الكتب قوة لا يقهرها تعاقب الأزمنة ورفض الأنظمة، ولا اختلاف اللغات وتصارع الانتماءات.. هناك كتب كتبها أصحابها كمذكرات وتحولت إلى ملهمة للثورات، وكتب كانت مصدر شقاء أصحابها في حياتهم، لتصبح هي نفسها مصدر مجدهم وخلودهم.. وأخرى نشرت تنفيذا لوصية الوفاة وأضحت بعد نشرها شهادة ميلاد.. ونحن عندما نختار قراءة ثلاثين منها، فليس لأنها «الأفضل» أو لأنها «الأحسن».. بل لأنها الأكثر تأثيرا في تاريخ البشرية، فمن الدين والفقه، مرورا بالسياسة والاستراتيجية..وصولا إلى العلم والاقتصاد...احتفظت هذه الكتب دوما بوقع عظيم ومستمر في الحضارة والإنسان. كان نيوتن راهباً من رهبان العلم لمدة 35 سنة في كمبردج. وقد وضع «قواعد للتفلسف» -أعني الطريقة والبحث العلميين ورفض القواعد التي وضعها ديكارت في «مقاله» كمبادئ قبلية تستنتج منها كل الحقائق الكبرى بالاستدلال، وهي مسألة لها جذور بين الثقافتين القارية الفرنسية والتحليلية الإنجليزية، وحين قال نيوتن «أنا لا أخترع فروضاً» كان يعني أنه لا يقدم نظريات حول أي شيء يتجاوز ملاحظة الظواهر، فهو إذن لا يغامر بأي تخمين عن طبيعة الجاذبية، بل يكتفي بوصف مسلكها وصياغة قوانينها. ولم يزعم أنه يتجنب الفروض باعتبارها مفاتيح للتجارب، فإن مختبره على العكس خصص لاختبار مئات الأفكار والإمكانات ويزخر سجله بالفرضيات التي جُرِّبت ثم رُفِضت. كما لم يرفض الاستدلال وإنما أصر على أنه يجب أن ينطلق من الوقائع ويفضي إلى المبادئ... وكانت طريقته أن يتصور الحلول الممكنة للمشكلة ويستنبط متضمناتها الرياضية ويختبر هذه بالحساب والتجربة. وكتب يقول: «يبدو أن مهمة الفلسفة (الطبيعية) كلها تكمن في هذا البحث من ظواهر الحركات في قوى الطبيعة ثم إيضاح الظواهر الأخرى من هذه القوى». لقد كان مزيجاً من الرياضة والخيال ولن يستطيع فهمه إلا من يملكهما جميعاً. وقد صاغ نيوتن ثلاثة قوانين للحركة هي: -1 يبقى كل جسم على حالته من حيث السكون أو الحركة المنتظمة في خط مستقيم ما لم يضطرَّ إلى تغيير تلك الحالة بقوى واقعة عليه. 2- يتناسب تغيير الحركة مع القوة المحركة الواقعة ويتم في اتجاه الخط المستقيم الذي تقع فيه تلك القوة. -2 يقابل كلَّ فعل دائما ردُّ فعل مساو له. أما وقد تسلح نيوتن بهذه القوانين وبقانون التربيع العكسي، فقد تقدم إلى صياغة مبدأ الجاذبية. وصورة المبدأ الحالية هي أن كل جزَيء من المادة يجذب كل جزَيء بقوة تتناسب تناسبا طرديا مع حاصل ضرب كتلتيهما، وتناسباً عكسياً مع مربع البعد بينهما، هذه الصورة لا نجدها بهذا النص في أي موضوع في كتاب المبادئ، ولكن نيوتن أعرب عن الفكرة في التعقيب العام الذي ختم به الكتاب الثاني: «إن الجاذبية تعمل حسب كمية المادة الجامدة التي تحتويها (الشمس والكواكب)، وتنتشر قوتها على جميع الجهات... متناقضة أبدا، بما يتناسب مع المربع العكسي للمسافات». وقد طبق هذا المبدأ وقوانينه في الحركة على مدارات الكواكب، ووجد أن تقديراته الحسابية تتفق والمدارات الإهليلغية التي استنتجتها كبلر. وزعم أن الكواكب تحول عن حركاتها المستقيمة وتحفظ في مداراتها، بقوة تميل صوب الشمس وتتناسب تناسباً عكسياً مع مربع أبعادها عن مركز الشمس... وعلل رياضياً تسطح الأرض عند القطبين، وعزا انبعاجها عند الاستواء إلى قوة الشمس الجاذبة، ووضع رياضيات المد والجزر باعتبارهما راجعين إلى جذب الشمس والقمر الموحد للبحار، وبمثل هذا الفعل القمري-الشمسي فسر مبادرة نقطتي الاعتدالين ورد مسارات المذنبات إلى مدارات منتظمة، وبهذا أيد نبوءة هالي... وقد صور كونا أعظم تعقيدا من الناحية الميكانيكية مما ظن من قبل، لأنه نسب إلى جميع الكواكب والنجوم صفة الجذب، فأصبح الآن كل كوكب أو نجم يُنظَر إليه على أنه متأثر بكل كوكب أو نجم آخر. ولكن في هذا الحشد المعقد من الأجرام السماوية وضع نيوتن قانوناً يحكمه: فأبعد النجوم يخضع لنفس الميكانيكا والرياضة اللتين تخضع لها أصغر الجزيئات على الأرض. إن رؤية الإنسان للقانون لم تغامر قط بالتحليق في الفضاء إلى مثل هذا البعد، ولا بمثل هذه الجرأة. نفدت الطبعة الأولى من «المبادئ» سريعا ولكن لم تظهر طبعة ثانية إلا في 1713. وعزّت نسخُه حتى إن عالما نسخ الكتاب كله بيده... واعترف القراء بأنه عمل فكري من أرفع طراز، ولكن بعض ملاحظات النقد كدَّرت صفو الثناء عليه. فرفضت فرنسا النظام النيوتني، لتشبثها بدوامات ديكارت، إلى أن عرضه فولتير في 1738 عرضا ملؤه الإعجاب والتبجيل. واعترض كاسيني وفونتنيل بالقول إن الجاذبية ليست سوى قوة أو صفة غيبية تضاف إلى القوى الماضية، وقالا إن نيوتن شرح بعض العلاقات بين الأجرام السماوية ولكنه لم يكشف عن طبيعة الجاذبية، التي ظلت سراً خفياً كسِرِّ الله. وقال ليبنتز إنه ما لم يستطع نيوتن بيان المكنية التي تستطيع الجاذبية أن تؤثر بها، خلال فضاء يبدو فارغاً، في أجسام تبعد عنها ملايين الأميال، فإنه لا يمكن قبول الجاذبية على أنها شيء أكثر من مجرد كلمة... النيوتونية.. وبداية العصر الحديث بعد عدة انتقادات، وافق نيوتن بعد ما عُهِد فيه من تسويفات على أن يعد طبع الكتاب ثانية، محاولا أن يهدئ من ثورة نقاده. وكتب في الطبعة الثانية كلماته التي كثيرا ما يساء فهمها وهي أنه «لا يضع فرضا» وأضاف: «يجب أن تتسبب الجاذبية من عامل يعمل بثبات وفق قوانين معينة، ولكنني أترك لقرائي النظر في ما إذا كان هذا العامل ماديا أو غير مادي»... ورغبة في المزيد من الرد على الاعتراضات الدينية، ألحق بالطبعة الثانية تعقيبا عاما عن دور الله في نسقه. فقصر تفسيراته الميكانيكية على العالم المادي ورأى حتى في ذلك العالم أدلة على وجود خطة إلهية، فالآلة الكبرى تتطلب مصدرا أول لحركتها، لا بد أن يكون هو الله تعالى، ثم إن في النظام الشمسي شذوذا في المسلك يصححه تعالى دوريا كلما ظهر. ولكي يفسح نيوتن مجالا لهذه التدخلات الخارقة، تخلى عن مبدأ عدم فناء الطاقة وافترض أن آلة العالم تفقد بعض طاقتها بمضي الوقت، وستفقدها كلها إن لم يتدخل الله ليرد لها قوتها. واختتم بهذه العبارة «إن هذا النظام البديع، نظام الشمس والكواكب، والمذنبات، لا يمكن أن ينبعث إلا من مشورة كائن ذكي قوي ومن رحابه»... وبلغ صيت نيوتن مستوى عظيما وذهب هيوم إلى أن نيوتن «أعظم وأندر عبقري ظهر ليشرِّف النوع الإنساني ويعلِّمه» ووافقه فولتير في تواضع. ووصف ليغرانغ كتاب المبادئ بأنه «أعظم إنتاج أنتجه الذهن البشري»، وضمِن له لابلاس إلى الأبد «مكان الصدارة على جميع إنتاجات العقل البشري»، وأضاف أن نيوتن أوفر الناس حظاً، لأنه ليس هناك سوى كون واحد، وليس له سوى مبدأ مطلق واحد، وقد اكتشف نيوتن ذلك المبدأ. ومثل هذه الأحكام لا ثبات لها، لأن «الحقيقة»، حتى في العلم، تذبل، كالزهرة. وقد خشي اللاهوتيون لأول وهلة من تأثير كتاب «المبادئ» على الدين، ولكن محاضرات بويل التي ألقاها بنتلي، عام 1692، بتشجيع من نيوتن، حولت النظرة الجديدة إلى العالم إلى تأييد الإيمان، لأنها أكدت على وحدة الكون ونظامه وعظمته الواضحة أدلة على حكمة الله وقوته وجلاله. وفي فرنسا على الأخص، شجعت كونيات نيوتن، رغم عرض فولتير لها عرضا ربوبيا، رفض الكثيرين من «الفلاسفة» رفضا يقوم على ميكانيكية الكون. وفي الفترة بين اضمحلال نظرية ديكارت في نشأة الكون في فرنسا وظهور نظريات النسبية وميكانيكا الكم في القرن العشرين، لم يصادف «نسق العالم» النيوتني أي تحدٍّ خطير، وبدا مؤيَّداً من كل تقدم أو كشف في الفيزياء أو الفلك.. لذلك اعتبر كتابه «المبادئ» من أكثر الكتب تأثيرا في تاريخ العلم...
إسحاق نيوتن في سطور هو السير إسحاق نيوتن، وُلِد في 4 يناير 1643. أشهر فيزيائي ورياضي وفلكي في العصر الحديث. ارتبط اسم نيوتن بالعديد من الاكتشافات التي مهدت لمسيرة العِلم الحديث. ولد اسحق نيوتن في إنجلترا، يتيما، وقد توفي والده قبل مولده بثلاثة أشهر، وقد عرف إسحاق بتميزه في المدرسة، التحق بعدها بكلية «ترينتي» في جامعة كمبريدج ونال شهادته في غشت عام 1665، وهي الجامعة التي طالما تخرج منها عباقرة العصر الحديث في جميع المجالات، وهناك تعلم البلاغة الكلاسيكية ومنطق أرسطو وتأثر بأفكار فلاسفة كمبردج، الذين كانوا في معظمهم من أتباع الفلسفة الأفلاطونية الجديدة. كان يعيش وحدة شبه كاملة ويُكرِّس كل وقته للتأمل في ظواهر الطبيعة وقوانينها. عندئذ، حصلت القصة الشهيرة التي تحولت إلى أسطورة بعدئذ، وهي التي أدت إلى اكتشاف قانون الجاذبية. إذ يقال إنه كان غارقا في التأمل، يوما ما، وهو نائم تحت شجرة تفاح. وفجأة، سقطت تفاحة إلى جانبه، فعرف عندئذ أن السقوط ناتج عن قانون الجاذبية الذي يشد الأشياء إلى الأسفل. وجاءت كل اكتشافاته في مجال الرياضيات والبصريات والفلك، بعدئذ، على التوالي. عندئذ، فهم نيوتن سر الكون لأول مرة وعرف القوانين العلمية التي تتحكم فيه ولا يحيد عنها قيد أنملة. لم يمرض نيوتن في حياته أبدا. وكان غارقا في أفكاره على الدوام. كان يتحدث قليلا إذا ما تحدث، وبشكل رديء. ولم يكن يهتم بمحدِّثه كثيرا.. كانت عبقريته فذة إلى درجة أنه لم يكن يستطيع التواصل مع الناس العاديين... وقد ظل نيوتن يدرس في جامعة كمبردج لمدة 30 سنة، دون أن يُخرِّج عالِما واحدا جديرا به، وأحيانا كان يدخل إلى الصف فلا يجد تلميذا واحدا حضر ليستمع إليه.. عندها، كان يشعر بالسعادة وينصرف. لقد كرس كل حياته لشيء واحد هو العلم ولكنْ عندما بلغ ذروة الشهرة والمجد راح يقبل التشريفات، فقد انتخبوه عضوا في مجلس العموم البريطاني. وكانت له حديقة صغيرة خارج مسكنه في كمبردج، يتمشى فيها فترات قصيرة سرعان ما تقطعها فكرة يهرع إلى مكتبه ليسجلها. كان قليل الجلوس، يوثر أن يذرع حجرته كثيراً في رواية سكرتيره «حتى لَتخاله واحداً من جماعة أرسطو، المشّائين». وكان مقلاً في الطعام، وكثيراً ما يفوت وجبة وينسى أنها فاتته. وكان ضنيناً بالوقت الذي لا بد من إنفاقه في الأكل والنوم ونادراً ما ذهب لتناول الطعام في القاعة، فإذا فعل فإنه -ما لم ينتبه- يذهب في هيئة مزرية: حذاؤه بالي الكعبين وجواربه بلا رباط وشعر رأسه غير ممشوط إلا في ما ندر... وقد اخترعت ورُويت قصص كثيرة عن شرود ذهنه. ويؤكدون أنه قد يجلس الساعات بعد استيقاظه من النوم على فراشه، دون أن يرتدي ثيابه وقد استغرقه الفكر. وكان أحياناً إذا جاءه زائرون يختفي في حجرة أخرى، ويخط أفكاراً على عجل، وينسى ضيوفه تماما. يعود إلى إسحاق نيوتن الفضلُ في وضع قانون الجاذبية العامة التي تفسر القوة الجاذبة بين الأجسام المادية والتي ارتبط ذكرها بقصة «التفاحة» التي سقطت فوق رأسه عندما كان مسترخيا تحت شجرة التفاح فأيقظته من غفلته وأشعلت الفكرة في رأسه حينها.. كما قام بوضع قوانين الحركة الثلاثة والتي نشرها في كتابه الأشهر «كتاب الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية». توفي إسحاق نيوتن عام 1727في لندن، في 31 مارس، دون أن يترك وصية، حيث إنه لم يكن له أولاد، متأثرا بسبب تسممه بالزئبق، نتيجة تجاربه الكيميائية.