تساءل العروي في خاتمة كتابه الموسوم ب "العرب والفكر التاريخي" 1973 والذي جاء في أعقاب هزيمة 1967: هل النخبة المثقفة قادرة على تجاوز أفقها الخاص ومصالحها وأفق الطبقة التي كونتها وتتطلع إلى مجتمع أكثر عصرنة وأكثر تطورا (العرب والفكر التاريخي ص217)نبعت أسئلة العروي من خيبة أمل عميقة زاد من عمقها الآمال التي كان قد بناها على النخبة المثقفة فيما سيكتشف لاحقا بأنها نزعة طوباوية كشفت عجز النخبة المثقفة ذاتها بفعل هزائمها المتوالية وعدم قدرتها على التخلص من أوهام الحداثة والتطور.دعنا نتساءل لماذا تزداد خيبة الأمل من إمكانية انتقال المثقف المغربي من مجرد مستهلك تابع إلىالمبادرالمنتج؟ ولماذا يزداد المثقف هامشية اليوم؟ وما الذي أدى بالنخبة إلى التخلي عن ريادتها وقدرتها على التغيير؟ ولماذا لم تستطع النخب التي وصلت إلى الحكم ضمان التجسيد الفعلي لشعاراتها وأفكارها على أرض الواقع؟ ولماذا تخلت النخبة عن شعاراتها وانساقت وراء الامتيازات بل إن النخب التي امتلكت بعض وسائل السلطة شكلت نمط حكم ونماذج هي الأسوء من نوعها على الإطلاق؟مشكلة المثقفين الأساسية مع أفكارهم، فالمثقفون هم بالدرجة الأولى ضحايا أفكارهم ونمط التفكير لديهم، خاصة عندما يتحولون إلى باعة أوهام وحراسا لأفكار عتيقة وبالية على حد تعبير المفكر الفرنسي ريجيس دوبري.إن النقد الأكثر جذرية يجب أن يوجه إلى أنماط تفكير المثقفين ومن دون ذلك سيكون الكلام أشبه بصب الماء في الرمل، وأن خطاب المثقفين يمارس نوعا من الإخفاء والالتباس عندما يركز على نقد السلطة التي تصبح دثارا يخفي به المثقف أزمته الحقيقية التي تجعل منه عاجزا وتابعا عوض دينامية الفعل العضوي المسهم في التغيير.صحيح أن أزمة المثقف لدينا أكبر من أن تختزل في جانب دون آخر لكن للأزمة وجه آخر أكثر شراسة وخطورة: إنها نخبوية المثقف الذي يتعيش من الكلام عن مصالح "الجماهير". فهل مجرد إعلانات الحرية وبيانات الحقيقة وادعاءات المشروعية كافية لفك عزلة المثقف وهامشيته؟الملاحظ لما يجري في أروقة خطاب المثقف العربي عموما والمغربي خاصة، لابد أن يستخلص مسارين اثنين اختطهما المثقف لنفسه أو أجبر على الانضواء تحتهما. المسار الأول يدافع عنه مثقفون اختاروا الانعزال في أوهام السلطة فتبنوا أيديولوجية وظيفية أساسها الحفاظ على الأنظمة القائمة، فاستغلتهم السلطة القائمة من خلال تاريخهم النضالي، فتلاقت رغبتهم في كسب الغنائم مع رغبة السلطة في تلميع صورتها، فحدث ذلك التماهي مع السياسي قبل أن يسقط المثقف في الثنائية القاتلة التي تعتمد التفريق بين الطليعة والجماهير، وهو الشعار الذي يتم تبنيه ضمنيا لتبرير الأحقية في الذوذ عن مصالح الجماهير التي لا يزداد المثقف إلا ابتعادا عنها. أما التوجه الثاني فإن أوهامه من طبيعة مغايرة وتتمثل في فشل المثقفين في التعاطي مع المتغيرات والوقائع الجديدة ، وإحساسه الدفين بأن الأحداث تتجاوزه مما يحيلهم إلى حراس أمناء لأفكار ميتة، فيصدق فيهم وصف علي حرب حين أطلق عليهم تسمية "أهل الكهف" نظرا لعجزهم عن التكيف مع المتغيرات الجديدة في عالم لا يؤمن بالمثقف "المح فلط المزفلط الكثير الكلام". ما جدوى إذن أن تكون مثقفا؟ وما جدوى الاستمرار في نرجسية تؤمن بالتفوق في عالم شديد التعقيد؟يعرف ريجيس دوبري المثقف بكونه "الشخص الذي يدلي بدلوه في المجال العمومي ويعلن للملأ آراءه الخاصة". تعريف دوبري يجعل من المثقف فاعلا في الساحة العمومية لكن بالمقابل يقيده بارتهانات خاصة في عالم متعدد الوسطاء الاجتماعيين ومدجج بفاعلين جدد لم يعودوا قادرين على السماح لأصحاب الخطب العصماء التواجد والانتشاء بنرجسية جوفاء.في عالم تسيطر عليه الصورة لم يعد المثقف ولو على الصعيد العالمي يحظى بتلك الهالة القدسية القديمة، حيث تراجع دوره مع تراجع دور الكلمة المكتوبة فلم يعد المثقف هو الذي يصنع العالم، بل صار في محيط الفعل فاعلون جدد هم الأقدر على صناعة الأحداث والتأثير فيها، فلم يعد المثقف هو الوحيد الذي يحتكر إلى جانب السياسي سلطة التأثير، لقد اقتحم الميدان رجال الأعمال ومصمموا الأزياء ونجوم الغناء، وأبطال الأفلام، ونجوم كرة القدم، وأباطرة الإعلام.أعتقد أن ظهور فاعلين اجتماعيين جدد مسلحين بأحدث ما أنتجته حضارة الصورة يشكل الرواق الأمثل لاقتحام عوالم هزيمة المثقفين والتساؤل حول جذورها بهدف فتح حوار حقيقي بعيدا عن أوهام السياسة ومزايدات الأيديولوجية الثقافية. وعلى هذا الأساس تجد مجموعة من الأسئلة شرعيتها إلى فرض نفسها وهي كالتالي:هل يمكن إرجاع هزيمة المثقف إلى ارتهاناته الأيديولوجية وإلى ذلك التوحد بينه وبين السياسي إلى الحد الذي أصبح فيه أداة طيعة في يد رجل السياسة والناطق الرسمي باسمه أملا في مصالح شخصية وآنية؟وهل يمكن البحث عن هزيمة المثقف بإرجاعها إلى ضعفه المعرفي بالمستجدات في عالم الأفكار والمفاهيم؟وهل يمكن البحث عن هزيمة المثقف في مجال آخر مرتبط بتعميم قيم عالمية في سياق دولي كوكبي لا يؤمن إلا بالمؤسسات ذات التمويل والإنتاج الضخمين؟يبدو أن السؤالين الأول والثاني يبقيان على درجة عالية من الأهمية غير أن السؤال الثالث يحتوي على راهنية بالغة في عصر الصورة الإلكترونية العابرة للقارات والمقلصة للمسافات والمبشرة بعالم تنتفي فيه الحدود، ولا تنضب فيه صناعة النماذج بدءا من صناعة نجوم كرة القدم ونجوم الغناء وصولا إلى المنتوجات القيمية ذات الصبغة العالمية والتي تقودها شركات متعددة الجنسيات تروج لشباب الكوكا كولا الطافح بالحيوية والدائم النجاح...الكليبات التلفزية، صور شاربات الكوكا كولا الجميلات، صور النجاح الرياضي، موسيقى الدجي، الروك والبوب والهاردروك، النزوع السينمائي نحو الليبرالية الاستهلاكية.... عندما توجه في إطار منظومات إعلامية متكاملة تسهر عليها مؤسسات إعلامية وإنتاجية بتمويل ضخم لا يمكنها إلا أن تخترق أشد المنظومات الثقافية والقيمية صلابة ولا يمكن إلا أن تؤدي بجدار المقاومة التقليدي إلى التهلكة. فتبدو صورة المثقف التقليدي في برجه العاجي أقرب إلى المسخرة منها إلى الفاعل العضوي.ألم يقل ريجيس دوبري: "إن الشباب الدائم، شاربات الكوكا كولا الجميلات، ورجولة الكاوبوي المدخن للمارلبورو، وموسيقى الروك... ربما عملت على قلب الشيوعية في أوربا الشرقية أكثر مما فعلته مؤلفات سولجستين أو بيانات هافيل"... المثقف مطالب بطرح الأسئلة الحقيقية أما حراسةالأفكار الميتة والبحث عن المنافذ الصغيرة لحفظ الامتيازات فلن تسهم سوى في تحوله إلى كائن كاريكاتوري يثير الشفقة أكثر من غيره من البؤساء.