طنجة تتأهب لأمطار رعدية غزيرة ضمن نشرة إنذارية برتقالية    تساقطات ثلجية وأمطار قوية محليا رعدية مرتقبة الأحد والاثنين بعدد من أقاليم المغرب    نشرة انذارية…تساقطات ثلجية وأمطار قوية محليا رعدية مرتقبة الأحد والاثنين بعدد من أقاليم المملكة    توقيف ثلاثة مواطنين صينيين يشتبه في تورطهم في قضية تتعلق بالمس بنظم المعالجة الآلية للمعطيات الرقمية    توقيف 3 صينيين متورطين في المس بالمعطيات الرقمية وقرصنة المكالمات الهاتفية    ريال مدريد يتعثر أمام إسبانيول ويخسر صدارة الدوري الإسباني مؤقتًا    ترامب يعلن عن قصف أمريكي ل"داعش" في الصومال    ريدوان يخرج عن صمته بخصوص أغنية "مغربي مغربي" ويكشف عن مشروع جديد للمنتخب    "بوحمرون".. الصحة العالمية تحذر من الخطورة المتزايدة للمرض    الولايات المتحدة.. السلطات تعلن السيطرة كليا على حرائق لوس أنجليس    أولياء التلاميذ يؤكدون دعمهم للصرامة في محاربة ظاهرة 'بوحمرون' بالمدارس    CDT تقر إضرابا وطنيا عاما احتجاجا على قانون الإضراب ودمج CNOPS في CNSS    هذا هو برنامج دور المجموعات لكأس إفريقيا 2025 بالمغرب    الشراكة المغربية الأوروبية : تعزيز التعاون لمواجهة التحديات المشتركة    تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج فاقت 117 مليار درهم خلال 2024    مقترح قانون يفرض منع استيراد الطماطم المغربية بفرنسا    حجز أزيد من 700 كيلوغرام من اللحوم الفاسدة بطنجة    توقعات احوال الطقس ليوم الاحد.. أمطار وثلوج    اعتبارا من الإثنين.. الآباء ملزمون بالتوجه لتقليح أبنائهم    انعقاد الاجتماع الثاني والستين للمجلس التنفيذي لمنظمة المدن العربية بطنجة    مؤسسة طنجة الكبرى تحتفي بالكاتب عبد السلام الفتوح وإصداره الجديد    شركة "غوغل" تطلق أسرع نماذجها للذكاء الاصطناعي    البرلمان الألماني يرفض مشروع قانون يسعى لتقييد الهجرة    تفشي "بوحمرون" في المغرب.. أرقام صادمة وهذه هي المناطق الأكثر تضرراً    BDS: مقاطعة السلع الإسرائيلية ناجحة    إسرائيل تطلق 183 سجينا فلسطينيا    ثمن المحروقات في محطات الوقود بالحسيمة بعد زيادة جديد في الاسعار    رحيل "أيوب الريمي الجميل" .. الصحافي والإنسان في زمن الإسفاف    الانتقال إلى دوري قطر يفرح زياش    زكرياء الزمراني:تتويج المنتخب المغربي لكرة المضرب ببطولة إفريقيا للناشئين بالقاهرة ثمرة مجهودات جبارة    مسلم يصدر جديده الفني "براني"    المجلس العلمي المحلي للجديدة ينظم حفل تكريم لرئيسه السابق العلامة عبدالله شاكر    تنس المغرب يثبت في كأس ديفيس    بنعبد الله يدين قرارات الإدارة السورية الجديدة ويرفض عقاب ترامب لكوبا    "تأخر الترقية" يخرج أساتذة "الزنزانة 10" للاحتجاج أمام مقر وزارة التربية    لمن تعود مسؤولية تفشي بوحمرون!    المغرب التطواني يتمكن من رفع المنع ويؤهل ستة لاعبين تعاقد معهم في الانتقالات الشتوية    توضيح رئيس جماعة النكور بخصوص فتح مسلك طرقي بدوار حندون    لقجع: منذ لحظة إجراء القرعة بدأنا بالفعل في خوض غمار "الكان" ولدينا فرصة لتقييم جاهزيتنا التنظيمية    العصبة الوطنية تفرج عن البرمجة الخاصة بالجولتين المقبلتين من البطولة الاحترافية    الولايات المتحدة الأمريكية.. تحطم طائرة صغيرة على متنها 6 ركاب    بنك المغرب : الدرهم يستقر أمام الأورو و الدولار    المغرب يتجه إلى مراجعة سقف فائض الطاقة الكهربائية في ضوء تحلية مياه البحر    القاطي يعيد إحياء تاريخ الأندلس والمقاومة الريفية في عملين سينمائيين    انتحار موظف يعمل بالسجن المحلي العرجات 2 باستعمال سلاحه الوظيفي    السعودية تتجه لرفع حجم تمويلها الزراعي إلى ملياري دولار هذا العام    الإعلان عن تقدم هام في التقنيات العلاجية لسرطانات البروستات والمثانة والكلي    غزة... "القسام" تسلم أسيرين إسرائيليين للصليب الأحمر بالدفعة الرابعة للصفقة    محاضرة بأكاديمية المملكة تُبعد نقص الذكاء عن "أطفال صعوبات التعلم"    حركة "إم 23" المدعومة من رواندا تزحف نحو العاصمة الكونغولية كينشاسا    هواوي المغرب تُتوَّج مجددًا بلقب "أفضل المشغلين" لعام 2025    أي دين يختار الذكاء الاصطناعي؟    الممثلة امال التمار تتعرض لحادث سير وتنقل إلى المستشفى بمراكش    الفنانة دنيا بطمة تغادر السجن    نتفليكس تطرح الموسم الثالث من مسلسل "لعبة الحبار" في 27 يونيو    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الانْتِصَارَاتُ العَظِيمَةُ فِي تَارِيخِ الفِيزيَاءِ
نشر في الصحيفة يوم 12 - 01 - 2022


( 1 ) بيئات فقيرة :
بين وقت وآخر تلتقط يدي كتابا في العلوم الأساسية ، والمستقرئ لتاريخ التأليف العربي المعاصر في العلوم الأساسية يستنبط وفقا لمعايير المنطق وتأويلية بول ريكور فقر البيئة العربية في التصنيف العلمي ، لاسيما وأن علماءنا المنتسبين بحكم الوظيفة الأكاديمية فحسب عاكفون على كتابة وإعداد طروحاتهم الأكاديمية من أجل الترقي الوظيفي متناسين أبرز أهدافهم الوطنية وهي الارتقاء بالحياة العلمية وتوظيف العلم لخدمة الإنسانية وتطوير مجتمعاتهم . هذا لا يجعلنا نغفل الفائقين من الباحثين العرب بالجامعات الغربية الذين يبدعون كل صباح باكتشافات علمية تسهم في نهضة البشرية بما يعود بالنفع على تلك المجتمعات النائية مكانيا وزمانيا أيضا بفعل السبق العلمي ، ثم تنتقل إلينا هذه الانتصارات بعدما تصبح منتهية الصلاحية أو عديمة النفع الآني.مثلما علمنا مؤخرا عن المصري النابغة محمد ثروت الذي اكتشف " الأتو ثانية " لزيادة سرعة الكومبيوتر والهاتف النقال مليار ضعف .
المهم عادة قراءة الكتب العلمية وسط فقر الإنتاج العربي العلمي والذي أشرت إلى إحداثياته في حزن وحسرة من خلال كتابي المعنون ب " البحث العلمي العربي ملاحظات وهوامش " والمنشور في نهايات 2021 عادة محمودة وخصوصا أنني أعيد قراءة الطرح العلمي العربي الراهن الذي لم يخرج عن بحث منشور بمجلة أجنبية لا تنتمي نتائجه لبيئاتنا المحلية أو مقالة علمية أكاديمية جافة لا يطالعها سواه أو زملاء المؤلف في جامعته وهكذا يظل الوعي العلمي باهتا بليدا لا صدى له في ظل مشاهد يمكن توصيفها في عروج الأكاديميين العرب إلى أبراج بعيدة عن واقعهم المجتمعي ، أو اللجوء إلى حجج واهية مفادها أن علم هؤلاء لا ولن يفهمه المتلقي البسيط الذي لا يكترث بضرورة العلم وأهميته ، وأحيانا كثيرة وجود حالة من الإحباط والاكتئاب لدى كثيرين منهم مما يجعلهم بمنأى عن المشاركة المعرفة الرشيدة .
رغم أن الغرب بطوله وعرضه وشرقه وغربه المتناهي يؤكد حقيقة النبوغ العلمي العربي في عصورنا المتقدمة ، وأن هارون الرشيد أسس مدرسة للعلوم في بغداد ربما سنة 800 ميلادية ، كذلك كانت مدينة قرطبة مركزا ثقافيا علميا ، وإذا رجعنا إلى عصورنا البائدة لاكتشفنا أن الإسكندرية العالمية هي المدينة التي كتب فيها إقليدس كتابه الشهير " مبادئ الهندسة " فضلا عن تعلُّم أرشميدس مبادئ العلوم والميكانيكا كطالب وافد من سراكيوز. أيضا كان هيباركوس رائد المجمع العلمي السكندري في مجال الفلك ويحسب له على أرض مصر أنه توصل إلى حساب أماكن النجوم والكواكب بأقصى دقة ممكنة ، كذلك كتب أطلسا لعدد من النجوم بلغ 1080 نجم ، ولا يزال هذا الأطلس المصري هو المرجع الأصيل والرافد الرصين للمعلومات عن علم الفلك القديم حتى وقتنا الحالي.
وربما عزوف الأكاديميين العرب قدم خدمة جليلة لغير المتخصصين أمثالي للبحث عن معرفة مغايرة لتلك المعارف والمعلومات المكرورة التي تقدم ليل نهار في قاعات المحاضرات بمعظم الجامعات العربية من حيث الاطلاع على الطرح الغربي في مجالات العلوم الأساسية لاسيما الفيزياء التي تعد مدخلا رئيسا لفهم الحياة على كوكب الأرض .
( 2 ) اكتشاف كوكب الفيزياء :
ومن بين هذه الكتب كتاب جورج جامو الموسوم ب " الفيزياء في عصورها الأولى " والذي يؤكد كاتبه بأسلوب رشيق وسهل أن الفيزياء تقود البشرية في مسيرتها التقدمية وأن أعظم انتصارات الفيزياء التي أسفرت عنها نتائج الباحثين الجادين والمخلصين لمجتمعاتهم وبيئاتهم هي التي أنتجت آلاف الآلات والمخترعات والأجهزة والمعدات التي مكنت الإنسان من السيطرة على كوكبه .
ويبدو أن جورج جامو نفسه يعاني من تلك الحالة التي تسود في مجتمعاتنا العربية بوصف الفيزياء مادة دراسية بالجامعات تقود الطالب الجامعي إلى حفظ مجموعات مجردة من المبادئ والقوانين والنظريات المعقدة التي يطويها بأجندة النسيان بمجرد انتهائه من دراسة المقررات الفيزيائية ، لذا نجده يكترث كثيرا بالمنتج الفيزيائي وبهؤلاء العلماء الذين سعوا إلى تطوير الفيزياء لإسعاد البشرية . ويشير جامو في مجمل كتابه إلى أن الفيزياء هي نظرة الإنسان نحو المستقبل وأنها في كنهها جملة من الأسئلة المدهشة حول الكون الذي نعيش فيه مضيفا إلى أن الانتصارات التي حدثت منذ بداية التفكير في نظرية الكم ستؤدي إلى استسلام الكثير من الظواهر الغريبة على الإنسان لقدرة العقل البشري الفائق.
ويبدو أن جورج جامو يتفق كثيرا من رواد النهضة العربية حينما قال إن أرسطو رغم براعته المتميزة في مجالات الفلسفة والمنطق وأحيانا علم النفس من أبرز أسباب تقهقر العلوم الأساسية حينما أراد أن يقتحم فضاءاته وترجع إليه اختراع اسم ( الفيزياء ) الذي اشتقت من الكلمة اليونانية ( فيزيوس ) والتي تعني الطبيعة ، لكن عدم ميله إلى التفكير الرياضي أو ما يعرف حاليا بالذكاء الرياضي وفقا لتصنيف الذكاءات المتعددة وقف عائقا كبيرا في تقدم علوم الفلك ، بل إن كتب تاريخ الفيزياء جميعها تؤكد أن جاليلليو ورفاقه بذلوا جهدا كبيرا شاقا في تخليص المجتمع من أفكار ونظريات أرسطو المعيقة لتقدم العلوم وخصوصا كما يذكر جورج جامو أن أرسطو كان يمثل " الكلمة الأخيرة في سياق المعرفة" .
( 3 ) واقع الفيزياء في عصورها المظلمة:
وقبل أن نسرد في سرعة بعض الانتصارات العظيمة في تاريخ الفيزياء ، علينا أن نقرر حقيقة وهي أنه حينما انطفأت شعلة الحضارة اليونانية الغارقة في الفلسفة وغيبياتها اللامتناهية توقف كل ملمح من ملامح التقدم العلمي بل وصل الأمر إلى أن المناقشات العلمية انحصرت بل وانحسرت كذلك في قضايا غيبية تدعو إلى الحسرة واجترار المرارة نظرا لسخافة المناقشات من مثل كم عدد الملائكة الذين يمكن أن يقفوا على سن إبرة ! ، ثم انتشرت بعد ذلك بصورة مذهلة محاكم التفتيش التي صًبغت بلفظة ( المقدسة ) وهذه المحاكم اقتنصت منفردة حق المحاكمة ومحاسبة الضمائر والعقول والأقلام والأصوات ، وتجاوزت في إقامة الأحكام ضد كل من يخالف أو يسعى إلى مخالفة منهج التدين العقائدي المسيحي السائد في هذه الفترة .
وتزخر الكتب التاريخية بأن العصور المظلمة التي غطت على الحياة العلمية في أوروبا واكبتها حركة نهضوية رائدة في الشرق فأحدث العرب وعلماؤهم تقدما فائقا وبازغا في العلوم الأساسية وارتفعت رايات العرب في مجالات الحساب بعد الطفرة في اختراع الأرقام العربية ، والكيمياء والفلك وإن كان الاهتمام بالفيزياء قليلا نسبيا مقارنة بانشغال العرب بعلم الكيمياء .
وتبقى المشكلة حيئنذ حينما ألحقت بكل كنيسة مدرسة علمية وذلك حينما أصدر شارلمان حاكم فرنسا أو بالأحرى الإمبراطورية الفرنسية مرسوما يقضي بإلحاق مدرسة علمية بكل كنيسة فظل العلم أيضا رهين سلطة البابا داخل الكنيسة .
لكن العرب الذين صالوا وجالوا في ميادين العلم واكتشفوا واخترعوا كافة أدوات السيطرة على الكون وسط الحلكة الأوروبية ظلوا على هذه الحالة راضين بذاك المقام ، ووصل بنا الحال اليوم إلى وجود مئات كليات العلوم بالوطن العربي وعشرات الآلاف من البحوث والدراسات وأوراق العمل حول كافة مسائل العلم ، وبنظرة غير ثاقبة بل برؤية قاصرة سريعة على عَجَلٍ نكتشف العائد النفعي لهذه البحوث الضاربة في الكثرة دون الانتشار ، ونرصد آلاف الساعات داخل المعامل العربية وسط قلق الباحث الأكاديمي والسرية المريبة التي يفرضها على نفسه خشية أن تتعرض أبحاثه للسرقة من زميل أو منظمة مجهولة ورغم ذلك لم نجد صدى يذكر لبقائه طويلا بالمعمل .
والمشكلة لم تعد قاصرة على الإمكانات المادية أو توافر الأجهزة والأدوات البحثية كما كان سابقا ، فمصر والإمارات والسعودية وقطر والكويت والأردن وفرت ولا تزال تذلل كافة العقبات التي كانت تعتري طريق الباحثين الأكاديميين الملقبين بالأستاذ العالم ، ووفرت لكل رجال العلم السبل في الإنتاج والنشر العلمي وعقد المسابقات من أجله وعلمه لكن الطرح العلمي النفعي يظل وئيدا وغير متناسب مع الإمكانات التي تم توفيرها بالفعل .
الكارثة أيضا ونحن نتحدث عن العصور المظلمة أن الدول العربية ومنها مصر والإمارات والسعودية تعمل جاهدة بغير كلل أو ملل في إرسال النابغين من العلماء العرب إلى الدول الأجنبية لنهل المعرفة ، لكن رجعوا وهم يحملون درجة الدكتوراه فحسب ، وبعض قصص عن مغامراتهم العلمية والتكنولوجية في بلاد الغرب وأوروبا وكوكب اليابان ، ومجموعة مذهلة من الصور المتحفية لهم وهم في معامل البعثة لكن ما يهمني أنا وغيري من المواطنين العرب أن يردوا الجميل القومي لأوطانهم. وللحديث شجون طويلة .
( 4 ) يقظة الفيزياء .. من العلم إلى الخطاب الديني :
وظلت عصور الظلمة قائمة في وجه الفيزياء حتى ظهر جاليلليو عبقري الفيزياء النظرية والتجريبية التطبيقية على السواء والذي ظل فترة طويلة من عمره يواجه رجال الكنيسة ومحاكم التفتيش لما جاء به من اكتشافات تتعلق بالفلك مثل نجم السماء Nova الذي يظهر بضوء ساطع ثم يخبو ويختفي خلال عدة أشهر ، وأردف بعد ذلك اكتشافاته العظمى حينما تمكن من صنع أول تلسكوب فلكي بعدما تفرغ سنوات لدراسة انكسار الضوء فتمكن من النظر إلى السماء واكتشف عالما جديدا بالفعل وسجل ملاحظاته حول القمر والكواكب والمشترى .
وأدت اكتشافات جاليلليو المدهشة إلى التصديق بنظرية كوبرنيكوس القائلة بأن الشمس هي مركز الكون وليس الأرض ، وأن الكواكب جميعها بما فيها الأرض تدور حول الشمس لا العكس ، وهذا ما جعله فريسة سائغة وقتئذ لدى رجال الكنيسة فكيف يجرؤ للخروج على هيبتها وقوتها وهيمنتها الطاغية في ظل سيادة محاكم التفتيش.
وقصة جاليلليو معروفة للقاصي والداني نحن في غنى عن سردها واجترارها دوتما جديد ، لكن الجديد فيها ليست مثوله أمام قضاة المجمع المقدس للكنيسة وهو في عمر السبعين راكعا على ركبتيه ، بل في هوس السلطة الدينية إزاء كل من يهدد سطوتها وسلطتها المطلقة ، رغم أن جاليلليو مجرد باحث لا أكثر لا هو ثائر أو مناضل سياسي بل هو في المقام الأخير مفكر ، لكن دائما ما تشكل السلطة الدينية نفسها رقيبا على الأدمغة ، هذا ليس ببعيد عن واقعنا العربي ، فكافة التيارات السلفية لازال تكفر الإمام المجدد محمد عبده ، ورأينا تنظيم حسن البنا المعروف إعلاميا ب ( تنظيم الإخوان المسلمين ) يقيم محاكم نفتيش لآراء الإمام محمد عبده المجدد المستنير رغم وفاته .
ليس فقط ، بل رأينا ما واجهه عميد الأدب العربي نفس التحدي من رجال المؤسسة الدينية حينما نشر كتابه الأشهر " في الشعر الجاهلي " سنة 1926 ، ومن بعده بسنوات بعيدة المفكر المصري الدكتور نصر حامد أبو زيد حينما واجه كل محاولات السلطة الدينية ( الشعبية ) في النيل منه ومن كتاباته وأسرته أيضا .
( 5 ) مات جاليلليو فوُلِد نيوتن :
في سنة 1642 مات جاليلليو بعد انكساره العلمي أمام رجال المجمع المقدس بالكنيسة ، وفي سنة وفاته ولد طفل قبل اكتمال أشهر حمله وهو إسحق نيوتن ، الطفل المتوعك الخجول والمقاتل الشرس أيضا ، وتمكن نيوتن رغم حداثة عمره في 1665 أن يتمكن من إيجاد قاعدة فك أي قوس ذي حدين مرفوع إلى أي أس وتحويله إلى متوالية جبرية وهي المعروفة بنظرية ( ذات الحدين ) وفي مايو من السنة نفسها وجد طريقة ( المماسات ) وفي نوفمبر من السنة ذاتها تمكن هذا العبقري من إيجاد طريقة حساب التفاضل .
وحينما عُيّن نيوتن أستاذا في جامعة كامبردج واصل عمله ليل نهار حتى تناسى تناول طعامه بل بدا مهمل المظهر نتيجة انغماسه المطلق في علمه وأبحاثه لإفادة البشرية ، ويبدو أن نيوتن يشابه معظم علمائنا في البيئات العربية من حيث السرية الصارمة على أبحاثه ومكتشفاته العبقرية للدرجة التي قيل أنه لم يُظهر مؤلفاته أو اكتشفاته الفيزيائية إلى في وقت متأخر من حياته على سبيل المثال كتابه الفريد عن الميكانيكا والجاذبية ظهر وهو في تمام عمر 44 عاما ، ثم نشر كتابه عن الضوء حينما بلغ الخامسة والستين.
ويرجع لهذا الفيزيائي العبقري اكتشافه للعلاقة بين قوى الجاذبية الأرضية والبعد عن مركز الكرة الأرضية عن طريق المقارنة بين حالة سقوط حجر ( أو تفاحة كما يقولون ) على سطح الأرض وحركة القمر في مداره حول الأرض باعتباره يسقط إلى مداره كلما دفعته الحركة خارجا عنه في اتجاه المماس لمداره الدائري الذي يتحرك فيه (جامو ، ص 60).
وإلى نيوتن ترجع معظم الانتصارات العظيمة في مجال الفيزياء بوجه عام ؛ فكتابه المعروف باسم " البرنسيبيا" المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية يعتبر موسوعة فيزيائية متكاملة تحدث فيه واصفا قوى الطبيعة والتنبؤ بمعظم المبادئ الميكانيكية ، وفي كتابه العظيم وضع أسس برنامج التفسير الميكانيكي لكل الظواهر الفيزيائية، فضلا عن وضع القوانين الثلاثة للحركة والتي كتبها بطريقة واضحة وبأسلوب سهل بخلاف الكتابات العلمية العربية الراهنة الموغلة في الغرابة والغموض والترميز وحينما نوجه لهم الدهشة إزاء طرحهم العلمي نجدهم مهمومون فقط بالكتابة لأنفسهم متناسين دورهم التنويري والحضاري صوب مجتمعاتهم .
( 6 ) أشعة إكس الغامضة :
في النصف الثاني من القرن العشرين كانت الفيزياء قد استقرت على عرش السيطرة في تفسير مجمل الظواهر الكونية التي كانت عصية على التلقي والتأويل ، وفي الفترة الأخيرة من القرن التاسع عشر تحولت الفيزياء من حالتها الكلاسيكية إلى ثورة دونما توقف لجماحها حسب وصف جورج جامو في كتابه " الفيزياء في عصورها الأولى " ، حتى كان اليوم العاشر من نوفمبر سنة 1895 حينما كان الفيزيائي الألماني رونتجن يقوم بثمة تجارب معملية باستخدام أنابيب كروكس الكاثودية ، لاحظ أن شاشة فلورسنت تصادف وجودها بجوار الأنبوبة ، أظهرت ضوءا براقا لامعا عندما كان التيار الكهربائي يمر في الأنبوبة ، وتمكن رونتجن من تغطية الأنبوبة بقطعة من الورق الأسود لكنه لم يمنع هذا البريق من الظهور ، وحينما استخدم لوحا معدنيا اختفى هذا البريق تماما ، وكانت أول محاولة يسجلها رونتجن باستخدام الأشعة الجديدة التي اكتشفها وأطلق عليها اسم أشعة X RAYS ، هي صورة لكف يد زوجه ظهرت فيها فيها الهياكل العظمية للأصابع وأيضا خاتم الزواج .
( 7 ) ثم ماذا بعد ؟
الحديث عن الانتصارات الفيزيائية عبر تاريخ الإنسانية طويل ومثير وممتع أيضا ، ولا تكفيها مقالة قصيرة واحدة بل عشرات المقالات المتخصصة وغير المتخصصة التي تنير العقل العربي ، لكن يبقى السؤال الأكثر حتمية هو : ثم ماذا بعد كل هذا؟ .
إن الإنسان في رحلة حياته القصيرة زمنيا يسعى ويحاول ويجتهد أن يسيطر على كوكب الأرض بل والكواكب المتزامنة في الدوران أيضا ، والنصيحة التي نقدمها لكليات العلوم الأساسية الكثيرة جدا وجدا أيضا أن تلتحم بقضايا مجتمعاتها وأن تكرس المبادئ المتحفية القديمة نسبيا في خدمة الأوطان ، وأن لفظة عالم لا تُطلق إلا على من يخدم بلاده لا خدمة وظيفته الأكاديمية المرتبطة بالراتب الشهري أو الحصول على فرصة عمل بإخدى دول النفط أو مجرد السفر إلى الخارج من أجل التقليد فحسب ، وخصوصا أن ال\دول العربية تحديدا منذ جائحة كوفيد 19 وهي لا تتأخر في تقديم كل مناحي الدعم للمؤسسات العلمية ، وعلى هؤلاء الذين اغرورقوا طوعا وكرها وقصدا في إغراق طلابهم بأحاديث علمية من أجل الامتحان النهائي أن ينتبهوا ولو للحيظات قليلة إلى البعد الوطني لعلمهم وإلى جدوى النفع الذي يعود على المجتمعات العربية من ابتعاثهم للخارج أو حصولهم على ارفع الدرجات الأكاديمية بالداخل . ويظل دعاءنا لهم ولنا : اللهم انفعنا بما علمتنا إنك أنت الهادي .
أسْتَاذُ المَنَاهِجِ وطَرَائِق تَدْرِيسِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ
كُلِّيَّةُ التَّرْبِيَةِ جَامِعَةُ المِنيَا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.