هل تعي "جيوش" الأنترنيت أنها تُهين نفسها أكثر مما تهين أولئك الذين توجه نحوهم أسلحتها؟ بعث لي البارحة أحد الأصدقاء فيديو سخيفا لمكالمة هاتفية أجراها «مواطن» مجهول الهوية مع مقدمة برامج تلفزيونية معروفة، على هاتفها الخاص. المكالمة تم تسجيلها وبثها على «يوتوب»، وتتضمن كلاما ساقطا يوجهه «المواطن» المعني إلى مقدمة البرامج الشهيرة. هذه ليست أول واقعة من هذا النوع، إذ أصبحنا، في الفترات الأخيرة، نرى «حوارات» عنكبوتية من نوع خاص يبثها البعض على الإنترنيت منتقدا فيها، بأسلوب سخيف، فنانا، أو مسؤولا سياسيا، أو صحافيا... عشنا بعض هذه الفصول بعد عرض الفنانة لطيفة أحرار مسرحيتها «كفر ناعوم»، عشناها مع الصحافي مختار الغزيوي حين دافع بشجاعة عن تصوره للحريات الفردية والحرية الجنسية، عشناها مع شميشة حين شاركت، بشكل مُشرّف، في برنامج تلفزيوني فرنسي وقدمت أكلة لم ترُق مكوناتها بعض حماة الأخلاق، عشتُه شخصيا بعد مشاركتي في الحلقة ما قبل الأخيرة لبرنامج «مباشرة معكم»، والتي كانت مخصصة للتحرش الجنسي، وهلم جرا... لنتوقف لحظة عند هذه الأساليب الجديدة في الترويح عن النفس: القاسم المشترك بين أغلب هذه الوسائل «التعبيرية» أو التنفيسية الجديدة هو عدم ذكر هويات أصحابها: فيديوهات، وصفحات على «فيسبوك»، وتعليقات على مواضيع منشورة... جلها بأسماء مستعارة. حين ينشر صحافي أو كاتب مقالا أو قصيدة أو رواية، فهو يقدم طرحه وتصوره الخاص لموضوع ما. في طرحه للموضوع، يقدم الكاتب/الصحافي حججه ووجهة نظره كما يراها هو. الشيء نفسه بالنسبة إلى رجل السياسة والفنان. من الطبيعي جدا إذن، بل ومن الصحي أيضا، أن يتفق معهم البعض ويختلف معهم البعض الآخر. من الطبيعي أيضا، ومن الصحي، أن يحب البعض ما يقدمه هذا الفنان أو ذاك، وأن لا يناسب العرضُ أذواق فئة أخرى. في مجتمع سليم، يُسمى هذا ذوقا فنيا و/أو نقاشا لا يكون فيه أحد الطرفين مجبرا على تبني وجهة نظر الطرف الآخر. نحن نتناقش بشكل ناضج. قد يقنع أحدنا الآخر وقد لا يقتنع كلا الطرفين بوجهة النظر الأخرى. المشكلة أننا، ربما، لم نصل بعد إلى هذا المستوى من النضج الذي يجعلنا نناقش الأفكار، لأننا ما زلنا، بكل أسف، «نناقش»، بل ونسب ونشتم الأشخاص. في الكثير من الأحيان، أنتبه إلى أن بعض القراء والمعلقين ومستعملي المواقع الاجتماعية لا يملكون القدرة على مناقشة موضوع ما من خلال طرح حججهم الخاصة بالمعارضة أو بالتأكيد. يفضلون بدل ذلك سب وشتم الكاتب أو الصحافي الذي نشر المقال أو الرأي المعروض أمامهم، أو الفنان الذي قدم طرحا لا يناسب أذواقهم وتصوراتهم للموضوع. هل عدم اتفاقنا مع طرح معين يعطينا الحق في سب وشتم كاتبه أو مبدعه؟ اللهم إلا إذا كنا لا نملك من الحجج ما ندافع به عن وجهة نظر أخرى، مختلفة... القولة العربية القديمة تقول: "كل إناء بما فيه ينضح". حين يقوم شخص ما بسبّ شخص آخر (فنان، رجل سياسة، صحافي، شاعر...)، متصورا أنه بهذا الشكل يحط من كرامته، فهو في الواقع لا يعبر إلا عن ضحالة مستواه الفكري وعن تدني قدراته الإنسانية في التعبير بشكل متحضر وحضاري. فهل تعي "جيوش" الإنترنيت أنها تُهين نفسها في الواقع، أكثر مما تهين أولئك الذين توجه نحوهم أسلحتها المدججة بالحقد؟ لكي نفهم هذا التصرف –غير الناضج- علينا أن نعود إلى تفصيل بسيط ومهم في الآن ذاته: السرية التي توفرها الإنترنيت. حين يوقع شخص ما تعليقه باسم مستعار أو باسمه الشخصي فقط، فذلك يعطيه انطباعا كبيرا بالحرية النابعة من سرية هويته. لا أحد يعرف صاحب التعليق، وبالتالي تكون له "الحرية" في السب والشتم والدخول في اعتبارات شخصية وفي تفاهات مَرَضية. بالمقابل، فصاحب المقال المنشور أو العمل الإبداعي المعني أو الموقف الإيديولوجي أو السياسي المصرح به يملك على الأقل جرأة كشف هويته واسمه وعن وجهة نظره، وهو أمر يحسب له مهما كانت درجة اختلافنا معه. إنه يبدع و/أو يناقش بوجه مكشوف ويعرض حججه للنقاش وينتظر وجهات نظر مختلفة لا يمكن إلا أن تغني النقاش. والآخر؟ المعلق المجهول؟ إنه للأسف لا يملك حتى شجاعة كشف وجهه. يكتفي بالسب والقدح. ناهيك عن أنه، حين يسب، فهو يوضح بشكل جلي عدم توفره على حجج كافية للنقاش السليم والناضج. لذلك يصبح تعليقه، بالنسبة إلي، مادة غنية للتحليل لكي نفهم مجتمعنا وجزءا لا بأس به من أمراضه. شخصيا، في بداية علاقتي بالإنترنيت، كنت أغضب كثيرا حين أقرأ مثل هذه التعاليق، وكنت أحزن كثيرا من المس بشخصي ومن السب والقذف بدون سبب وجيه. اليوم، أصبحت أبتسم وأنا أقول في أعماقي إن "كل إناء بما فيه ينضح". مستعدة أنا لأن أناقش أيا كان في وجهات نظره، مهما اختلفنا. لكن، وبكل صراحة، لا أحترم شخصا لا يقدم لي أي وجهة نظر مختلفة ويكتفي، لكي يعلن عدم تقبله لوجهات نظري، بأن يعتبرني "فاسقة" و"عاهرة" "وساقطة" و"منحلة" و "علمانية" و"كافرة" و"مفرنسة لم تدرس في حياتها اللغة العربية"... حين ستكون لدى هؤلاء الشجاعة لكشف هوياتهم وتحمل مسؤولية أقوالهم ومواقفهم، حين ستكون لديهم الشجاعة للتعبير عن مواقف حقيقية مختلفة؛ ساعتها، سيكون بإمكاننا أن نفتح نقاشات راقية تستفز ذكاء الجميع... لنرقَ بمجتمعنا من فضلكم ولنفتح النقاشات الحقيقية التي تتجاوز الأفراد والأشخاص؛ فنحن في أمس الحاجة لذلك. نحن جميعا إلى زوال، ووحدها الأفكار تبقى وستبقى...