خطاب الرئيس جورج بوش يوم 25 أكتوبر الفائت، والذي أعلن فيه أنه لن يغير الاستراتيجية الأميركية في العراق، ولكنه سيغير التكتيك فقط، سيكون بداية مرحلة جديدة في التعاطي مع القضية العراقية. بدءا من هذا الخطاب سنبدأ بسماع نغمة أميركية جديدة، وحملات أميركية جديدة، تركز على أن الجيش الأميركي أنجز ما هو مطلوب منه، ولكن العراقيين عجزوا عن تحمل مسؤولياتهم. الجيش الأميركي نجح والعراقيون فشلوا. الجيش الأميركي أسقط نظام الرئيس صدام حسين، ولكن العراقيين لم يستطيعوا بناء دولة، ولم يستطيعوا بناء جيش عراقي يحفظ الأمن، وها هم يقتتلون طائفيا، ومع ذلك سيقوم الجيش الأميركي بمواصلة تقديم المساعدة للعراقيين، وسيصبر عليهم، ولكن للصبر حدودا. هذا الخطاب للرئيس بوش يقيم فصلا متعمدا بين الجيش الأميركي وأنصار الأميركيين في العراق، بين الجيش الأميركي والعراقيين الذين تعاونوا مع الاحتلال. وهو يريد أن يبرئ نفسه، وأن يحمل المسؤولية لطرف آخر، مع أن هذا الطرف الآخر هو جزء أساسي منه، وهو يعمل تحت إشرافه، ولكن الرئيس بوش لا يريد الاعتراف بذلك علنا أمام الأميركيين. لقد جاء الجيش الأميركي إلى العراق وهو يجر وراءه مجموعات من المتعاونين، سياسيين وعسكريين ومثقفين، لكي يساعدوه في إنجاز مهمته. وجاء الجيش الأميركي إلى العراق وقرر فورا التعاون مع مجموعة من التنظيمات الطائفية المسلحة وغير المسلحة، معتبرا أنها ستكون موالية له ما دامت معارضة لنظام الحكم الذي سقط. وهؤلاء الذين جاؤوا معه من الخارج، وأولئك الذين تعاونوا معه من الداخل، هم الذين يريد بوش الآن الابتعاد عنهم، وإيجاد مسافة بينه وبينهم ليحملهم مسؤولية الفشل، في محاولة ليبرئ نفسه وإدارته من هذه المسؤولية. وأخطر ما نواجهه عربيا، هو أن تنتقل هذه النغمة الأميركية الجديدة من الإعلام الأميركي إلى الإعلام العربي، ومن السياسة الأميركية إلى السياسيين العرب، ويظهر بيننا موقف يعفي الاحتلال الأميركي من مسؤولية ما يحدث في العراق، ويبدأ بتحميل هذه المسؤولية للعراقيين أنفسهم. من المفيد أن نذكٌر هنا، بأن هذا الذي يريد الرئيس بوش بلورته في العراق، سبق للإدارة الأميركية أن فعلته في فيتنام. هناك أيضا، وعندما أحس الجيش الأميركي ببدايات الفشل، لجأ إلى الاعتماد على فريق من الفيتناميين، واختار من بينهم هذا الجنرال أو ذاك، وساعد في بناء جيش فيتنامي، ونشأ جيش فيتنامي حقيقي، مجهز ومدرب ومنضبط حتى أن تعداده وصل إلى مليون جندي. وأسندت إلى هذا الجيش بمساعدة الجيش الأميركي طبعا مهمة مواجهة الثوار الفيتناميين الذين يريدون خروج الاحتلال. وكانت النتيجة كما يعرف الجميع، فشلا وراء فشل. وفي سياق عملية الفشل هذه، تخلى الأميركيون عن الجنرال الأول، ثم تخلوا عن الجنرال الثاني والثالث، إلى أن تبين لهم فشل خطتهم كلها. والذي يحدث في العراق الآن هو شيء مشابه، إذ تخلى الأميركيون عن رئيس الوزراء الأول، وتخلوا عن رئيس الوزراء الثاني، وها هم يهددون بالتخلي عن رئيس الوزراء الثالث، ولكنهم يمنحونه قبل ذلك فسحة من الوقت، وفسحة من الصبر، مشفوعة بتهديد يقول: إن للصبر حدودا. وهذا الذي فعله الأميركيون في فيتنام، ويريدون الآن تكراره في العراق، هو الذي يسميه الرئيس بوش الثبات في الاستراتيجية والتغيير في التكتيك فقط، متجاهلا الإشارة إلى أنه حين يفشل التكتيك تفشل الاستراتيجية أيضا. إن خطاب الرئيس بوش يريد أن يطوي صفحة كاملة من تاريخ الاحتلال الأميركي للعراق، وتتضمن هذه الصفحة كل الأسس التي مهدت للوضع المتفجر القائم في العراق الآن. نجد في هذه الصفحة الأميركية إلغاء فكرة المواطنية، واستبدالها بفكرة الطائفة والإثنية. وبدلا من الحديث عن مواطن عراقي، بدأنا نتحدث عن مواطن سني وآخر شيعي وثالث كردي. ونجد في هذه الصفحة الأميركية دفعا باتجاه إلغاء عروبة العراق التي كانت تسند فكرة المواطنية، وتربطها بانتماء له بعد وطني وتاريخي وثقافي. ونجد في هذه الصفحة دفعا باتجاه تقسيم العراق من خلال تكريس مبدأ الفيدرالية في الدستور، واستغلال فكرة الفيدرالية هذه لتجزئة المنطقة كلها من جهة، والضغط بواسطتها على جيران العراق الذين يتحسسون من هذه الفيدرالية أو تلك. هذه الصفحة بكل ما فيها من ألغام، هندسها وبلورها الحاكم الأميركي الأول للعراق بول برايمر، ولم يغادر العراق إلا بعد أن كرسها في الدستور، ثم بدأت تولد بعد ذلك تفاعلاتها السلبية. وهي تفاعلات يريد الرئيس بوش أن يتنصل منها الآن، وأن يلقي مسؤوليتها على عاتق العراقيين. وقد تم الترويج لهذه الصفحة بإسناد فكري لها، وقدم هذا الإسناد الفكري تحليلات عجيبة غريبة، بعضها يقول إن منشأ الديكتاتورية في العراق هو فكرة العروبة والقومية التي تبناها حزب البعث، وبعضها يقول إن العروبة في العراق هي شأن سني لا علاقة للشيعة به، وبعضها يقول إن الديمقراطية في العراق لن تتحق إلا إذا حكم العراق الشيعة العلمانيون. وهكذا تلاقت صفحة الدستور مع هذا النوع من الأفكار، وأنتج التلاقي صراعات مذهبية وطائفية، بل وأنتج صراعات داخل الطوائف نفسها. وعلى أساس هذا الوضع، لن تستطيع مساعي الرئيس بوش للفصل بين الجيش الأميركي والعراقيين المتعاونين مع الاحتلال، أن تجد طريقها للنجاح. تستطيع هذه المساعي أن تقفز إلى الواجهة الإعلامية ردحا من الزمن، ولكنها ستفشل في النهاية، لا لشيء إلا لأنها تقوم على أسس خاطئة. الشيء الوحيد الذي لا يريد الرئيس بوش أن يراه في العراق، هو المقاومة العراقية الوطنية للاحتلال. لا وجود لهذه المقاومة في خطاب بوش. يوجد فقط متطرفون وإرهابيون من أتباع بن لادن والزرقاوي. وهدف هؤلاء المتطرفين والإرهابيين حسب قوله «استغلال البلاد لإقامة إمبراطورية متشددة من إسبانيا إلى أندونيسيا». وهو يبرر سعيه للاستيلاء على النفط العراقي بالقول «إذا وقعت الموارد الطبيعية مثل النفط في أيدي المتطرفين، فإن الأجيال المقبلة ستسأل عن سبب عدم التنبه لمثل هذا الخطر». إن هذا الإصرار الأميركي على عدم رؤية المقاومة العراقية للاحتلال، هو منبع الخطأ في كل هذا الذي يجري. ولن يفيد الإدارة الأميركية أن تدعي بأن هذا الذي يجري، من الموصل إلى بغداد إلى البصرة، هو كله من عمل متطرفين من نوع الزرقاوي، فالشعب العراقي يقاوم الاحتلال مثله مثل أي شعب آخر، ويعرف ذلك بدقة أطفال العراق وجنرالات جيش الاحتلال، إلا إذا كان جنرالات جيش الاحتلال لا يبلغون الرئيس بوش بما يعرفون حركة القوميين العرب