورغ في جانفي 2009 والذي لا يزال مستمرا حتى يومنا هذا، وقد بلغتني أصداء أن يتحول التدريس إلى ماستر بكل المقاييس الأكاديمية والبيداغوجية) أو الصعيد المهني حيث أقدمت مؤسسات مالية ومصرفية غربية عريقة على تبنيها للتمويل الاسلامي. وقد أعجبني قول مديرة صندوق النقد الدولي حاليا ووزيرة الاقتصاد الفرنسي سابقا الخبيرة القديرة كريستين لاقارد (Christine Lagarde) في 02 أفريل 2009 أمام ممثلي مجموعة العشرين بلندن: «إنه من المناسب أن نسترشد بمبادئ التمويل الاسلامي من أجل العمل على إصلاح النظام المالي العالمي». وهنالك العديد من الشهادات التي لا يتسع المقام لذكرها. ● هل من قيمة مضافة لهاته التمويلات على الصعيد الاقتصادي والمالي للبلدان التي تسمح بتواجدها؟ ❍ نعم، لقد استطاعت الدول التي تبنت التمويل الاسلامي من تعبئة موارد مالية هائلة لم تكن لتتعامل مع البنوك التقليدية لأسباب عقدية. يكفي أن نشير فقط أن التمويل الاسلامي يشكل أكثر من ثلث القطاع المالي في دول الخليج العربي وأن هنالك شرائح واسعة من الشعوب الاسلامية لا تزال تترقب إنشاء بنوك ومؤسسات مالية إسلامية لتتعامل معها. وكما تعلمون فإن أفضل مثال هي الدراسة التي نشرت مؤخرا بالمغرب والتي قام بها مكتب استشارات بريطاني والتي تبين أن 94% من المستجوبين يفضلون التعامل مع المؤسسات المالية الاسلامية. أي أن هنالك سوقا كبيرة للمالية الاسلامية بالمغرب الشقيق وبالدول التي تتطلع إلى المعاملات المالية الاسلامية. ثم أن الأداء المالي للنظام المالي لأي دولة يقاس بمدى تمكنه من تعبئة أكبر قدر من الموارد وتوجيهها للدائرة المصرفية، فإذا ما استطاعت البنوك الاسلامية أن تساهم في تحقيق هذا الهدف، أليس من المستحسن اقتصاديا وأخلاقيا أن نسهل لها الطريق ونوفر لها المناخ التشريعي والقانوني المناسب. القوم عندنا –هدانا الله وإياهم- لا يزالون يتحفظون من كلمة «بنك اسلامي» في حين أن بريطانيا سمحت بإنشاء خمسة (05) بنوك إسلامية منها البنك الاسلامي البريطاني (Islamic Bank of Britain) الذي دخل في الخدمة سنة 2004. إن بريطانيا اليوم تسعى أن تكون المركز العالمي الأول للمالية الاسلامية في حين أن السلطات النقدية عندنا لا تزال تتردد في السماح للبنوك والمعاملات المالية الاسلامية أن تأخذ مكانتها الطبيعية في مجتمعات تدين بالإسلام وتوثق ذلك في دساتيرها. ● يرى البعض بأن تأخر المغرب عن تبني البنوك الإسلامية يؤخر التنمية ببلادنا ويجعل الاقتصاد الوطني لا يستفيد من فائض الأموال الخليجية، هل تتفقون مع هذا الرأي؟ ❍ نعم أتفق تماما مع هذا الرأي وقد عبرت عنه بمناسبة تواجدي بالمغرب الشقيق وأكرر القول أن المملكة المغربية بموقعها الاستراتيجي وبعلاقاتها المتميزة مع دول الخليج العربي من جهة ودول القارة السمراء من جهة أخرى تستطيع أن تشكل قطبا ماليا يمزج بين تعبئة الفوائض المالية الخليجية وحاجة المغرب أولا للموارد المالية لتمويل المشاريع الوطنية وإمداد الدول الافريقية بالموارد اللازمة لتمويل نهضتها الواعدة. ● تتحدثون على أن التمويلات الإسلامية من شأنها تعزيز الشفافية في التعاملات والحد من الفساد والتهرب الضريبي، كيف ذلك؟ ❍ لقد أثبتت الأزمة المالية الراهنة صمود المؤسسات المالية الاسلامية وعدم تعرضها للهزات التي شابت البنوك والمؤسسات المالية التقليدية، والسبب في ذلك هو عدم تعاطيها مع المنتجات المالية المسمومة toxic products (وهي عبارة عن المشتقات المالية والتي كانت تسوق لنا على أنها ابتكارات مالية وقد خسرت جراءها بعض الصناديق الخاصة والسيادية لبعض الدول العربية مئات الملايير من الدولارات)، والفضل في ذلك يرجع للهيئات الشرعية التي تمنع البنوك والمؤسسات المالية والصناديق الاسلامية من الاستثمار في مثل هذه المنتجات المحرمة لأنها إما إقراض بفائدة أو مجازفة على المكشوف أو بيع للديون وهي معاملات كلها منهى عنها في شريعتنا. فالهيئات الشرعية تعزز الثقة في المؤسسات المالية الاسلامية وتعطي للشفافية بعدا آخر غير مألوف ولا معروف في البنوك التقليدية. ● ما هي أبرز المشاكل الاقتصادية والتنموية التي يمكن للتمويلات الإسلامية حلها في الوضع المغربي الحالي؟ ❍ يمكن إيجاز المشاكل الاقتصادية على المستوى الكلي وعلى المستوى الجزئي. على المستوى الجزئي نحتاج أن نوفر للفرد في المغرب الشقيق منتجات مالية تتوافق مع معتقداته الدينية وهذا أمر طبيعي ولم يعد محل نقاش حتى في الأوساط الغربية. وقد سئلت مرة في محاضرة عن التمويل الاسلامي بباريس عن الهدف النهائي لنشر الوعي بالمالية الاسلامية الذي قد يشكل خطرا على المنظومة التمويلية الغربية القائمة على الفائدة والمحرمة في الإسلام فأجبت بكل بساطة أن التمويل الاسلامي جاء في مصلحة المستهلك فهو تنويع للمنتجات المالية والمصرفية الموجودة ولكل فرد الحرية في اختيار المنتج الذي يبتغيه، فالحالة هنا تشبه المغازة الكبرى التي نجد فيها جناحا للمشروبات الكحولية وآخر للمشروبات غير الكحولية وكل ينهل مما يناسبه. وأعرف أن الأشقاء في المغرب ينتظرون بشغف أن تفسح لهم قائمة المنتجات المالية والمصرفية الاسلامية أو البديلة كما يحب البعض أن يسميها، وإن كان التمسك بالأصل فضيلة. أما على الصعيد الكلي فإن الاقتصاد المغربي يحتاج إلى رؤوس أموال دائمة لتمويل المشاريع التنموية الكبيرة، ولذلك أنصح بالعمل على تأسيس مؤسسات مالية إسلامية برؤوس أموال كبيرة (هنا تظهر قدرة وحنكة وذكاء الطبقة المفكرة وصاحبة القرار في استقطاب فائض السيولة لدى الدول النفطية وخاصة دول الخليج العربي كما أشرت سابقا). بعبارة أخرى يمكن لأشقائنا في المغرب استغلال الاستقرار الموجود لجلب المزيد من رؤوس الأموال، وحسبي أن أقول أن الحكومة الحالية بما تملكه من مصداقية سياسية (كونها جاءت من انتخابات شفافة وتعبر عن هوية الشعب المغربي المسلم) ومن سعيها الجاد للوفاء بوعودها الانتخابية وتسلحها بروح المسؤولية تجاه ربها أولا وتجاه شعبها ثانيا، لقادرة بإذن الله تعالى أن ترفع التحدي وأن تضيف للتجربة المصرفية الاسلامية ما لم تحققه دولا أخرى لأنني بكل بساطة أكبر في الشعب المغربي الشقيق تفانيه في العمل المنتج والبناء إذا ما توافرت له شروط النهضة على حد قول الفيلسوف والمفكر الجزائري الفذ مالك بن نبي رحمه الله. المغرب الشقيق يحتاج أن يستفيد من نموذج بنك الأعمال ولكن في حلته الاسلامية وهي بنوك المشاركة وقد كتبت عنها مؤخرا مقالا في غاية الأهمية في مجلة المالية الاسلامية التي تصدرها جامعة ستراسبورغ بفرنسا. ● ما هو مستقبل التمويلات الإسلامية في دول المغرب العربي؟ ❍ المغرب العربي غني بثرواته الطبيعية وبموقعه الجغرافي وبموارده البشرية المثقفة وبعدد سكانه. دعني أقول أن تحقيق الوحدة الاقتصادية لدول المغرب العربي هي حتمية تاريخية لأننا نعيش عصر التكتلات الكبرى ولا مستقبل للتجمعات البشرية الصغيرة. إذا كان هذا قدرنا فلنعمل على تذليل العقبات وتقريب المسافات بين شعوبنا التواقة للوحدة. قبلها وحينها وبعدها يلعب التمويل الاسلامي دور المساعد (catalyseur) على دفع اقتصاداتنا إلى الأمام. ● ما هي أكبر التحديات التي ستواجهها التمويلات الإسلامية في العشر سنوات القادمة؟ ❍ كتبت في هذا بحثا مطولا ولا يتسع المقام لعرض كل الأفكار (يمكن تصفح المقال على الانترنت تحت عنوان Les acquis et les défis de la finance islamique ). يكفي أن نشير أن المؤسسات المالية والمصرفية الاسلامية في حاجة إلى تقوية بنيتها بالاندماج والتكتل فيما بينها لمواجهة المنافسة الشديدة التي تفرضها المنظومة التمويلية التقليدية. كما أنها مطالبة بالعمل على توحيد منتجاتها وتقوية قدراتها بالتركيز على البحث والتطوير وتجنب التيه في المشاكل اليومية التي تحجب رؤيتها للمستقبل. بمهنى آخر يجب على الادارة العليا (top management) أن تؤدي وظيفتها الاستشرافية على أكمل وجه. ● هل ممكن أن نعيش أزمة مالية كالتي بدأت سنة 2008 في ظل التمويلات الإسلامية؟ ❍ هذا أمر مستبعد لأن تركيبة أصول المؤسسات المالية الاسلامية تختلف عن تركيبة المؤسسات التقليدية. ولكن يجب الحذر في عدم الافراط في الاستثمار في قطاع معين دون بقية القطاعات. إن تنويع المحافظ الاستثمارية من شأنه أن يوزع المخاطر ويجنب التمويلات الاسلامية ويلات العدوى التي تحصل في بعض القطاعات دون الأخرى. ● ما رأيكم دكتور في تطوير ما سمي بمشتقات التمويل الإسلامي؟ ❍ المشتقات المالية كما أفهمها وكما يعرفها أصحابها هي في الأصل شكل من أشكال بيع الديون وهو أمر محرم في شريعتنا الغراء حيث نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ، أي بيع الدين بالدين. وقد أستغرب ممن يحاولون لي النصوص الشرعية لإيجاد منافذ لمعاملات لا تتوافق مع مبادئ التمويل الاسلامي أصلا. ولكن هذا لا يعني غلق باب الابتكار، فقط أردت التنبيه إلى أن تناول مثل هذه المسائل ليس بالأمر الهين لأننا في حاجة إلى التعامل مع مستجدات العصر ولكن دون الاخلال بمبادئ وقواعد ديننا الحنيف. وقد أثبتت أزمة الرهن العقاري سنة 2008 بأمريكا والانتشار الواسع للمشتقات المالية صدق هيئاتنا الشرعية التي لم تجز أبدا لبنوكنا الاسلامية الاستثمار في هذه المنتجات السامة.