[email protected] هذا سؤال وددت لو أني حملته إلى عبد السلام في حياته. ولأن المنايا تخبط خبط عشواء، كما قال الشاعر، فإنها لم تترك لي إلا سبيلا وحيدا لحمله إلى كل قارئ مغربي، ومنه إلى روح عبد السلام؛ لأن "بومارس"- كما شهد بذلك محمد السريفي في أربعينية الموذن بتطاون- يسكن كينونة نضال الشعب المغربي. لذلك أستأذنكم في إيصال هذا السؤال إليه عسى تفي لذكرى صاحب "الزنزانة رقم 28" ولنضاله الوطني المشرف.يكاد يكون الإجماع تاما حول ضرورة الحوار وأفضليته على باقي أشكال الصلات مع فكر وممارسة أي علم من الأعلام البارزة في حياتنا الفكرية والسياسية والثقافية. وأكثر ما تكون ضرورته وأفضليته، إذا ما كان فكر وممارسة هذا العلم يثير من القضايا والمسائل ما يستدعي الحوار معه حولها، والتحاور معه فيها. ويظهر لي أن فكر وممارسة عبد السلام الموذن تستجيب لهذا الشرط، نظرا لأنها تثير من القضايا ما صعب منها، وتطرح من المسائل ما تعقد منها؛ كنت معه من المتفقين، أم من المختفين. وكل ذلك بوضوح منهجي أخاذ، وبرؤية علمية متبصرة، ومن موقع نضالي متقدم. لذلك أرى أن أحاوره حول قضية واحدة، لها تشعباتها المتعددة والمختلفة. وتتعلق بقضية الجبهة الموحدة، تستفاد من إحدى فقرات مقال له نشره في أنوال الظافرة ذات جمعة من خامس عشر من مارس عام 1991، قال فيه متحدثا عن "الثورة التي أشعلت الحرائق في العالم": " مصلحة الشيوعيين والإسلاميين والقوميين والليبراليين المنتمين للأرواح الخيرة تكمن في توحيد صراعهم التاريخي الحاسم ضد الشيوعيين والإسلاميين والقوميين والليبراليين المنتمين للأرواح الشريرة". وسؤالي هو: هل أذن فينا عبد السلام صلاة الجبهة المودة حينما رأى أن مصلحة الشيوعيين والإسلاميين والقوميين المنتمين للأرواح الخيرة تكمن في توحيد صراعهم التاريخي ضد الشيوعيين والإسلاميين والقوميين والليبراليين المنتمين للأرواح الشريرة؟ سأفترض أن عبد السلام قد فعل، إن لم يكن بالتصريح فبالتلميح، وإن لم يكن بالعبارة فبالإشارة؛ لأن عبد السلام لا يمكن أن يكون إلا كما أفترض، داعي وحدة وتوحيد، ورفقاء المدرسة الوطنية على ذلك من الشاهدين، أم هناك من معترض؟! ثم إن الفرقة والتفرقة في تمام كمالهما. وإذا لم يكن عبد السلام أذن فينا صلاة الجبهة الموحدة، فإن الضرورة تلزمه أن يفعل، وما أراه إلا فاعلا. ألم يكن رفاق نضاله الوطني ينادونه ب"الشاف"؟ وما "الشاف إلا من "شاف" [رأى/شاهد] ميقات الوحدة، ودعا الناس إلى صلاتها. ومن من الناس كان أقدر على ذلك حينما أعلنت الفرقة حربها علينا غير "بومارس" حتى يقضي على فتنتها؟ سأفترض إذن أن عبد السلام قد فعل. وليسلم معي الخصم، قبل الحكم، أن توحيد الصراع التاريخي الحاسم، لا يمكن أن يأخذ إلا شكلا واحدا هو الجبهة الموحدة. ولينظر معي فيما سأرتبه من نتائج بحسبها إن هو صبر معي على أن أسأله ثلاثا: هل هذه الجبهة ممكنة؟ هل هي متحققة في واقع اجتماعي وسياسي وثقافي؟ وكيف تحققت على وجه التعجيل أم على وجه التأجيل؟ أجزئية هي أم كلية؟أولا: إمكان الجبهة الموحدة واردإمكان الجبهة الموحدة وارد، على صعيد المنطق السياسي، كما على صعيد الرغبة الذاتية، وصعيد الواقع الموضوعي؛ فعلى صعيد المنطق السياسي، من الممكن أن يتوحد الشيوعيون والإسلاميون والقوميون والليبراليون، داخل جبهة وطنية واحدة، إذا ما دعت الضرورة إلى نزال عدو مشترك يهدد وحدة وأمن الوطن، أو لمواجهة خطر ماحق يهدد الإنسان والعمران، أو لتحقيق هدف مشترك كالديموقراطية وحقوق الإنسان والتنمية والتقدم، خاصة إذا ما حصل الإجماع بينهم على أن الحقيقة طرقها متعددة، ووسائلها متكثرة، وتحقق الاتفاق بينهم على أنهم أبناء وطن واحد، كان واحدا وينبغي أن يظل واحدا، عليهم كافة واجب الحفاظ على وحدته، والذوذ عن حرمته، ولهم عامة حق الانتساب إلى تاريخه، والانتماء إلى جغرافيته.أما على صعيد الرغبة الذاتية، فمن الممكن أيضا أن يتوحد الشيوعيون والإسلاميون والقوميون والليبراليون، داخل جبهة وطنية واحدة. إن الشيوعي الصادق، وكذا مواطنه الإسلامي والقومي والليبرالي، لا يمكن أن يكون في قرارة نفسه، إلا راغبا في الوحدة والتوحد، باعتبار الوحدة لا التفرقة، والتوحد لا التنابذ، هما اللذان يوفران الشروط الأكثر أفضلية لتحقيق الأهداف المرجوة، والمقاصد المأمولة، أكانت دانية قطوفها أم بعيدتها. ثم إن الفرد منهم؛ أقصد الشيوعي والقومي والليبرالي، لا ريب أن رغبته في تحقيق الهدف المأمول، تفوق رغبته في انتصار وسيادة الاسم الذي يحمله، وإن افترضنا أن ذلك الهدف الذي يسعى إليه قد حققته أسماء أخرى فإنه، لا محالة، سيرضيه ذلك سيما إذا كان شريف القصد، صادق العزم، يتأسى بمن سمت نفوسهم، ونبلت أخلاقهم. أفلا يريد بعد ذلك أن يلتحق بجبهة تضم تلك الأسماء وقد حققت من الأهداف ما كان يسعى إليها؟وأما على صعيد الواقع الموضوعي، إن ذات الإمكان وارد؛ نظرا لورده على صعيد الرغبة الذاتية. ولو ألفنا بين رغبات ذاتية لها وضع التعدد في الواقع الموضوعي، لجاز لنا القول إن الوحدة ممكنة التحقق في الواقع، ولا شئ يمنعها، بل كل شئ قد ييسرها، لأن تحقيق الأهداف المرادة لا يمكن أن يتأتى بكيفية كاملة إلا إذا توحدت الإرادات، وتكاثفت الجهود وتضافرت السواعد في فعل وحدوي واحد، ناجز لما عجزت عنه الآحاد، وهي في فرقتها وتنابذها وتصارعها وتطاحنها. إن الجبهة الموحدة إمكانها وارد لأن أهدافها عصية عن التحقق إذا ما كان العمل مؤدى بصيغة الفرد والتفرقة، لا بصيغة الجماعة والوحدة.ثانيا: تحقق الجبهة الموحدة شاهدوكما أن إمكان الجبهة الموحدة وارد، على صعيد المنطق السياسي والرغبة الذاتية والواقع الموضوعي، هكذا تحققه شاهد في التاريخ والمضارع والواقع.ففي التاريخ نرى أن إمكان الجبهة الموحدة قد تحقق في سياق النضال من أجل انتزاع حق تقرير المصير، أو تحقيق الاستقلال الوطني، أو دحر نظام استبدادي؛ فحركات التحرير الوطنية أمشاج سياسية متشابكة وحدتها قضية استقلال الوطن عن التبعية العسكرية والسياسية والثقافية للمحتل الغاشم، والمعارضة الوطنية المسلحة ألفت بينها الرغبة في تحرير الوطن من نظام استبدادي أو حكم عميل للأجنبي، وإقامة نظام عادل ووطني، وحركات النضال الديموقراطي جمعتها إرادة تغيير أسلوب الحكم، ونظام التسيير الاقتصادي، وفلسفة الحياة الاجتماعية. أما في المضارع، فقد تحقق إمكان الجبهة الموحدة في إطار تجربة أمريكا اللاتينية. تقول إحدى فقرات بيان "هافانا" الثاني على سبيل المثال:" في المعركة ضد الامبريالية والإقطاع، يستطيع أن يقاتل جنبا إلى جنب لخير أمته، وخير شعبه، وخير أمريكا، ابتداء من المناضل الماركسي القديم، حتى الكاثوليكي الصادق، الذي ليست له علاقة بالامتيازات اليانكية والسادة الإقطاعيين". وتقول الجبهة الساندينية للاستقلال الوطني في أحد بياناتها ما يلي:" تبين تجربتنا أن المرء يمكن أن يكون مؤمنا وثوريا في الوقت نفسه، وليس ثمة تناقضات غير قابلة للحل ما بين هذين التوجهين". وفي كولومبيا أنشأ الأب "كاميلو توريز" جريدة سماها الجبهة الموحدة وضع لها برنامجا جامعا يهدف إلى تحقيق وحدة جميع أحزاب اليسار والليبراليين وحتى الشيوعيين.وأما في الواقع، فقد تحقق إمكان الجبهة في الانتفاضة الفلسطينية؛ لا على صعيد توجيه الضربات القاصمة للعدو الصهيوني فحسب، بل حتى على صعيد حرب الشعارات. لقد اشتركت كل القوى الفاعلة في الانتفاضة وصاغت ملحمة التصدي البطولي بإمكانياتها البسيطة تحت قيادة وطنية موحدة، وها "حماس" تفتح الحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية في مرحلة كفاحية جديدة لتنسيق الجهود من أجل فعل نضالي مثمر. ثالثا: إنجاز الجبهة الموحدة متعددوكما أن تحقق الجبهة شاهد في التاريخ والمضارع والواقع، هكذا إنجازها متعدد، إما بالتعجيل أو بالتأجيل، جزءا أو كلا. فإما أن يكون إنجازها بالتعجيل حين تقام أركانها، وتدق أوتادها، ويدعى لها من كل فج عميق؛ خاصة وأن العدو على الأبواب يتربص بنا الدوائر، والعميل بالمرصاد، يحسب علينا الأنفاس، ومجد الوطن أكثر من الفرقة،وأبقى من التشرذم، وأدعى إلى الوحدة، وآنس إلى التوحد. أو أن يكون إنجازها بالتأجيل، حتى يؤمن بها كعقيدة، وتعقل نقائضها تصورا، وترى فائدتها ممارسة، وُتلمس ضرورتها واقعا؛ خاصة وأن المسألة من جنس المسائل الطويلة الأمد، القوية السند، واحتياجها أكثر ما يكون إلى العزم والحسم، وبعدها أكثر ما يكون عن المجازفة والمغامرة. وهل يكون إنجازها بكيفية جزئية، حيث تلتحم الأجزاء الصغيرة، وتتوثق صلاتها، وُتصل أرحامها في أفق الاكتمال الكلي، وحدة موحدة، البداية وحدة ثنائية فثلاثية ورباعية، والنهاية وحدة كاملة وتوحيد شامل، أم تكون بكيفية كبيرة حيث تلتحم الأجزاء الكبيرة، ويقع لها ما يقع لمثيلاتها الصغرى؛ البداية وحدة كلية تامة ونهائية، والنهاية وحدة دائمة، وتوحيد أشمل.خاتمةإمكان الجبهة الموحدة وارد؛ على صعيد المنطق السياسي والرغبة الذاتية، والواقع الموضوعي. وتحققها شاهد في التاريخ والمضارع والواقع. وإنجازها متعدد، إما بالتعجيل أو بالتأجيل جزئيا أو كليا. وما أرى إلا أن عبد السلام أذن فينا صلاة الوحدة، فهل ترانا نجيب آذانه، ونقوم إلى صلاة الجبهة الموحدة، أم نتعلل بأن الصعيد مغصوب، وأهله أيدي سبأ، والماء عدم، ومورده محال، والقبلة مفقودة والمواقيت ضائعة؟ حوار مع عبد السلام الموذن(*)ذكر "أونامونو" Unamuno(1864-1936) مرة، أنه لن يمل من تكرار أن الذي يوحدنا مع الناس، اختلافاتنا. ونحن نعيش ذكرى غيبة عبد السلام الموذن الصغرى، فيم إذن اختلافنا مع "أبي مارس"، وفيم توحدنا معه؟ موضوع السؤال الأول قضايا نظرية، يلزمنا فكر الاختلاف والمنظارية والتعدد، مقابلة عبد السلام بصددها. أما السؤال الثاني، فيتعلق بالغيرة الوطنية الصادقة على وحدتنا الترابية، وتقدمنا الاجتماعي، وديموقراطية نظامنا السياسي؛ حيث يجعلنا شعورنا الوطني نمضي إلى التوحد مع عبد السلام بشأنها. ولبيان اختلافنا مع الموذن، وتوحدنا معه، نجري معه هذا الحوار؛ لأن ذلك يليق بمقامه في نفوسنا. والحوار مع عبد السلام الموذن، يمكن أن يجرى بعدة صيغ أقربها إلى فكره ونضاله، صيغة النقد. وإذا ما اخترنا نقد عبد السلام الموذن، فلأن في ذهننا معاني عدة للنقد؛ فقد يأتي بمعنى "القيمة"، وعلى ضوئه سنبين "قيمة عبد السلام الموذن". وقد يأتي بمعنى "إظهار الحدود"، وعلى ضوئه سنبين حدوده، وقد يأتي بمعنى "كشف الإمكانات"، و "تطويرها"، وعلى ضوئه سنبين الإمكانات التي ينطوي عليها فكره، وكيف لنا تطويرها. وقد يأتي بمعنى "الوضع في أزمة"، وعلى ضوئه سنوجه إلى فكره أسئلة نرجو أن يجيب عليها جيله وجيلنا... وبذلك يظهر أن النقد يفيد لدينا معاني عدة، ونحن نجري حوارنا مع عبد السلام الموذن؛ لا ما درج عليه البعض من فهم النقد بمعنى "النقض". ففيم يكون "النقض" إبطالا للتواصل وإحقاقا للقطيعة، يكون "النقد" مدا للجسور، وإقرارا بالارتباط. ألم نتساءل مرة عم إذا كان عبد السلام قد أذن فينا صلاة الجبهة الوطنية الموحدة؟(*) لو أن أحدا آخر تعرض لنقد عبد السلام الموذن، لساق، بالتأكيد، قضايا أخرى غير التي سقنا، أو مثلها، أو تقترب منها. ويعني هذا أن القضايا التي سقنا ليست بصيغة الحصر ولا بصيغة القصر، ولكن بصيغة التمثيل وصيغة التقريب. وبذلك فإن قيمة عبد السلام الموذن، وحدوده، وإمكاناته، ومتنوع الأسئلة التي يمكن أن توجه إليه، قضايا تمثيلية وتقريبية؛ الغرض منها إجراء حوار مع أحد رجالاته.أولا: قيمة عبد السلام الموذنليس من سبيل إلى إنكار قيمة عبد السلام الموذن؛ سواء من خصومه أو من أصحابه، وإلا لأنكرنا قيمة الفعل الإنساني المتمثل في النضال الفكري والسياسي لإحقاق حق نظري وعملي. وعبد السلام ناضل على الصعيد الفكري والسياسي، ونال نضاله كثافته المأساوية بضريبة الاعتقال، وكثافته الإيجابية بشرف الانتماء إلى الفكر التقدمي المغربي... كل ذلك لإحقاق حق نظري يرى بعضه في "المادية التاريخية"، وحق عملي يؤمن ببعضه في "الاشتراكية"، وحق سياسي يعتقد بطرف منه في "الديموقراطية". وفيم قد يرى البعض قيمة عبد السلام في الجانب السلبي، نراها نحن في الجانب الإيجابي. ومن سائر تجلياتها "كتابة الحجاج"، و "الوضوح المنهجي"، و "الإخلاص للفكر الماركسي"، و "الشجاعة في إبداء الرأي"، و "الوطنية الصادقة".1- كتابة الحجاجقليل من المشاركين في قضايا الفكر والمجتمع والسياسة في بلادنا، من تجده يعتمد كتابة حجاجية صارمة؛ يدخل بها معترك الصراع الفكري لإفحام الخصم وإظهار الحق، والانتصار له، وإحقاقه. وكل ذلك بعدة معرفية بالغة قصدها، وعدة منهجية واصلة مرماها، ورؤية كلية تحيط بموضوعها. ما تجد سوى كتابة انفعالية وخطابية وجدالية عقيمة، المعنى فيها مرتبك، واللفظ مهترىء، والتركيب مهزوز... وفوق هذا وذاك بعض الادعاء وكثير من التعالم...اقرأ نصوص عبد السلام الموذن تجدها سالمة من تلك الآفات التي ذكرت إلا آفة واحدة هي "آفة الخطابة"؛ وهي آفة مفهومة في سياق موضوعها وهو المقام التعبوي مثل ما كان الأمر في حرب الخليج الثانية. أما ما عداها من الآفات، كالانفعال، والجدالية العقيمة، فلا، لأن عبد السلام كان يفكر ويجادل في قضايا مصيرية، ويقدم حلولا لإشكالاتها بما يناسب رؤيته الفلسفية، والتزامه الفكري، وموقعه السياسي. وأما ارتباك المعنى، واهتراء اللفظ، واهتزاز التركيب، فلا أثر له؛ على الأقل في تقديرنا، لأن اختيار البساطة، كان مبدئيا عند الرجل، وتستطيع لمسه للوهلة الأولى وأنت تقرأ نصوصه، وتفهم عنه ما يقول، وتدرك حتى دقائق الأمور التي يتعرض لها بالتحليل، لأن إحدى مميزات أسلوب عبد السلام هي الوضوح. وإذا أنت زدت إلى الوضوح ميزة أخرى هي "التواضع العلمي"، و "الصدق مع النفس"، ظفرت بكتابة محررة على شروط الكتابة الحجاجية في إحدى صورها الرائعة. والمقصود بالكتابة الحجاجية، تلك الكتابة التي يعمد فيها صاحبها إلى بناء قضيته بناء حجاجيا مدعما بحجج وبراهين؛ إما يستقيها من العقل المحض، أو من الخبرة الواقعية، أو من نص مشهور له سلطته الرمزية في مجاله. انظر كيف يحاجج عبد السلام الموذن مثلا "دعاة الفرانكوفونية" على المستوى النظري، وكيف يظهر فساد رأيهم في جعل اللغة الفرنسية لغة التفتح على العصر، وكيف يبين آفات الازدواجية، وكيف ينتهي إلى الحكم على اهتزاز منطق المشايعين لها. ثم انته من ذلك كله وانظر كيف يحاججهم على المستوى العلمي، وكيف يبين تهافت دعواهم؛ سواء لدى الفرد أو الجماعة. إنه يصنع ذلك كله إما بالاعتماد على فرضيات عقلية، كتسليمه بمسألة التفتح على العصر، لكنه يرى أن التفتح على العصر لا تتيحه الفرنسية فحسب، بل قد تتيحه حتى الإنجليزية والروسية، وسائر اللغات العالمية. أو باعتماده على التاريخ والخبرة الواقعية في ضرب حجة الفرانكوفونيين حول الروابط التاريخية بين الفرنسية والأمة المغربية في كون انتشار الفرنسية لم يتحقق إلا بعد الاستقلال. أو باعتماده على جميعها ببيانه أن مشكلة الازدواجية اللغوية ظاهرة تاريخية عامة عاشها مثلا حتى الروس قبل الثورة، وكيف أن اللغة الألمانية عرفت تطورا سريعا بفضل ثقة أبنائها في قدراتها التعبيرية حتى فاقت اللغة الفرنسية؛ حيث يقدم الدليل على ضيق الجهاز المفاهيمي النظري في اللغة الفرنسية بالمقارنة مع اللغة الألمانية. إن حجاج عبد السلام الموذن لا ينفك عن تقديمه للحلول وهو هنا لا يبين فساد رأي الخصم، ولكنه يظهر الحق ويحقه؛ لا شماتة في الخصم، ولا انتصارا للمذهب الشخصي، ولكن انتصارا للحق وللقضية، وهي هنا القضية الوطنية، وإحدى مظاهرها في اللغة الوطنية القومية.2- الوضوح المنهجيإن كتابة الحجاج لدى عبد السلام الموذن تسير في طريق الوضوح المنهجي/ فضلا عن سيرها في طريق الوضوح التعبيري بحيث تظفر، إلى جانب سلامة التركيب وبساطته، وصفاء المعنى وشفافيته، بمفكر يعلن بلسان التصريح أنه ينتمي إلى مدرسة في الفكر والاجتماع معروفة ومشهورة ومحققة، دون تمويه أو اشتباه. هذا الوضوح المنهجي عند الرجل، تراه في الجهاز المفاهيمي الذي يستخدمه، والرؤية الفلسفية والسياسية التي ينظر منها إلى الأمور. اضرب بيدك في نصوصه تجده يستخدم جهازا مفاهيميا يتكون من "الجدل"، و "الكم"، و "الكيف"، و "الصيرورة"، و "المادة"، و" الصراع"، و "التاريخ" داخل رؤية فكرية، والتزام سياسي أساسهما "التناقض"، و "الجدل"، و ""الخاص"، و "العام"، و "التعدد في الوحدة". أِعد قراءة أطروحات عبد السلام حول الدولة المغربية مثلا، تجده واضحا على المستوى المنهجي؛ فعلى الصعيد النظري الفلسفي يختار "المادية الجدلية"، وعلى الصعيد السياسي التاريخي، يختار "المادية التاريخية". إن وضع وتطور الدولة المغربية لا يراه إلا ضمن صيرورة تطور تاريخي مطبوع بطابع مادي جدلي، وضمن رؤية مادية تاريخية. فالهوية الوطنية للدولة المغربية لا تكون، ولا تتميز، إلا عبر وضعها بمقابل دول وهويات أجنبية، مثل الهوية الوطنية الفرنسية، أو الأمريكية أو الألمانية، اعتمادا على أن تحديد الشيء، ومن ثم الحصول على ملامح خصوصيته، لا يمكن أن يتم بوضعه بذاته، ولكن بغيره استفادة من الدرس السبينوزي "كل تحديد نفي". والدولة المغربية فيها الخاص الذي هو الطابع الوطني وما يتعلق بالهوية، وفيها ما هو عام الذي هو الدولة وما يتعلق بشكل تمظهرها، اعتمادا على الدرس الهيجيلي القائل بملازمة الخاص للعام، وعدم انفصال النقيضين واشتراكهما في العام. فمثلا إن الخاص المغربي، والخاص الآخر المناقض له، يشتركان في عام هو مفهوم الدولة، بمدلولها المجرد المتعالي عن كل خصوصية؛ مع قلب الجدل الهيجيلي ماديا كما حدث لماركس مع هيجل. والدولة المغربية كيان مفرد ولكنه في نفس الآن كيان متعدد، والتعدد ينحل في الوحدة، وهذا منطق جدلي ينسف أحد قوانين العقل لدى المعلم الأول. والذي يحكم العلاقة بين مختلف عناصر الهوية الوطنية في الدولة المغربية ليس "المساواة"، و لكنه "التفاوت"، والتفاوت يؤدي إلى الصراع، ومن ثم يصبح عنصر الهوية الوطنية خاضعا للحركة لا للثبات، وهذه رؤية مادية تاريخية تعتمد الجدل المادي الصريح، ونظرة للتاريخ قوامها الحركة لا السكون، والتفاوت لا المساواة. والدولة السياسية هي التي تحدد المجتمع المدني، والمجتمع المدني هو الذي يحدد الدولة السياسية؛ تطبيق لمبدأ "من يحدد الآخر ومن ثم من له التأسيس الفكر أم المادة الوعي أم الواقع"؟ و"القول بوجود علاقة تفاعل متبادل بين الاثنين أي بين الدولة السياسية [التي] تؤثر في المجتمع المدني، والمجتمع المدني [الذي] يؤثر بدوره في الدولة السياسية" (ص12) رؤية جدلية قوامها التناقض، وهذا التناقض سينحل إلى وحدة، وذلك بتوحد المدني بالسياسي عبر "عملية تجاوز الجسم المدني لذاته كشكل مدني ليتقمص شكلا آخر هو الشكل السياسي للدولة، ويتوحد السياسي بالمدني وبالتالي يصبح السياسي مدنيا" (ص13) من خلال توحيد الضدين وعدم الفصل بينهما، ورؤية الواحد في الآخر كما كان هيجل يرى الواقعي في العقلي والعقلي في الواقعي. وتسمية المجتمع المدني بأحد عناصره، وهو الطبقة البرجوازية والعلاقة المتناقضة بين الطابع الوطني والطابع الطبقي، هو جوهر الدولة الوطنية المغربية، وجدلية الطبقي والوطني موضوعة ضمن علاقة الشكل بالمضمون، ووحدة الأضداد، وجوهر العلاقة بين الطبقي والوطني ليست ثابتة بل متحركة، أي داخلة في صيرورة تشكل الدولة الوطنية المغربية، والدولة الإقطاعية المغربية هي الشكل الجنيني للدولة الوطنية المغربية الحديثة، ثم ما لبثت أن تحولت إلى دولة وطنية برجوازية مع انتقال المضمون الطبقي إلى مضمون طبقي آخر (ص24)... وهذا كله ثمرة تحليل ماركسي واضح للدولة المغربية وتاريخها. و "أصحاب منطق إما أن الدولة المغربية القائمة وطنية أو أنها غير وطنية لا يمكن لهم بطبيعة الحال رؤية شئ آخر مختلف عن هذا وذاك [أي] النظر إلى الدولة المغربية في وحدتها المتناقضة (...) [لأنه] هو المحرك لصيرورتها نحو الشكل الأرقى والنهائي الذي يتم فيه تجاوز التناقض" (ص27) رؤية مادية جدلية للعالم عبر منظار الصيرورة والوحدة والتناقض. و "البرجوازية المغربية طبقة وطنية لأنها مرتبطة عضويا بالمغرب، وغير وطنية لأنها مرتبطة عضويا بالرأسمال الغربي" (ص28) أخذ بالمنطق الجدلي وضرب للمنطق الصوري. و "التناقض بين طبيعتها الوطنية وطابعها اللاوطني هو جوهر البرجوازية المغربية" رؤية مادية واقعية، وحفاظ على جانب ميتافيزيقي يرى الجوهر مع الصيرورة والهوية. و "الشكل الاشتراكي للدولة الوطنية المغربية الذي هو شكلها النهائي المتكامل" هو التركيب بين الأطروحة ونقيض الأطروحة في صيرورة ثلاثية جدلية واضحة في الدرس المادي الجدلي بشقيه الهيجيلي والماركسي. و"ارتقاء الطبقة العاملة المغربية من الوطني إلى القومي، ضرورة تاريخية لا مناص منها" (ص30) تصريف وقائع التاريخ ضمن حتمية تاريخية لا يخفى مصدرها الفلسفي ولا أصولها العلمية.3 أصولية عبد السلام الموذنإن كتابة الحجاج، المحررة على شروط الوضوح المنهجي المعلن على هويته، يجعلنا نرى في عبد السلام الموذن أحد الذين حافظوا على أصول التحليل الماركسي؛ المسنود بالرؤية المادية الجدلية للعالم، والمزود بالعدة المادية التاريخية لوقائعه. بل إنا لو قمنا بجرد حصيلة المشاركة الماركسية في قضايا الفكر والواقع ببلادنا، لوجدنا أن عبد السلام الموذن هو الماركسي المنفرد بجهازه المفاهيمي المادي التاريخي والمادي الجدلي، الذي ما زال يستخدمه تحليلا ومناقشة ونقدا لقضايا الفكر والاجتماع والسياسة في هذه البلاد. إنك لتجد بعض الذين يعلنون انتماءهم لمدرسة التحليل الماركسي ينجزون إسهامات في تحليل الظواهر الفكرية والاجتماعية والثقافية، ولكنك لا تجدهم على وضوح عبد السلام الموذن المنهجي، وحفاظه على التعاليم الماركسية بالكيفية التي تعلمها في مظانها. وبذلك نجيز لأنفسنا القول إن "أصولية" عبد السلام الموذن تتمثل في حفاظه على أصل المنهج، ومادة المفهوم، داخل رؤية ماركسية مختلفة عن رؤى ماركسية سائدة أو سادت في بلادنا. وبهذا المعنى يتفرد الرجل داخل زمرة المناضلين الماركسيين التقدميين في وطننا.4- الشجاعة في إبداء الرأيبل إن تفرده، إضافة إلى أصوليته، ووضوح المنهج لديه، وكتابة الحجاج التي يسلكها في الدفاع عن قضايا هذا الوطن، تتمثل، حسب ما يبدو لنا، في طريقته الشجاعة في إبداء رأيه. هناك طرق متعددة لإبداء الرأي، ولكن الطريق الأوفق لمكانة عبد السلام الموذن في الفكر التقدمي المغربي، هي الوضوح. ولسنا نرى، أيا كان يستطيع إنكار إمكانية أخرى غير الشجاعة في إبداء الرأي، ترتبط بالوضوح المنهجي الذي اختاره صاحبنا في النظر إلى قضايا وطنه. طرق الالتواء، إما أن تكون مقصودة، وذلك لنقص في الشجاعة والمصداقية، أو أن تكون غير مقصودة، وذلك لغموض المنهج وغيم الرؤية. والرجل كان واضح المنهج والرؤية، كثير الصدق والمصداقية. لذلك كان لا بد أن يكون شجاعا في إبداء رأيه. وإبداء الرأي قد يكون بنوع من الخجل والتردد، وقد يكون بصيغة "النحن" التي يوهم فيها صاحبها أن هناك من يشاركه الرأي فيما يرى. غير أنا نجد أن الرجل حاسم في إبداء رأيه، يستخدم صيغة المفرد في التعبير عنه؛ فيكثر من استخدام تعابير من مثل "أدعو"، و "موقفي"، مثلما رأيناه يفعل في الدعوة إلى موقف تقوية الدولة القطرية ضدا على الموقف الذي يدعو إليه الرأي القومي(ص5). وحتى لو رأيناه يستخدم صيغة الجمع فيقول- على سبيل المثال- "نربط" أو "نحن" أو "حديثنا" و "انتهينا"، فما ذلك إلا تمهيدا لإبداء رأيه في صيغة مفرد حاسم، يدرك القارئ الحصيف أن لحظات الحجاج يقودها المفرد بصيغة الجمع خضوعا لمقتضيات الحوار والجدل. انظر مثلا موقفه من "التاريخانيين"، حيث يرى طرحهم يتضمن أخطاء نظرية عديدة فضلا عن تأويلهم الخاطئ للإيديولوجيا الألمانية، وفهمهم الخاطئ للماركسية؛ ف" التاريخانية في الأساس ليست سوى المعاصرة التي تتيح قراءة مقطوعة عن الجوهر" (ص93). ثم امض إلى تفحص موقفه من "البنيويين" حيث نجده يرميهم بما رمى أصحابهم من الأخطاء، ف"كلاهما يرفض البحث عن حلول لمشاكل الأحياء في واقع الأحياء أنفسهم، حيث يفضلون عن ذلك العودة إلى جماجم الأموات(...) وكلاهما يقرأ الماضي الموضوعي بواسطة الإسقاطات الذاتية للهموم الخاصة(...) من هنا جاء تزييف التاريخانية للإيديولوجيا الألمانية وللماركسية، وجاء تزييف البنيوية لعصر التدوين(...) وكلاهما يسقط في منطق التجريد المثالي: الأول يجرد مقولة التأخر عن نقيضها التقدم، والثاني يجرد مقولة العقل عن نقيضها الواقع المادي" (ص93-94). وزد على ذلك وتمعن فيما يرصده من خطأ منهجي أضافته البنيوية حين لجوئها إلى تحليل الثقافة العربية التي لا تستجيب للمنهج البنيوي الذي يقوم في أساسه على فكرة اللاتغير؛ إذ أن هذه الثقافة التراثية، كما يرى عبد السلام الموذن، كانت بالعكس تتطور بسرعة كبيرة لأن المجتمع العربي كان في ذلك الوقت يتطور بسرعة كبيرة(ص94). ثم عرّج على ما يراه عيب التاريخانيين والبنيويين المتمثل في طرحهما لمفهوم "العقلانية" بصفة الإطلاق. والإطلاق بنظر عبد السلام الموذن، وهم؛ لأن العقلانية مفهوم تاريخي نسبي، وحتى التاريخاني والبنيوي لا عقليان رغم ادعائهما للعقلانية، لأن منطق فكرهما يبقى في حدود الإدراك العادي لا الجدلي، كما هو الشأن لدى هيجل. وفي جميع الأحوال، إن عقلانية عصرنا، كما يضيف عبد السلام الموذن، ليست هي الليبرالية التي أصبحت متجاوزة بنظره، بل هي المادية التاريخية، وهي التي ينبغي على المثقف العربي العصري أن يتبناها ما دامت هي عقلانية عصره(ص94-95). واختم نظرك بما يعتبره االرجل أزمة المثقفين العرب التي تجد جذورها في عدم الوعي بحقيقة المرحلة العربية الراهنة، بما هي مرحلة انتقالية بين عصرين، عصر الرأسمالية التبعية المتقهقر، وعصر الاشتراكية العربي الصاعد؛ الذي تشكل فكرة الديموقراطية فكرته المركزية. ولكي يلعب المثقفون العرب التقدميون دورهم الفعال في مصير أمتهم ووطنهم، عليهم، كما يمضي إلى ذلك عبد السلام الموذن، أن يجعلوا من قضية الديموقراطية محورا مركزيا في فكرهم ونشاطهم، ويساهموا في نقلها من مستوى العفوية إلى مستوى التنظير.(ص96). إنك تجد عبد السلام الموذن، في كل ذلك، يعبر عن رأيه بوضوح وشجاعة وحسم، وهذه إحدى مميزاته.5- الوطنية الصادقةوإنك لتستطيع، في ختام ذلك كله، أن تلمس ميزة تكون إلى أخواتها جماع قيمة عبد السلام الموذن في نظرنا: إنها وطنيته الصادقة. صدقني إذا ذكرت لك أني كلما قرأت أطروحات الرجل السياسية يسري إلى دواخلي شعور بوطنية غامرة؛ تتدفق من ثناياها، رغم أن عقلي يقوم بالاعتراض على بعضها أحيانا. لأسق إليك موقفه من قضية استكمال الوحدة الترابية الوطنية حتى أقترب بك مما قد شهدته للرجل. إن الرجل يفرق، أثناء حديثه عن "الاشتراكية وقضية الصحراء المغربية"، بين الموقف الديموقراطي الحقيقي، والموقف الديموقراطي المزيف، ويطرح السؤال الموضوعي التالي: "هل الحدود الترابية والجغرافية التي ورثها المغرب المستقل سنة 1956 عن المرحلة الكولونيالية هي حدود ديموقراطية؟ وهل تلك الحدود هي الحدود الطبيعية والتاريخية للدولة المغربية؟". وبعد استعراضه لصيرورة تكوّن الدولة المغربية وصانعتها الطبقة الإقطاعية المغربية، على ضوء أدوات التحليل المادي التاريخي، ينتهي إلى الجواب التأكيدي التالي: "إن قضية الصحراء ليست قضية وطنية فحسب، بل هي أيضا قضية ديموقراطية لأن الحدود التي ورثها المغرب عن المرحلة الكولونيالية الامبريالية ليست حدودا ديموقراطية". والموقف الطبيعي في هذا المقام، حسب الرجل، هو مناهضة الاضطهاد الامبريالي الموجه ضد الحدود الطبيعية للدولة المغربية. "هذا الموقف هو ما على أي مناضل اشتراكي منسجم مع نفسه أن يلتزم به ما دام الاشتراكيون هم أكثر الديموقراطيين ديموقراطية". على أن بعض مناضلينا الاشتراكيين، حسب ما يلاحظ الرجل، يفهمون الديموقراطية بشكل مقلوب تماما، ومؤدى هذا الفهم أنهم مع الديموقراطية، لكن ليست تلك التي تقر الحقوق الوطنية المشروعة للشعب المغربي، وإنما التي تساند "حق" جماعة من المغاربة الصحراويين في الانفصال عن بلدهم وشعبهم (ص64). وهذا الموقف السياسي، حسبما يؤكد الرجل، خاطئ جذريا لأنه يستند إلى أسس نظرية مهزوزة ومنخورة يصوغها في الأطروحتين التاليتين: الأولى هناك شعب صحرواي، وهذا الشعب يطالب بحقه في الانفصال عن المغرب وتأسيس دولته المستقلة. ويجب دعم هذا المطلب الديموقراطي لو نظرنا إلى الأمر من الزاوية الديموقراطية. الثانية أن النظام المغربي نظام تبعي للامبريالية لذلك فإن الصحراء في حالة ضمها إلى المغرب ستخضع بدورها للاستغلال الامبريالي. هذا الرأي الذي ينطوي عليه موقف هؤلاء المناضلين الاشتراكيين رأي سطحي وذاتي وزائف ولو أنه يعتبر نفسه رأيا ديموقراطيا وثوريا كما يبدو في الظاهر؛ فلو كانت الظواهر تتطابق مع الجواهر، يقول عبد السلام الموذن مع ماركس، لما كانت هناك حاجة للعلم. وبعد مناقشته لهذه الأسس النظرية، ينتهي إلى أن هؤلاء يخلطون بين مفهوم الدولة الوطنية والتحرر الاقتصادي، وينظرون إلى مبدأ تقرير المصير نظرة مطلقة. وهذا ما يتعارض مع الماركسية التاريخية للمناضلين الاشتراكيين أنفسهم أمثال "لينين"، ويتعارض مع الرؤية الماركسية كرؤية تقع في خصام مع التجريد الميتافيزيقي، وتدعو إلى إخضاع جميع المبادئ مهما كانت قدسيتها للشروط العينية الملموسة للحالة المحددة(ص68-69). ثم يتساءل الرجل: "هل هناك شعب صحراوي؟"، و "ما موقع الصحراويين من الصيرورة التاريخية التي ستقود إلى تشكيل ثلاث دول في المنطقة، المغرب والجزائر وتونس، ولماذا لم يؤسسوا دولتهم منذ تلك الفترة التي بدأ فيها الغزو الوطني على الصعيد الجهوي؟". حسب الرجل، الجواب بسيط: "لأن مصيرهم لم يكن مفصولا عن مصير إحدى الدول الثلاث الآخذة في التشكل، وهذه الدولة هي الدولة المغربية" (ص72). وعدم انفصال مصيرهم عن تلك الدولة، يختار الرجل رؤيته في الاندماج الحاصل بين الإقليم الصحراوي والأقاليم المغربية الأخرى، ويحدده على الصعيد التجاري والعسكري والديني والسياسي، ويراه حقيقة موضوعية ثابتة ( هل يصح هذا من وجهة نظر الماركسية؟) يعترف، مع ذلك، بأنها لم تصل إلى حد الانصهار الكلي، بل لقد حافظ الإقليم الصحراوي على خصوصيته. وسيكون من قبيل الطوباوية، كما يرى، مطالبة دولة إقطاعية بتحقيق الانصهار المادي لكل أطراف الشعب الواحد لأن ذلك يتجاوز حدود الطبقة التي تستند عليها. أما الانصهار الثقافي فهو غير مرغوب فيه بالمطلق (أحقا؟!) لأن الحفاظ على تنوع الخصوصيات الثقافية للشعب هو إغناء لذلك الشعب، وليس مصدر تفقير أو إضعاف له. ثم إن ضعف الانصهار بين مختلف أجزاء الوطن، لم يكن أبدا ظاهرة خاصة بالمغرب وحده، بل بجميع الدول الإقطاعية. ويؤكد الرجل، على ضوء ذلك، أن خصوصية الإقليم الصحراوي المغربي لم تكن تختلف من حيث الجوهر في شئ عن خصوصيات باقي الأقاليم المغربية الأخرى. وسخافة المنطق الذي يدعو إلى تطبيق حق تقرير مصير الصحراء انطلاقا من الخصوصية، يضيف عبد السلام، يأتي من كونه يؤدي في حالة الدفع به إلى نهايته، إلى تفجير المغرب وتشرذمه إلى دويلات قومية (ص74-75). والذين يقفون وراء هذا المنطق، يعادون، في نظر الرجل، مصلحة الأمة المغربية في استكمال وحدتها الترابية، وهم بمنطق الماركسية اللينينية ذاتها، وبتماثل مع وقائع بعض الأمم التواقة إلى التحرر، حركة رجعية. بل إن مصلحة تحرر الشعب المغربي، يضيف الرجل، هي فوق مصلحة تحرر فئة من البرجوازية الصحراوية، وأن مطلب الديموقراطية لا يجب التعامل معه في إطار صحراوي ضيق ومعزول، بل في إطار نضال الشعب المغربي ككل (ص78). ومن هذا المنطلق، يرى الرجل، أن موقف تقرير المصير موقف رجعي لأنه يساند منظمة رجعية بدون أن يخضع موقفه لأي فحص نقدي مسؤول ومسبق، ولأنه سقط في اللعبة الامبريالية الكولونيالية وفي لعبة الهيمنة البرجوازية الجزائرية (ص79). ومن ثم إن الأساس الاشتراكي للموقف الوطني الثوري، كما يراه الرجل، هو اعتبار الوعي الوطني الذي أصبح يحتل موقع الصدارة، لأن قضية الصحراء قضية وطنية تهم جميع طبقات المجتمع حيث يصبح من الضروري على الطبقة العاملة المغربية أن تتحالف مع البرجوازية ما دامت هذه الأخيرة لها دور في النضال الوطني (ص81). ويضيف الرجل موضحا المسألة قائلا: " إن الدور السلبي للمسألة الوطنية على المسألة الطبقية لا يمكن تجاوزه بواسطة الرفض الذاتي الذي للمسألة الوطنية، بل إن التجاوز لا يمكن أن يكون إلا تجاوزا جدليا، أي حل المسألة الوطنية تاريخيا وموضوعيا. (ص82).إن أطروحات الرجل السياسية بصدد مسألة الصحراء أطروحات وطنية. وهي بهذه الكيفية تجعل القارئ الخصم يقدم الاعتراضات تلو الاعتراضات عليها انطلاقا من زوايا نظر مغايرة، ومن مواقع سياسية مختلفة. ولكنه لن ينكر على الرجل أنه كان المناضل المغربي الماركسي الحقيقي؛ خاصة إذا كان هذا القارئ الخصم يشترك معه في غيرته الوطنية الصادقة، ويقتسم معه عواطفه المغربية الجياشة، وُيشهد الملأ على نفسه أنه لو لم يكن مغربيا لود َّ أن يكون كذلك!!(*)