الكتب قوة لا يقهرها تعاقب الأزمنة ورفض الأنظمة، ولا اختلاف اللغات وتصارع الانتماءات.. هناك كتب كتبها أصحابها كمذكرات وتحولت إلى ملهمة للثورات، وكتب كانت مصدر شقاء أصحابها في حياتهم، لتصبح هي نفسها مصدر مجدهم وخلودهم.. وأخرى نشرت تنفيذا لوصية الوفاة وأضحت بعد نشرها شهادة ميلاد.. ونحن عندما نختار قراءة ثلاثين منها، فليس لأنها «الأفضل» أو لأنها «الأحسن».. بل لأنها الأكثر تأثيرا في تاريخ البشرية، فمن الدين والفقه، مرورا بالسياسة والاستراتيجية..وصولا إلى العلم والاقتصاد...احتفظت هذه الكتب دوما بوقع عظيم ومستمر في الحضارة والإنسان. لقد كانت الفكرة التي أثبتها كوبرنيك حول كون الشمس ثابتة بمثابة «الانقلاب» الذي أنتج سلسلة متوالية من «الانقلابات» الموازية في حقول العلوم والفلسفة.. كان تأثيرها حاسما في اكتساب عصر النهضة الأوربي سماتِه ومعانيَّه التي ارتكزت إليها الحضارة العالمية الحديثة، وربما هو واحد من الأشهر في العالم بأسره.. ارتبط اسمه ب«الثورة» في عالم الفلك والفيزياء، ويؤرخ اسمه لبداية العصر الحديث، كتحول نوعي وجذري، فالثورة الكوبرنيكية، وتسمى كذلك لأن نيكولا كوبرنيك، العالم البولوني، كان قد أصدر سنة 1543 كتابه حول انقلاب الأفلاك السماوية الذي قلب الفكرة الفلكية البطليموسية القديمة، مبينا أن الأرض ليست كوكبا ثابتا وسط الكون، بل هي مجرد كوكب يدور دورتين، الأولى حول نفسه والثانية حول الشمس، ثم تلاحقت الثورات العلمية، بعد ذلك: الثورة البيولوجية والثورة السيكولوجية والثورة المعلوماتية والثورة البيوتكنولوجية. حطَّم كوبرنيك كل تصورات العصور القديمة. حطم بعضها وجزّأ البعض الآخر. أمسك بقبضة عالم الفلك، أخذ الأرض وأرسلها بعيدا جدا عن مركز الكون الذي كانت متموضعة فيه، ليضع الشمس مكانها، لكنه عندما ظن أن اكتشافه قد يجلب له المتاعب مع الكنيسة وقتذاك، لم يظهر كتابه حول «انقلاب الأفلاك» إلا قبيل وفاته. فقد قادته أعماله إلى الاستنتاج بأن الشمس هي مركز الكون، وليس الأرض، وبأن الأرض، كباقي الكواكب، تدور حول الشمس، كما تدور حول نفسها. وعليه، تم الانتقال من «مركزية الأرض» (géocentrisme) إلى «مركزية الشمس» (héliocentrisme ). من وجهة نظر دينية، يجب تسجيل نقطتين: «كانت أفكار كوبرنيك بعيدة عن أن يتقاسمها مع علماء آخرين، حتى إن معظم معاصريه كانوا يرفضون اتباعه واستمروا في التمسك بما جاء به بتولمي (Ptolémée)، بتعبير آخر، كان هناك جدل قائم ولم يتمَّ المرور دفعة واحدة نحو بداهة «مركزية الشمس»، حيث كان يجب الانتظار حتى تصبح هذه البداهة راسخة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، وبحكم أن هذه الأفكار بقيت نظرية، فإن كوبرنيك لم يكن يشكل «مصدر قلق، رغم أن الكنيسة الكاثوليكية وكذلك مارتن لوثر وأوائل الإصلاحيين عبَّروا عن انتقادهم واستهجانهم جاء به (لم تتم محاكمته في روما إلا سنة 1616) . لكن من بعده أثبت كبلر (1571-1630) أن الكواكب تدور حول الشمس، حسب «قطع إهليلغي» (une ellipse).. وتؤسس القوانين التي تحمل اسمه القواعد الرياضية لتحركاتها. غير أنه، رغم ما جاء في «علم الفلك الجديد» (Astronomia Nova) وهو عنوان لواحد من أهم أعماله)، بقي كبلر مسيحيا بعمق، فقد لاحظ أن العالَم مُسيَّر وفق تناغم ربّاني مُدار من طرف الخالق ومنظم بإتقان رياضي... لم تتفجر العلاقة إذن، إلا مع غاليلي (Galilée). فالجديد الذي قدمه ليس في اكتشافه دورانَ الأرض حول الشمس، وإنما في إظهاره ذلك بواسطة المنظار، أي إثباته تجريبيا. تصعب العودة، بتفصيل، إلى الدعوى القضائية التي أقامتها ضده محاكم التفتيش الرومانية، التي استمرت لسنوات، إلى أن تراجع، تحت الإكراه، عما سبق أن برهن عليه. وقد رويت عنه كلمة مأثورة قالها في تلك اللحظة المأساوية: «.. ورغم ذلك فهي تدور!» E pur si muove !... ومنذ ذلك الحين، أصبحت «قضية غاليلي» رمزا لكل أنواع القمع التي مارستها محاكم التفتيش في العصور المظلمة.. كوبرنيك.. بداية النهضة الأوربية تغيرت نظرة الإنسان إلى الكون المحيط به، بصورة جذرية، بظهور الثورة الكوبرنيكية -نسبة إلى كوبرنيكوس، الفلكي البولندي، في أوربا التي بيَّنت أن الأرض لم تعد هي المركز، كما كان يعتقد العلماء من قبل، بل هي كوكب صغير يدور حول نفسه وفي نفس الوقت حول نجم متوسط الحجم (الشمس). كما أدى النهج العلمي المميز لعلماء الثورة الكوبرنيكية إلى ظهور اكتشافات عظيمة على يد علماء تلك الحقبة، أمثال كيبلر وغاليليو ونيوتن، التي بيَّنتْ أن الكون كتلة هائلة في الفضاء والزمن وأن حركة دوران الكواكب حول الشمس يمكن شرحها بقوانين مبسَّطة، مثل تلك المتعلقة بالظواهر الطبيعية على أرضنا، فظاهرة المد والجزر، مثلاً، تحدث عندما تتم عملية سحب ماء البحر، بواسطة تأثير جاذبية القمر.. وقد وسعت هذه النظرية والاكتشافاتُ الأخرى المماثلة مداركَ المعرفة لدى البشر، وما زال جوهر المنهج الفكري الإسلامي والثورة الكوبرنيكية يتجسد في أشياء أساسية أكثر من تراكم الاكتشافات، عامة، والروائع العلمية منها، خاصة. تعد «الثورة الكوبرنيكية» إنجازا عظيما، حيث قادت إلى فهم الكون على أنه مادة في حركة مستديمة محكومة بقوانينَ إلهيةٍ تستطيع أن تُقدِّم تفسيرا منطقيا لحدوث الظواهر الطبيعية، وبالتالي يمكن التنبؤ بالظاهرة الطبيعية والتأثير عليها، بكل ثقة، كلما كانت الأسباب معروفة على النحو الكافي وأصبحت العلوم وتطبيقاتها الأسلوبَ الناجح لتقصي الحقائق وحل المشاكل، فقد عاصر كوبرنيك علماء وفنانين ساهموا، كلٌّ منهم في مجاله، في التنوير الأوربي، فقد عاصر مايكل أنجلو وليوناردو دافنشي وكريستوف كولومبوس وفاسكو ديغاما وماجلان ومارتن لوثر.. ولعقد مقارنة لمعرفة قيمة كوبرنيك في تاريخ العلم، فقد كان أرسطو، مثلا، يعتقد أن الأرض هي مركز الكون وأنها ثابتة، وأن الحركة الدائرية هي الكمال الأقصى، وبذلك فإن الشمس والقمر والكواكب والنجوم تتحرك حول الأرض في أفلاك دائرية منتظمة.. وقد طور بطليموس، في القرن الثاني قبل الميلاد، فكرة أرسطو لتصبح نموذجا كاملا، فالأرض تقف في المركز تحيط بها ثمان كرات تحمل القمر والشمس والنجوم والكواكب الخمسة المعروفة وقتها.. وقد انتقل العلم الأرسطي ومنطقه –بالكامل- إلى العالم المسيحي، بعد أن تبنّتْه الكنيسة وأجرت عليه التعديلات اللازمة، حتى تجعله متوافقا مع تعاليم الدين المسيحي في القرن الحادي عشر، واستمرت السيادة الفكرية للكنيسة المعزَّزة بآراء أرسطو إلى القرن الرابع عشر. وقد تغلغل النظام الأرسطي في العالم المسيحي، حتى إن النظام الكوني، كما صوره دانتي وطوما الأكويني، لا يخرج عنه كثيرا، وهكذا كان الكون محددا ومنسجما ومتسق الترتيب في جميع أجزائه، كما كان هناك عالم ثابت من العلاقات الاجتماعية والمصالح التي تكتسب شرعيتها من الله، وهو عالم يعكس النظرة السائدة التي كانت تنظر إلى العالم الطبيعي على أنه أيضا عالم ثابت الأركان، وأن البشر أنفسهم فوق هذه الأرض هم الجزء المركزي من خليقة الله، فالطبيعة والبشر موجودات لخدمة الله وخدمة ممثليه على الأرض، أي السادة من الحكام والرهبان... انقضت عشرون قرنا على وجه التقريب ظل فيها العلم الأرسطي سائدا، قبل أن يبزغ فجر العلم الحديث، الذي أحدث ثورات بعيدة الأثر عدَّلت كل المفاهيم العلمية، تقريبا، وغيّرت من نظرتنا إلى العالم تغييرا جذريا عندما جاءت الثورة الكوبرنيكية...
نيكولا كوبرنيك في سطور ولد نيكولا كوبرنيك في بلدة «تورون» على حدود بروسيا في 19 فبراير 1473م، ونشأ في بيت تسوده الرفاهية وفي جو مفعم بالوطنية. كان والده تاجرا ناجحا إلا أنه فقده وهو في العاشرة من عمره، لكن الأب ترك ما يكفي لأن تعيش العائلة حياة كريمة ومحترمة، وكانت والدته أختا لأسقف «أرملاند»، الأمر الذي أفاد كوبرنيك الشاب، في ما بعد، في مجال عمله. كان كوبرنيك شابا جديا، متعدد المواهب، ذا ولع خاص باللغتين اليونانية واللاتينية، تابع دراسته في بيته إلى أن أصبح قادرا على الانتساب إلى جامعة «كراكوف» لدراسة الطب. وخلال دراسته، وجد أنه على استعداد للتفوق في الرياضيات والفلسفة الطبيعية والرسم الهندسي. وكان أيضا رجلا شعبيا وتواصل مع أبناء بلاده، وغالبا ما كان يشكو الناس له همومهم.. وعلى سبيل المثال، نشط كوبرنيك بالتحقيق في أوزان رغيف الخبز ومواصفاته وتحديد أسعاره، نزولا عند رغبة المستهلكين والخبّازين على حد سواء، وكذلك التحقيق في أسعار المواد الغذائية المختلفة وفي الأجور، وفي شكاوى الفلاحين بشأن تراجع أسعار الحبوب والمنتَجات الزراعية، وحقق جدولا متحولا بأسعار الخبز، حسب أسعار الحبوب، وأجور العمل وأوصى باتخاذ كيل موحَّد للحبوب. بعد أن تخرج كوبرنيك في دراسة الآداب والطب، توجه إلى روما وهناك اكتسب مقامه، بمستوى رياضي وفلكي، ولم تمضِ فترة وجيزة حتى أصبح معروفا إلى درجة أنه مُنِح أستاذية الرياضيات في جامعة روما، ولم يبق طويلا في ذلك المنصب، لأن خاله، أسقف «أرملاند» طلب منه العودة إلى وطنه بروسيا، وتسلُّم منصب كاهن الكاتدرائية في فراونبرغ. بعد تسلمه المنصب الجديد، رأى كوبرنيك أنه بحاجة إلى العلم أكثر، فالتحق بدائرة الطب في جامعة «بادوا» وبقي هناك حتى سنة 1505، وبعدها توجه إلى قصر «هايلزبورغ» وقام بخدمة تمرينية إضافية كطبيب خاص للأسقف، إلى حين وفاة خاله، فأصبح سيداً دون منازع، وكان يُستشار في قضايا دولته، وعندها قام بترتيب حياته إلى ثلاثة أثلاث: الأول للعبادة، والثاني لتقديم المعونة الطبية للفقراء، والثالث كرَّسه لممارسة هوايته وهي دراسة الفلك والتأمل الفلسفي. منذ البداية، كان اهتمام كوبرنيك منصبّاً على حركة الكواكب السابحة في الفضاء، ثم اتجه إلى دراسة مفصلة عن المريخ وأثبت بُطلانَ نظرية بطليموس التي تقول إن «الأرض ثابتة وإن الكواكب السيارات والشمس والقمر والنجوم تدور حول الأرض».. وعلل ذلك بكون الناس يُحمَلون على سطح الأرض بنفس الطريقة التي يَحمل بها الإنسان رداءه، وقال: «أليس من الأسهل على الأرض أن تدور مع بقية السيارات حول الشمس، بمدار يقع بين الزُّهرة والمريخ، من أن يدور كل ذلك النظام المعقد من الدوائر حول الأرض؟».. وإذا كان افتراض كوبرنيك صحيحا، فلا بد من أن يكون لكوكب الزهرة وعطارد أوجه كأوجه القمر. وبقيت هذه الملاحظات موضع شك إلى أن وجه غاليليو منظاره نحو السماء، فأثبت بذلك النظرية الكوبرنيكية، بصورة قاطعة.