الترقية آلية ضرورية في الحياة المهنية لأي موظف، لأنها تجسد بصيغة أو أخرى معيارا لتقييم وتقويم نشاطه المهني وتوجيه أدائه وطريقته في العمل، ورصد مؤهلاته وتقدير عطاءاته وإنجازاته في كل مراحل عمله،وتحصين قدراته وتجربته في الحقل الذي يمارس فيه مهامه، وهي من هذه الزاوية مظهر لديناميكية مضافة لتقدير إنجازاته في مجال اشتغاله، وتنطوي على جانب تحفيزي مادي ومعنوي يتوخى في النهاية تحقيق استمرار الفعالية العالية للموظف،وتطوير طريقته في العمل. في ما يخص الأساتذة الباحثين فإن المرسوم رقم793. 96 . 2 . الصادر في 19 فبراير 1997 المعتبر بمثابة النظام الأساسي الخاص بهيئة الأساتذة الباحثين بالتعليم العالي، حدد في صيغته الأولية كيفيات ترقي الأساتذة الباحثين خاصة في المادة 14 منه، حيث نصت أن ترقية الأساتذة الباحثين تتم بكيفية مستمرة من رتبة إلى رتبة ومن درجة إلى درجة، تتم الترقية من رتبة إلى رتبة كل سنتين ، أما الترقية من درجة لأخرى فتتم من الرتبة الأخيرة في الدرجة المقصودة إلى الرتبة التي تليها من الدرجة الموالية وفق نسقين اثنين هما: "النسق السريع"، ويشترط فيه أقدمية سنتين في الرتبة الأخيرة من الدرجة المقصودة، و"النسق العادي"، ويشترط فيه أقدمية ثلاث سنوات في الرتبة الأخيرة من الدرجة المقصودة. وقد تم تعديل هذه الصيغة وتتميمها بموجب المرسوم رقم 886 .00 .2 بتاريخ 19 فبراير 2001، الذي أضاف نسقا ثالثا إلى النسقين السابقين، هو "النسق الاستثنائي"،ويشترط فيه سنتان من الأقدمية في الرتبة الثالثة من الدرجة المقصودة .ومع هذه الصيغة وضعت حواجز جديدة أمام عملية الترقي، إذ تم تشريع مبدأ "الكوطا"، أي مبدأ التصفية والانتقاء، وغدت الترقية رهينة هذا المبدأ، محكومة بنسبة العشرين بالمائة في كل من النسقين الاستثنائي والسريع، مما يعني تراجعا وإجهازا على طابع المرونة التي اتسمت بها أنساق مرسوم 1997، وركوبا لمنطق التضييق وعرقلة إمكانيات الترقي وحمل الأساتذة الباحثين على التمرس برياضة القفز على الحواجز التي تجسد مظهرها نسبة العشرين بالمائة. ولتمرير هذه الصيغة بشكل يلتف حول أية ردود فعل تجاه هذا التقنين، نصت المادة الثانية من هذا المرسوم (2001 ) على إمكانية استفادة كل الأساتذة الباحثين الذين زاولوا مهامهم بهذه الصفة لمدة تسع سنوات ابتداء من فاتح يوليوز1996، من ثلاث سنوات اعتبارية، على ألا يسري مفعولها المادي إلا بعد ثلاث سنوات أخرى تمضي، أي ابتداء من فاتح يوليوز 1999.وكانت هذه المادة، الطعم ، الغشاء الخادع الذي كرست من خلاله "الكوطا" كنمط حيف مبطن تلقاه الأساتذة الباحثون وكأنه القدر المحتوم، ومن ثمة أحكمت الوزارة الوصية طوقها على الترقيات وتوجيه مستوياتها، وفتحت هامش امتيازات عابرة وطارئة، وجيوب تصفيات في طريق الترقي ودرجاته.والجدير بالإثارة هنا أن نسبة العشرين بالمائة من الوجهة العملية ليس ثمة على الإطلاق ما يسوغها أو يبررها أو يسندها من الزاوية التشريعية، فهي إجراء غير قانوني وليس له أي طابع شرعي،غير أنها تشرعن على الجانب الآخر حيفا سيطال الثمانين بالمائة الباقية، ومن ثمة فهي لا تتأسس على أية معايير موضوعية ، وإلا فما الذي يحمل على تحديدها في هذا الرقم وليس في أي رقم آخر، غير الاعتباطية و ربما حذاقة وزارة المالية في توجيه نشاطها صوب ما يرضي إملاءات البنك الدولي وما جاورها.والواقع أن القبول بهذه الأنساق كان يعني الإجهاز الفعلي على الترقية كعنصر أساسي ومركزي في حياة الأستاذ الباحث المهنية، ويبدو أن عوامل خارجية لا صلة لها تماما بأية أبعاد نقابية تدخلت لصالح تمرير هذا القبول، دون أدنى مراعاة لمكتسبات الأساتذة الباحثين في هذا المجال.أما الإجراءات المواكبة لمسطرة الترقي فتتلخص في تقديم ملفات في شكل تقارير مفصلة تتناول أعمال البحث المنجزة والمنشورة بصورة فردية أو جماعية، والمساهمة في أنشطة علمية ووطنية ودولية وأنشطة مهنية وبيداغوجية، إلى اللجنة العلمية للمؤسسة التي تقوم بدراستها، وفقا لمقاييس تحدد بقرار من الوزارة الوصية. وتحدد المادة 23 من القانون 01.00 بشأن تنظيم التعليم العالي مهام اللجنة العلمية في اقتراح جميع التدابير المتعلقة بالأساتذة الباحثين ولا سيما ما يتعلق بترسيمهم وترقيتهم وتأديبهم. وتقوم على عاتقها إذن مسألة الحكم أو البث في صلاحية هذا الأستاذ أو ذاك للترقي، ويعني هذا بجلاء إخضاع مؤهلات الأستاذ الباحث لحكم أو رأي أو مزاج ثلة من الأساتذة أنيطت بهم مراقبة وتقييم مؤهلات زملائهم، وهو أمر يثير مجموعة من التساؤلات تتصل بطبيعة هذه اللجنة العلمية ذاتها وآليات تكوينها، إذ أن كيفية تشكيلها لا تضع أية محددات واضحة، فحسب قرار وزير التعليم العالي رقم127.02 بتاريخ 19 سبتمبر 2002، فاللجنة مفتوحة أمام (أربعة) أساتذة التعليم العالي المزاولين عملهم بالمؤسسة الجامعية المعنية منذ سنة على الأقل، ينتخبهم كل الأساتذة الباحثين بالمؤسسة نفسها، وآخرين معينين... مما قد يفضي مع مرور الوقت إلى تحول عملية تشكيل هذه اللجنة إلى مجرد عملية انتخاب صرفة على الطريقة المغربية، بعيدا عن أية معايير علمية أو أكاديمية، وأحيانا إلى "فرق تدخل" تتشكل من أغلبية أصوات، تنصب لتمرير أي مخطط موجه للترقي . ولذلك فإن تسييج كيفيات تأليف هذه اللجنة وانتخابها، بمعايير دقيقة وموضوعية صارمة، أمر يفرض قوته في هذا الشأن لدرء الشبهات المحتملة والتصدي لمحاولات تحويلها إلى "مجموعة منتخبين" ومعينين، يسعون لتحقيق برنامج انتخابي ضيق ومحدد، خاصة وأن القانون التنظيمي لا يضع في هذا الباب أي إطار للتحصين أو أية ضمانات حقيقية وملموسة يمكن أن تتصدى لعمليات تسرب مظاهر المحسوبية والزبونية والمحاباة إلى المعايير المعتمدة، وتفصيلها وفق مقاسات محددة.وقد أصدر وزير التعليم العالي القرار رقم 954.03 بتاريخ 29 ماي 2003 بشأن تحديد مقاييس ترقي الأساتذة الباحثين، وفي المادة الثانية منه يتم تحديد المقاييس انطلاقا من الأنشطة التالية: أنشطة التعليم وأنشطة البحث، وأنشطة الانفتاح والتواصل، ويظهر أن هذا القرار يتعارض مع نص المرسوم المشار إليه ( 2001) حيث أن مبدأ الترقي تبعا لهذا المرسوم يهم الأساتذة الباحثين القائمين في الجامعة بمهام التعليم والبحث، وتكررت هذه الصفة مع الأنساق الثلاثة التي تنهض عليها الترقية، وهو ما ينسجم كذلك مع ما ورد في المادة 3 من مرسوم 1997 التي تحدد مهام الأساتذة الباحثين في أنشطة التعليم والبحث والتأطير، ومع ما تنص عليه إحدى فقرات المادة 14 منه بشأن ملفات الترقية التي ينبغي أن تشمل: أعمال البحث المنجزة والمنشورة بصورة فردية أو جماعية، والمساهمة في أنشطة علمية وطنية ودولية، والأنشطة المهنية والبيداغوجية، وهو ما يؤكد بوضوح أن مهام التعليم والبحث هي الجديرة بكل جهد وعمل الأستاذ الباحث، غير أن قرار الوزير يضيف مهام أخرى تحت ظل ما سماه أنشطة الانفتاح والتواصل، وهي على ما يبدو من باب "الزيادة في العلم"، ولا قاعدة تسندها في النصوص التنظيمية القائمة، من حيث إن هذه الأنشطة ليست من صلب المهام الفعلية الملقاة على عاتق الأساتذة الباحثين. وقد أرفق القرار المذكور بجدول يدقق في العناصر والفروع المكونة للأنشطة المذكورة، ومعاملاتها المرصودة، وهذا الجدول هو ما اعتبرناه "الشبكة العنكبوتية" المنفتحة على اللانهائي، والتي على الأستاذ الباحث أن يستقصي ويتعقب كثيرا من تفريعاتها ومساربها الداخلية المتداخلة ليسوق عبرها مؤهلاته وكفاءاته العلمية ومظاهر انفتاحه وتواصله، وعليها مرتكز اللجنة العلمية للتقييم والتقويم، وكل من الأنشطة الثلاثة يتوزع إلى ثلاث مكونات أو محاور كبرى أساسية هي : الإنتاج التأطير المسؤلية، وتحت كل منها تنضوي فروع أو مهام أو قل أنشطة صغرى، وإذا كان المحوران الأول والثاني الإنتاج والتأطير مما يدخل في جوهر عمل الأستاذ الباحث ودوره، فإن محور المسؤولية قد لا يخلو من إقحام إذ أنه استثمار لأوضاع وصفات أو مواقع قد لا يكون لها أي بعد يصب في مجرى التعليم والبحث.وفي تقديرنا أن التفسير الوحيد الذي يمكن أن نقرأ عبره قرار وزير التعليم العالي وإضافته أنشطة الانفتاح والتواصل بدون مسوغ، هو محاولة جادة ل"تعويم" المعايير والمهام معا ومقاصدهما، ما لم نقل تمييعها،والارتفاع بمدارج الترقي عن أسباب الموضوعية والعدالة والإنصاف والصرامة العلمية المرغوبة. إن الأنشطة الرياضية أو النقابية أو السياسية ليست لها أية علاقات مباشرة أو عضوية بمهام الأستاذ الباحث، فأن يكون برلمانيا أو مستشارا جماعيا أو عضوا في جمعية رياضية أو خيرية أو جمعية مهتمة بأحوال المعاقين أو محاربة السيدا أو "سانديكا" للعمارة التي يقطنها، هي أوضاع ومسؤوليات وصفات ليست لها أواصر بمهام التعليم والبحث، واكتسابها يتم في غالب الأحيان عبر أساليب وعادات وطرائق غير جامعية ولا علمية، ولذلك فإن ما سمي بأنشطة الانفتاح إنما اعتمدت لتسهم في إضفاء بعض قيم "العبثية" وعدم المصداقية على معايير ومقاييس الترقية التي لا نتصور إلا أن تكون مرآة حقيقية لإنجازات الأستاذ الباحث في مجال البحث والتأطير العلمي والتربوي.وقد كان لمفعول هذه الأنشطة آثار سلبية على كثير من "المسؤوليات" و"المواقع" و"الصفات" داخل الفضاء الجامعي، وأفرزت سيلا من الممارسات التي تتغذى من قاموس الانتفاعية البخسة، والوصولية ومنطق الغاية تبرر الوسيلة، ليتفاقم اللهاث وراء إثبات المسؤوليات والمواقع المتقدمة في جمعيات حقيقية أو وهمية، وإغراق ملفات الترقية بأنشطة من المخجل حقا أن تعتمد كمعايير للترقي في جامعاتنا، وغدا في ظل هذا الوضع البحث عن رصيد النقط هو الهدف الأسمى، وأصابت عدوى التهافت الهياكل الجامعية ذاتها إذ لم يعد ينظر إليها إلا من زاوية كم نقطة تضيف إلى الرصيد، لتدعيم ملف المسؤوليات في خانات الترقي، وهو ما حول هذه الهياكل عن مجرى دورها الحقيقي والفعلي.بل إن تحمل المسؤولية في الأجهزة النقابية ابتداء من المكتب المحلي، غدا بدوره امتيازا ، ويوفر هامشا من نقط مضافة. والاجتهاد في هذا الاتجاه على ما يبدو غير سليم من الوجهة التشريعية، فالفصل 14 من قانون الوظيفة العمومية ينص بوضوح أن الانتماء أو عدم الانتماء إلى نقابة ما لا ينتج عنه أية آثار أو انعكاسات على الوضعية الإدارية للموظف على الأخص في ما يعود لترقيته وتعيينه،والظاهر أن قرار وزير التعليم العالي المشار إليه يخرق هذا البند بامتياز، إذ صنف الأنشطة النقابية ضمن معايير ترقية الأساتذة الباحثين.والحقيقة ان حشر هذه المسؤوليات في معايير الترقية في عمقه هو تأكيد وترسيخ لبنية تحول غامض وغير دقيق المعالم في الأعراف والتقاليد الجامعية، وقد يبدو أن له، ظاهريا على الأقل، بعدا تحفيزيا،وأنه تشجيع، وإذكاء لروح المبادرة لدى الأساتذة الباحثين وتحريض لهم على الانخراط في مجمل المخاضات والتحولات التي يشهدها مجتمعنا، ولكنه مع ذلك يصعب التحكم في هذا المسعى خارج مسار انزلاقات عديدة محدقة وغير مأمونة العواقب، ستسهم بقوة في الإجهاز على ما تبقى من قيم وتقاليد أكاديمية وعلمية في الجامعة المغربية، إضافة إلى دوره السلبي والهدام من خلال مظهر إفراغ كل هذه المسؤوليات من أية فاعلية أو نجاعة تذكر، بالنظر إلى تمثلها مجرد مطية للترقي فحسب.Zouhair Mouayn [email protected]