في دائرة الوجع المتقد، تخفي المدينة محاسنها تخبو مظلمة معتمة كحلية الشوارع،ومتعبة تستنطق الذاكرة التي باتت تتشظى بفعل التهديدات والانفلات بين أوصال الحياة، وكأنها آخر الخارجين من التيه وهي مرتدية ثوب الثمالة وربما أقنعة أخرى، وكأنها - المدينة - فرغت من آخر قطرة من صحوتها،لتزجي إلينا بنداء موجع يتجلى وسط الظلام الزاحف في سماء محت نجومها، غياب وهج الشمس والقمر الذي يتخفى محاقا، حينها صار ظلنا يتراكم في تلك الليالي. تمضي الساعات في مدى الدروب، وتخلو الشوارع من المارة بعد أن أغلقت الأبواب. وفي ركن ما، على الأسرة تتهاوى الأجساد في خوف مفاجئ، أما أرواحنا فكانت ترتفع تستنجد في فراغ الحقيقة تبحث عن حلم ظل طريقه إلينا. أنصت وأنا الحائرة إلى جارتي وهي تولول بشفاه بليدة، أقرأ في عينيّ صديقتي ألف حيرة وقلبي الحائر يشرد لينازع خلوتي إلى حد ما، حصل هذا بعد أن قايضت أيام الحصار كل دموعنا في العراق الحبيب لتعود اليوم وبشكل آخر أكثر مرارة وأكثر ضراوة وكأننا جبلنا على الألم ولا شئ غيره. في مدينتي- كركوك- العصية التشكي ساعة السغب لأنها تغفو على بحر من الذهب، خاب الحشدُ فيها ليتواجدوا في حيص، فلم يعد الناسُ يفكرون في أمر آخر بعد أن اكتهلت الحقائق وباتت أعمارنا نصف حياة سوى بالحرب والحرب تستيقظ قرب الحدود تهيئ آلياتها الجرارة لتبدأ برحلة – خارطة الطريق-. تتخذ مجلسا إلى جانب منضدتها لتقرأ في كتاب الحرب والسلام لتولستوي تستغرق من ضفة إلى ضفة تستبين الفرق بين الحربين: هل سيبقى الجميع صامداً؟ توزع الرجال في المقاهي ، وأخذ الآخرون بالتبضع من المواد الغذائية الجافة لخزنها ، خوفا من اليوم الموعود. توقفت الكثير من المشاريع في بلدي ومقادير الله تجري على عباده في زمن الذئاب وما علينا إلا أن نحتاط لدرء المصيبة، صرنا نبحث عن الخبر وعن الخبز- زائفا أو شبه حقيقي - لا ضير فلربما في بعض الظن نضمن ما يخفى ونكتشف سبب الصراع في مواجهة الآخر،لا شئ يهمنا سوى متابعة الأخبار عبر الصحف وأجهزة المذياع التي باتت تعج وتصرخ بأصوات البيانات في أفنية ضمتنا بيوتا أو مقهى في شوارع الحي مقترنة جميعها بالقلق الذي يصبغ تلك الأيام . كان جارنا وأصدقاء آخرون ومن بقربي جادين جدا في متابعة كل ما يذاع ليندفعوا بحرارة في المضي والخوض في حديثها –الحرب- ومن ظرف فيه نقائض الظرف، كنت مثلهم في بعض الأمور وليس مثلهم في قلقي أحدق في بله إلى أولادي وعينيّ مبللتين بالدموع، أخرج إلى باحة الدار، تحتويني حديقتي البسيطة في أشجارها وورودها، لأكون وحدي أجهش مثل الأطفال، وكان الظلام من حولي خفيفا مجنحا هو الآخر بالخوف، لأن السلام بعيد.. بعيد في بلادي. حملنا الأحزان الكبيرة التي لا أعرف كيف يحملها الإنسان فلم يكن بمقدورنا الاحتمال. الكلاب تنبح في مسلك الشارع المجاور والجميع ماض في متابعة كل جديد ومنذ لحظاته الأولى لمعرفة حجم الهوة في سقوطنا. تخبو أصوات الفرح.. والأمور تحمل طابع الجفاء والمفاجآت و-اللا خيار- مليكة يومنا، فقد كنا قصيين عن الفلسفة السياسية لأن سياساتنا المستبدة تغزل الساعات لتضعنا داخل شرنقة الوهم والانصياع لأوامر الجلاد وهكذا كنا بامتياز . نبحث عن ما يسد الرمق في ريبٍ يولد العاهات. أما ما استجد من بيانات فكنا نطالعها كالمغشي عليه، نبحث في المحطات الإذاعية عن أسباب الوجع نتابعها بشرود وبكف تضرب الكف! كم تقلقنا تلك المحطات لتخلق لنا في الشدائد تساؤلات عدة تلجلج في صدورنا المهمومة بعد أن خيم عليها الضيق، وكأن حدود الدنيا تنتهي؛ أيأستنا الحرب وقيدتنا في أماكننا بنفس يملؤها التمرد والتذمر واللعنة على الجلاد إلى يوم الدين. لم أفكر حينها مثل الآخرين في ترك بيتي على الرغم من أن الكثير من الأصدقاء فروا إلى خارج البلاد والآخر مازال يلعن الزمن، وآخرٌ آخر يصر على المواجهة حتى الموت. يثور ضجري بعد أن عبث النسيان في وطن ذاكرتي عسفاً و تهدأ الطائرات بعد هَدْأَةٍ من الليل لم نكن حينها نظفر بالطمأنينة فأن الزمن تغير ونحن آخر ما تبقى في ملفات (القائد الضرورة) ليزجي بنا إلى الغراب. الذي يغني بنعيقه فوق ارض بابل. هكذا كنا كما أرادوا أن نكون ،حين تكون الحرب من اجل -بقعة الزيت-. يتساءلون، يا لهذا الجنون هل انهزم الجيش؟ هل تزايل فتهاوى، هل خسر رجاله الأشاوس لينتصر الطغاة؟ في سكون الحركة وخفوت الصَّوْت، تلجلج الأسئلة بإلحاح: متى؟ ولم! وماذا، و... وبوادر الهزيمة تلوح في فصول الليل بعد أن قص جناحه بسيوف الظلام -عينها- فمازلنا نتذكرها جيدا تلك السيوف، لتتأكد لعنتها منذ ثورة العشرين حين نشر الخبر عبر مجلة شهرية بريطانية يعلن فيها (توني بلير) : أن أسلحة الدمار الشامل العراقية ستصل إلى الجماعات المسلحة في العالم، وأن بريطانيا ستقوم بحرب ضد العراق مع الولاياتالمتحدة (بدون قرار من الأممالمتحدة)، أنه التفرد بالرأي! ما أشجعهم هؤلاء القادة ، يمنحونا كل شئ مجاناً فقد أضحوا رجالاً بحق! لِمَ كل هذا الإصرار لقتلنا ونحن الشعب المحاصر منذ سنوات!؟ أي خطأ يقترفون؟ شاع الخبر ليشيع الخوف في أرضنا علنا بشكل لم نشهده من قبل بعد أن غيبت الكثير من الحقائق في هوة الضجر لتصير الحياة مجدبة وتترك لنا الكثير من الأسئلة في نفس حائرة، فثمة أشياء لم أعد أفهمها تتردد على ألسنة الأيام أتوقف عندها كثيرا؟؟. الشمس تذهب إلى جهة المغرب أصيلاً يميل إلى حمرة قاتمة، تعاودني نفس الأشياء ونفس السدور بين الحين والحين في كلمات الرئيس وهو يردد: سنخوض الحرب، يمر الوقت، وأتذكر ما آلت إليه الأمور في قصاصات حافظتي التي بدأت تفقد ميزتها للتو من شدة الإرهاق فالأخبار كثيرة يشوبها الغموض لا تكف، ولسعات الأسئلة تتواتر في مساءات الوطن الذي يجثم تحت قرارات الحرب ، القباب ،الحدائق الأفنية غائمة ظليلة. غفت الطرق في مدينتي في طريق الكون وكاد النسيم ينم بالسحر بعدَما سكَنَ الناسُ بالليل وبانت خيوط الفجر في ضالة الخطايا ليبوح للصبح بسره متسائلا: من تفوق على من؟ وهل خلع الليل ثيابه حذرا؟ سَكَنَتْ المدن الأخريات وسَكَنَ الناسُ –وبغداد- كقلعة حلقت تتشح بالغيوم لتتأكد خيانتها حيث ورد تصريح لرئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية (محمد البرادعي)، يقول: إن مفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة سيحتاجون لأشهر قليلة لإنهاء عملهم في العراق. كانت تلك، أقرب الوصايا العالقة في ذاكرتي في ساعة ِالعسرةِ.. و بعد حوار طويل بين الحاكم والمحكوم، الشكوك تزداد تكتنف الوقت بغبار اللا حقيقة ونضوبها، يمتد بنا نحن النساء -الخوف- ليسحب الأمان في سرادق الأسئلة التي لا نجد لمعظمها أجوبة مقنعة والتي ظلت في جعبة الملوك المسخرين، حين أعلن (هانز بليكس): بأنهم لم يعثروا على أية أدلة قاطعة في بحثهم عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، وبأن التقرير العراقي المكون من ألاثني عشر ألف صفحة غير كامل! يا لهزئ القدر! الشوارع تطالعنا خرساء بعد أن يَسْكُنُ الناسُ ثانية عن الترجل ، الطرق والنجوم تخفت قليلا وكذلك الاختِلافِ في الطُّرُقِ صار خارطة للوطن. تهدأ الأشياء من حولنا وينام الأولاد بالقرب من قلوب أمهاتهم تحسبا . في حضن الطبيعة الأم كنا نصحو نبدأ بتصفح ساعات اليوم في تأمل غير خافٍ، هم، يحوكون لقتلنا بأسلوب عصري يتماشى والغفلة التي تلف طاولات حكامنا - العادلون- الصامتون، ونحن، نحسب كل الأمور لأجل الأولاد.. صارت صالحة جدا تلك الغفلة تضفي عليها الخيانة مسحة من الغموض انتقت زمانها ومكانها المناسب لتمرير مخططاتها التي تحاك ضدنا في بلاد سومر تحت جلباب الديمقراطية المستوردة. بأذان صاغية نستمع طوعا لكل ما ينشر من تحليل سياسي وأخبار تذاع عن، وللأشياء التي تركت في ذاتنا (جرحا) لا يكفي كل التعبير الذي تعلمته من قراءاتي لروايات نجيب محفوظ وتولستوي وغابريل لصياغة سطور حقيقته آنذاك؛ لأن كل الحقائق تحت تأثير مناخات متذبذبة والحقيقة في لجة العدم النادر صارت عصر لنا . يستمر القلق وتستمر المؤامرة، وأرضنا الحلوة المحناة بالصبر تدور في أفلاكها تنشد هدفا لا يمكن إدراكه البتة ونحن الذين ملأ صحن عشاءنا سغب العوز في الحصار الاقتصادي ليعلن -صدام حسين- أنه جاهز للحرب وذلك في (ستة يناير ألفين وثلاثة) ، وأنه يتهم مفتشي الأسلحة الدوليين التابعين للأمم المتحدة بأنهم جواسيس لأمريكا. في خضم ذلك لا يتوانى الأخوة المخلصون، يكشرون عن أنيابهم. كما حاولت الحكومة السعودية ، في (الثامن من يناير ألفين وثلاثة) أن تستطلع الآراء من أجل إعطاء الرئيس العراقي فرصة أخيرة لترك العراق والتوجه إلى المنفى،لأنهم تيقنوا إن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، تلك خيارات الأبطال دون شك!! في نفس الوقت مرر مجلس الأمن الدولي في الأممالمتحدة قراراً جديداً يجيز الحرب على العراق. مع مرور الأحداث وفي خضم ذلك تخرج الصين وفرنسا وروسيا معارضة للقرار الأمريكي في مجلس الأمن الدولي. وعلى بعد خطوات من تلك الطاولات وفي نفس الفترة تشهد شاشات التلفزة وهي تكرر (مشهد لخروج حشد من الناس) في المظاهرات المعارضة للحرب في شوارع طوكيو، وسان فرانسيسكو كنذير شؤم ، كسحابة غير ممطرة. وبالتفاتة طيبة من (باول) فانه يصرح : "أنه يمكن تجنب الحرب إذا غادر صدام حسين الرئيس العراقي ونجلاه عدي وقصي وعدد من كبار قادته، العراق". يكبر المشهد ليلوح لنا أن للموت نوافذ شاخصة.