لم يسبق أن التف العالم بأسره حول قضية إنسانية تجري أطوالها بالمغرب ل5 أيام متواصلة، كما جرى في قضية الطفل "ريان أورام"، ابن الخمسة أعوام الذي سقط إلى عمق 32 مترا في بئر ضيق وعميق بقرية "إغران" التابعة لجماعة تمروت بإقليمشفشاون. وخلال كل هذه المدة كان الكثيرون يرون في الطفل ابنهم أو شقيقهم الصغير رافعين أكفهم إلى السماء داعين الله أن ينهي مأساته على خير، حتى قيل إن المغرب "أزال جبلا من مكانه لإنقاذ أحد أطفاله"، وهو أمر ليست فيه مبالغة، فطيلة الأيام الماضية واصلت السلطات والمنقذون والمتطوعون الليل بالنهار لإزاحة الحجارة الصلبة والتربة الهشة من محيط قطره 150 مترا وعمق يتجاوز ال30 مترا أملا في الوصول إلى ريان حيا، وهو الأمر الذي انتهى بالدموع بعدما عُثر عليه جثة هامدة، مخلفا قصة إنسانية هذه كرونولوجيتها. الثلاثاء 1 فبراير 2022 بداية الحكاية كانت يوم الثلاثاء الماضي، حين اكتشفت أم الطفل ريان غيابه في حوالي الساعة الثانية زوالا، ويستبين فيما بعد أنه كان مع والده الذي ظل منتبها له إلى أن قرر أن يُصلي الظهر، إذ استغل الطفل ذلك للخروج من المنزل سعيا وراء مغامرة لم يكن يقدر عواقبها، وفق تصريحات أدلى بها الأب نفسه لإحدى القنوات، وعندما بدأ القلق يدب في أوصال الوالدين سيتصلان بعمه أيضا للمساعدة في عملية البحث. سيعتقد الجميع أن الطفل ذا الخمس سنوات موجود داخل المنزل أو في محيطه، لكنه كان أبعد من ذلك بقليل، وتحديدا في غياهب بئر "الصوندا" الذي لا يتجاوز قطره 45 سنتيمترا ويصل طوله إلى 60 مترا، كان ذلك هو الخبر الأسوأ الذي يمكن للعائلة أن تسمعه، والذي أكدته لها صرخات ريان الطالبة للغوث، التي كانت البشرى الوحيدة التي تحملها هي أنه على قيد الحياة، الأمر الذي تأكدوا منه بشكل قطعي بعدما تمكنوا من تصويره بواسطة كاميرا هاتف أوصلوه إلى نقطة سقوطه. ومن هنا بدأت فصول مسلسل طال أكثر مما كان متوقعا، وذلك بعدما وصل الخبر إلى السلطات المحلية التي شرعت، خلال اليوم الأول، في محاولاتِ إنقاذه بوسائل "بدائية"، وحينها لم يكن أحد يعي حجم المشكلة والتعقيدات التي ستُواجه عملية الإنقاذ، لكن أمرين تأكدا إلى حدود مساء ذلك اليوم، أن الطفل لا زال على قيد الحياة، وأن يوجد تقريبا في منتصف البئر لا في قعره. الأربعاء 2 فبراير 2022 في صباح اليوم الموالي، سيُتداول خبر وقوع طفل داخل بئر في قرية نائية بإقليمشفشاون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفي غضون ساعات انتشر الموضوع كالنار في الهشيم في المواقع الإعلامية، التي تحركت إلى المنطقة لتوثيق ما يجري، وفي غضون ذلك كانت عناصر الوقاية المدنية والجرافات قد وصل إلى المنطقة بعدما تحول الأمر إلى قضية رأي عام. في البداية كان الأمر لا يزال مُربكا، فالكثيرون لم يعرفوا لا شكل البئر ولا تضاريس المنطقة ولا طبيعة تربتها، وبدأت الانتقادات تتوالى بخصوص "عجز" السلطات المغربية عن إتمام عملية الإنقاذ، وتدريجيا أضحى الأمر أكثر وضوحا، فالأمر لا يتعلق ببئر عادية يمكن النزول إليها عموديا، بل بفتحة ضيقة القطر وشديدة العمق موجودة في أعلى تل جبلي، ما يجعل الوصول إلى الطفل بأيٍّ من الطرق المعتادة أمرا مستحيلا. وفي غضون ذلك، جاءت اللحظة الأهم والتي استقطبت تعاطف الناس من مختلف دول العالم لقضية الطفل ريان، وذلك عندما جرى إيصال كاميرا إلى مكان وجوده، أظهرته وهو يصارع من الأجل البقاء متحاملا على إصاباته التي كانت بادية في رأسه تحديدا والدماء تنزف منها، ومن هذه الخطوة جرى إيصال الأوكسجين له وكذا الماء والطعام، مع محاولة التواصل معه بواسطة والديه عبر جهاز لا سلكي. وبحلول عصر ذلك اليوم، كان واضحا أن أمام رجال الإنقاذ سيناريو من بين اثنين، الأول، الذي يتطلب وقتا أطول وتُواجهه تعقيدات كبيرة، هو حفر التل الجبلي طولا بموازاة البئر للوصول إلى الطفل من خلال منفذ سيجري حفره بعد الوصول إلى مسافة قُدرت بما بين 30 إلى 35 مترا، أما الثاني، وهو الذي كان مأمولا منه الكثير، هو النجاح في إدخل شخص نحيل البنية إلى البئر لانشال ريان. وبدأت الجرافات في الحفر بالفعل، وبالموازاة مع ذلك وصل متطوع شاب من أبناء المنطقة للدخول إلى البئر، وفي محاولتين كان يصلُ إلى مسافةٍ لا تبعد سوى ببضعة أمتار عن الموقع المحدد، لكنه كان يعجز عن المواصلة لأن المكان كان يضيق تدريجيا ولا ينحشر فيه جسده، بالإضافة إلى أن الأوكسيجين كان ينفذ منه لدرجة أنه خرج شبه فاقدٍ للوعي بعد المحاولة الثانية التي كان يفصله عن ريان فيها نحو 6 أمتار. وبحضور عامل إقليمشفشاون، شرعت السلطات في الاستعانة بجمعيات متخصصة في الاستغوار، ليظهر أمل جديد بتطوع شخص متخصص في المجال من مدينة تيفلت، وصل ليلا إلى المنطقة أملا في التمكن من الوصول إلى الطفل، لكن خيبة الأمل كانت سريعة إذ إن عرض كتفيه لم يمكنه من فعل شيء أفضل مما قام به سلفه، في حين كان جواب السلطات على مقترحات بالاستعانة بقاصر حسما، وهو: لا. كان هذا اليوم محبطا، لكن الشيء الثابت هو أنه أضحى أمام عناصر الإنقاذ طريق واحد للوصول إلى ريان، وهو الحفر بطول المسافة العالق فيها من قمة التل الجبلي، وهو أمر كان أشد المتفائلين يتوقع أن يتطلب عشرات الساعات من الحفر المتواصل، أما المختصون الجيولوجيون فكانوا يتوقعون الأصعب نظرا لطبيعة صخور وتربة المنطقة، وهو ما كان. الخميس 3 فبراير 2022 كان يوم الخميس أكثر تعقيدا من سابقه، فبالإضافة إلى الصعوبات التي تواجه أعمال الحفر كان على السلطات أن تواجه الشائعات من جهة، ومن جهة أخرى المئات من المواطنين الذين تجمهروا حول مكان الواقعة، ومع مرور الساعات كان الأمر يزداد سوءا بوصول أشخاص من مدن بعيدة فقط من أجل الفرجة، وبعضهم لم يخجلوا من القول بأن هدفهم هو الرفع من مشاهدات قنوات "اليوتوب" الخاصة بهم. ظُهر ذلك اليوم، ومع مرور 48 ساعة كاملة من سقوط ريان في البئر، أعادت السلطات الكاميرات إليه للتحقق من وضعه، وبحضور أمه وأبيه تأكد الجميع بأن الطفل لا زال على قيد الحياة وأنه لا زال يتحرك، وكانت تلك آخر مرة يُعلن فيه الوالدان هذا الخبر، إذ بعدها لن تطفو على السطح أخبار أخرى عن استمرار الطفل في التنفس إلا يوم السبت، حين انتشرت هذه الإشاعة عبر منابر إعلامية. وفي هذا اليوم، ستتفاعل الحكومة بشكل رسمي مع الواقعة لأول مرة، حين أعلن مصطفى بايتاس، الوزير المنتدب المكلف بالعلاقة مع البرلمان والناطق الرسمي باسم الحكومة، في ندوة صحفية تلت الاجتماع الحكومي، أن وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت تطرق للموضوع، وأبرز أنه لا توجد مشكلة في الآليات ولا في الإمكانيات التي تتطلبها عملية الإنقاذ، كما أن المُنقذين يتوفرون على التجربة الضرورية للتعامل مع الأمر. وفي التصريح نفسه، أكد بايتاس أن المغرب لن يتردد في طلب المساعدة الخارجية إن لزم الأمر، كاشفا أن اللجنة المشرفة على العملية رسمت عدة سيناريوهات للعمل عليها، وأن هذه الأخيرة تعمل تحت متابعة مباشرة من وزيري الداخلية والصحة والحماية الاجتماعية، لكن المسؤول الحكومي أبدى تخوفه من أمرين، الأول هو هشاشة التربة والثاني هو تجمهر الناس حول مكان العملية. وفي الوقت الذي أصبحت فيه هذه القضية محط اهتمام معظم القنوات الإخبارية العربية، كانت 6 جرافات تواصل أشغال الحفر إلى أن استطاعت بلوغ 27 مترا من العمق، وعند هذا الحد بدأت تتأكد وجود صعوبات كبيرة تواجه نمط الحفر المعتاد، لأن التربة التي أضحت شديدة الهشاشة كات تتساقط متسببة في توقع العملية لمدة تتراوح بين 10 إلى 15 دقيقة. وخلال مساء اليوم نفسه، تقررت الاستعانة بجهتين، الأولى هي الحفارون التقليديون الذين يعملون باليد والمعتادين على التعامل مه هذا النوع من الحفر الدقيقة، والثانية هي شركات الأشغال الإنشائية الكبرى، حيث اختيرت إحدى المؤسسات التي تعمل عادة في بناء الأنفاق والموانئ والمرائب تحت الأرضية، والهدف هو الشروع في إنشاء مدخل صوب البئر الذي يوجد فيه الطفل. الجمعة 4 فبراير 2022 وبعد أن انقضى اليوم الثالث دون الوصول إلى الطفل، كان الأمل في وصول عمليات الحفر إلى نهايتها يصطدم بمخاوف من أن يكون ريان قد استسلم وتخلى عن مقاومته البطولية، خاصة بعد أن ترددت أنباء عن أنه لم يعد قادرا عن الحركة كما أنه لا يأكل ولا يشرب، أما في المساجد فقد اختلط طلب الغيث بعد صلاة الجمعة بدعوات من على المنابر ترجو الله يعود الفتى إلى أهله حيا. وفي هذا اليوم أيضا، سيظهر بطل جديد للقصة، وهو "عمي علي الصحراوي"، الستيني المتمرس في حفر الآبار اليدوية والمعتاد على التعامل مع الأماكن الخطيرة، إذ سيأتي من مدينة أرفود إلى قرية "إغران" خصيصا للمساهمة في أعمال الحفر العرضية الدقيقة في سبيل إحداث منفذ مباشر إلى بئر "الصوندا" ويظل الرجل يحفل دون توقف رفقة عناصر الوقاية المدنية ومتطوعين آخرين، في عملية استُخدمت فيها أيضا حفارات كهربائية صغيرة. ومع حلول المساء، وبحضور والي جهة طنجةتطوانالحسيمة، محمد مهيدية، بدأت تظهر أشياء أخرى في ميدان الحفر، على غرار صهاريج للماء، ومعها بدأت تبرز تفسيرات من هنا وهناك تتحدث عن اللجوء لضخ المياه من أجل إحداث فجوة في المكان، لكن تبين أن الأمر يتعلق باستعمالها كنفق معدني يحول دون سقوط التربة، وهو بالفعل ما بدأ العمل عليه مع تبقي 6 أمتار تفصل بين مكان تواجد عناصر الوقاية المدنية والحفارين وبين موقع سقوط ريان. ونجحت المجهودات المتواصلة في حفر 4 أمتار من المسافة المطلوبة، وتعاظمت معها الانتظارات بقرب إنقاذ ريان، لكن مع توالي الساعات، ودخول صباح اليوم الموالي، تأكد الجميع من وجود مشكلة ستتضح معالمها تدريجيا، إذ ووجه الحفارون بصخرة قوية قطرها نصف متر، وحينها تأجلت توقعات الوصول للطفل إلى صباح السبت. السبت 5 فبراير 2022 في هذا اليوم أصبح التوقع بالوصول إلى الطفل ذي الخمس سنوات كبيرا أكثر من أي وقت مضى، وظُهرا كان الحديث عن أن الأمر يبقى مسألة دقائق، خاصة بعدما خرج أحد أعضاء فريق الحفر من النفق رافعا شارة النصر، وأضحى الجميع يأمل في نهاية سعيدة بعد أن جرى تداول أخبار نقلا عن أشخاص حاضرين في عين المكان مفاده أن الطفل لا زال يتنفس. لكن الدقائق تحولت لساعات، وعاد القلق ليدب في أوصال الجميع، ومعها سيتأكد أن الوصول للطفل لم يحصل بعدُ لأن فرق الإنقاذ وجدت أمامها عائقا أخيرا عبارة عن كتل صخرية تتطلب الحفر الدقيق لتفادي انهار التربة، الأمر الذي جرى يدويا وبوتيرة بطيئة تصل إلى 20 سنتيمترا في الثانية، وهو الأمر الذي أكده المهندس مراد الجزولي المشرف على عملية الإنقاذ. في حوالي الساعة التاسعة من مساء هذا اليوم بدأت تبدو حركة غير عادية في محيط النفق، وذلك بعدما أُعيد نشر عناصر الدرك الملكي والقوات المساعدة ووقفت سيارتا إسعاف أمام مدخل مكان الحفر، وكان ذلك دليلا على أن لحظة الحسم قد اقتربت، لكن لا أحد فهمَ ما يحدث بالضبط، وما زاد المشهد تعقيدا هو نزول والدي الطفل إلى المكان ثم انصرافهم من هناك دون أي توضيحات. وتطلب الأمر ساعة إضافية قبل أن يجري إخراج الطفل من البئر وسط هتافات وتكبيرات الحاضرين، وكان الأمل القائم هو أن ينتهي المسلسل الطويل بإعلان بقاء الطفل على قيد الحياة، لكن الأمر لم يكن كذلك، إذ صدر بلاغ للديوان الملكي ينعى الفقيد ويعزي والديه كما يحيي جهود من ساهموا في محاولات الإنقاذ، كاتبا نهاية امتزج فيها ألم فقدان ريان إلى الأبد بفخر التضامن المغربي الذي عاينه العالم طيلة أيام.