1 تُمثِّل التناقضاتُ في العلاقات الاجتماعية تَحَدِّيًا وُجوديًّا للشعورِ الإنساني ، والمصلحةِ العامَّة ، وتطوُّرِ الأفكار الإبداعية، لأن التناقضات تَمنع التواصلَ بين عناصر الواقع المُعاش ، وتَحُدُّ مِن قُدرة الفِعل الاجتماعي على صناعة الكَينونة الإنسانية ، وتُشكِّل خطرًا على ماهية التجانس وصِيغة العَيش المُشترك . وغيابُ التجانس يعني حُدوث انشقاقات في المنظومة الاجتماعية الواحدة ، وغيابُ صِيغة العَيش المشترك يَعني تكريس النَّزعة الأنانية ، والبحث عن الخَلاص الفردي ، والهروب من مواجهة التحديات ، والتَّنَصُّل مِن تحمُّل المسؤوليات ، وهذا يعني تحوُّل المجتمع إلى شَقَّة مَفروشة ، يَسكنها الفردُ لبعض الوقت ، ثُمَّ يَرحل عنها ، بدون شُعور بالانتماء إلى المكان ، أو وَلاء للذكريات . وإذا اختفت ثنائية ( الانتماء / الوَلاء ) ، اختفت الشرعيةُ الاجتماعية التي تُسيطر على اتِّجاهات الفِعل الإنساني ، وتتحكَّم بمسارات الأفكار المعرفية . مِمَّا يعني بالضرورة انتقال مشاريع النهضة ومضامين التنمية مِن الحُلْم إلى الكابوس ، ومِن الأشواق الروحية إلى الأنماط الاستهلاكية . وهكذا ، تصير حياةُ الإنسان هُروبًا مُستمرًّا ، فهو يَهرُب مِن مُكوِّنات نَفْسِه إلى عناصر البيئة الخارجية بحثًا عن الأمن والأمان ، ويَهرُب مِن امتحان المُستقبل إلى مُسلَّمات الماضي ، لأنَّه عاجز عن مُواكبة حركة الإبداع ، وغَير قادر على مُنافَسة الآخرين في اقتحام المُستقبل . وإذا اعتبرَ الإنسانُ نَفْسَه خارجَ التاريخ الحضاري ، ولا مكان له في الحاضر والمُستقبل ، فَسَوْفَ يَرجع إلى أمجاد الماضي ، ويَغرق فيها ، كَي يَرتاح مِن عذاب الضمير ، وكثرةِ التفكير ، ويُثبِت لِنَفْسه أنَّ له جُذورًا وتاريخًا ووُجودًا اعتباريًّا وكَينونةً حضاريةً . 2 تناقضاتُ الحاضر المُتعِب تُجبِر الإنسانَ على الهروب إلى الماضي المُريح ، وضغطُ الأسئلة المصيرية يَدفع الإنسانَ إلى البحث عن إجابات جاهزة ومُسلَّمات افتراضية وقوالب فكرية مُعَدَّة مُسْبَقًا ، والسبب في ذلك أن الكثيرين يُفَضِّلون الوهمَ الناعم على الحقيقة الصادمة ، ويَبتعدون عن الدواء الذي فيه شِفاؤهم ، لأنَّه مُر المَذاق ، ويتهرَّبون من العملية الجراحية للمريض ، لأنها قد تشتمل على قطع عُضْو فاسد يُؤَثِّر على حياة الجِسم كاملًا . وهنا تبرز أهميةُ النظر إلى العلاقات الاجتماعية مِن كل الزوايا والاتجاهات ، مِن أجل تكوين صورة فكرية كاملة وشاملة ، بدون انتقائية في المعاني ، ولا مِزاجية في القرارات. 3 إذا أضاعَ المُجتمعُ مِفتاحَ باب المُستقبل ، فَسَوْفَ يَبحث عنه في الماضي ، وهذه عملية شديدة الخُطورة، لأن كُل باب له مِفتاح خاص به، ولا يُوجد مِفتاح يُناسِب كُلَّ الأبواب . والإشكاليةُ في حياة الأفراد والجماعات هي عدم التمييز بين العودة إلى الماضي للاستفادة مِنه في فهم الحاضر والانطلاق إلى المُستقبل، وبين العودة إلى الماضي للهُروب مِن تحدِّيات الحاضر ، خَوْفًا مِن المُستقبل . والخَوفُ مِن المُستقبل يستلزم الابتعادَ عنه ، والسُّقوط في الوهم ، والانكماش في الزاوية الضَّيقة . وإذا غابَ المُستقبل عن الأذهان ، فإن الحاضر سيغيب تلقائيًّا ، لأن الإنسان يَهرُب إلى الماضي خائفًا ، ويَعيش الماضي في الحاضر ، أي إنَّ الحاضر يُصبح مَاضِيَيْن معًا ، دُون وُجود فُرصة لاقتحام المُستقبل. وبعبارة أكثر تفصيلًا ، إن الإنسان الخائف مِن الزمن ، يَسقط خارجَ الزمن ، ويختبئ في الفراغِ المُوحِش والعَدَمِ الشامل ، ويَفقد الإحساسَ بالمراحل الزمنية المُختلفة ، لأنَّ حياته تُصبح ماضيًا مُتواصلًا ، وهُروبًا مُستمرًّا ، والهاربُ مِن الأشياء لا يستطيع فهم حقيقتها ، ولا يَقْدِر على مُواجَهة الأزمات . وإذا أرادَ الإنسانُ الخُروجَ مِن المتاهةِ الاجتماعية والمأزقِ الوجودي الحَرِج ، فيجب عَلَيه أن يُقَاتِل أوهامَه حتى النهاية ، مُسَلَّحًا بتجارب الماضي ، ومُفْعَمًا بإنجازات الحاضر ، وواثقًا بأحلام المُستقبل . والهروبُ لَيس حَلًّا ، وأفضلُ طريقة للتخلُّص مِن الخوف هي اقتحامه ، وعلى المريض أن يَشرب الدواءَ المُر بأسرع وقت مُمكن ، لأنَّ فيه شفاءَه ، وهو في سِباق معَ الزمن . وتَوفيرُ الوقت هو تَقليل للثَّمن والتضحيات .