أمين قمورية بين ليلة وضحاها تحولت "سي ان ان" من "ام الاخبار" الى ملحق اعلامي ثانوي يعيد نشر ما نشرته "ويكيليكس" عن افغانستان والعراق بعدما كانت ابان الحرب على البلدين هي الصورة الوحيدة للمشاهد والمصدر الرئيسي للخبر. وبعدما سبقت "الجزيرة" نظيراتها بأشواط في نقل الاحداث المباشرة في أماكن الخطر وكانت الشاشة التي تشاهد عليها ما لا تشاهده في وسيلة اعلامية اخرى، صارت الان مجرد ناقل للوثائق السرية التي عممها الموقع الالكتروني الخطير على العموم. و"الحقيبة الديبلوماسية" التي نظمت طوال ثلاثة قرون العلاقات بين الدول بعيدا عن الرقابة، صارت فجأة شيئا من الماضي وانتفى دورها او يكاد حين امطرت سماء "ويكيليكس" مئات آلاف من الاوراق الديبلوماسية المصنفة خاصة او سرية لاكبر دولة في العالم وباتت في متناول اي شخص في المعمورة يتقن فك الحرف بكبسة زر على الانترنت. لم نعد ننتظر "رويترز"، أو "الاسوشيتدبرس" أو ال "بي بي سي" او "اي بي سي" أو "النيويورك تايمس" لنعرف ما هو الجديد في العالم، بل صرنا ننتظر ما ستنقله لنا الوكالات والقنوات والصحف من جديد كشفته او ستكشفه "ويكيليكس". كان الصحافي يجهد شهورا وسنوات ليتمكن من الاستحواذ على وثيقة واحدة من الوثائق المتداولة اليوم وقد يكلفه نشرها حياته، واذا بموقع الكتروني على الشبكة العنقودية يغطي الكرة الارضية بالوثائق السرية، ويشغل كل وسائل الاعلام في نقلها وترجمتها والتعليق عليها، ويهز دولا وأعصاب السياسيين حول العالم بضجيجها وارتداداتها، ويلهي الجمهور العريض بالجدل حولها حتى صار "مسلسل ويكيليكس" اشهر برنامج اعلامي في العالم ينتظر الناس حلقاته حلقة حلقة وصفحة صفحة. واذا دقق مدقق في تسريب كل هذا الكم من الوثائق السرية من خزنة الاسرار العسكرية والاستخبارية والديبلوماسية الاميركية، فانه سيجد استحالة في استيعاب حصوله. واذا كان هذا التسريب نتيجة خرق كبير لمؤسسة من المؤسسات الاميركية (وهذا ممكن ومعقول)، فهل من المعقول ان تكون كل المؤسسات الاميركية المحاطة بالسرية وأجهزة الأمان الشديدة التعقيد، مخروقة بالطريقة نفسها وبالسهولة نفسها وبالتزامن نفسه؟ واذا كان الامر يتعلق بخرق فني كبير أتاح دخول الشبكات المعلوماتية كلها، فهذا أمر لا يصدق، ذلك اننا امام مؤسسات يميزها تقدمها التكنولوجي وخصوصا في مجال المعلوماتية، ولا سيما ان بعضها - خصوصا العسكرية منها - هي من اخترع الانترنت وأحدث أكبر الانقلابات العلمية في التاريخ الانساني بل هي من يملك اكثر اجهزة الكومبيوتر تطورا في العالم. واذا سلمنا بأن مثل هذا الخرق حصل فعلا (ولو كان ذلك مستحيلا)، فهذا يستتبع حتما عاصفة سياسية داخل الادارة الاميركية اين منها عواصف فضيحتي "ووترغيت" و"ايران غيت"؟ بيد ان رد الفعل الرسمي الاميركي الخجول حتى الان على فضائح "ويكيليكس" لا يدل أبدا على ان واشنطن تواجه امرا جللا! "ويكيليكس" هو اليوم بوابة الاعلام الاولى في العالم بلا منازع. وبغض النظر عمن يقف وراءه وما هي دوافعه للنشر وطريقة حصوله على المنشورات، فان هذا الموقع ظاهرة اعلامية تستحق البحث والتأمل والتساؤل بعدما ألغى ببساطة ما عداه من وسائل اعلام اخرى وجعلها توابع له تعيد نقل ما ينشره. مع "ويكيليكس" لم تعد المسألة حكايات الحرب في العراق وافغانستان، وما نقله هذا الديبلوماسي عن هذا الملك او ذاك الرئيس في شأن ايران وباكستان، وما هي الاوصاف التي يطلقها السفراء الاميركيون على ميدفيديف او ساركوزي او برلوسكوني، بل صارت مسألة من يعيد التحكم في مصادر الاعلام في العالم ومن يعيد السطوة على الآلة الجبارة لصنع الرأي العام في العالم بعدما كثر المتنافسون على منابع الاخبار. بالامس كانت ال "سي ان ان" وقبلها ال"بي بي سي"، اليوم شرايين العالم الاعلامية والسياسية والاجتماعية والقيمية بين أصابع "غوغل" و"فايسبوك" و"تويتر".. ولعل أخطرها "ويكيليكس". صحيفة النهار اللبنانية الأحد 05/12/2010