أمن الخليج، هذا المصطلح الذي يستعصي تحقيقه على الفرقاء المتجادلين حوله، كان وما يزال وسيبقى موضوعا للأبحاث والنقاشات الأكاديمية والسياسية على حد السواء. كما سيظل مادة للتفاوض والمساومة وتسجيل النقاط بين الحين والآخر. وبرغم ما يكرره ساسة بلدانه بأن ذلك مسؤولية أهله، فقد بقي محكوما بالتوازنات الدولية وتدخلات الدول الكبرى والغربية منها خصوصا. وبرغم أن المنطق يفترض أن شعوب بلدانه هي الأكثر حرصا على حماية أمنه، إلا أن عدم توافق حكومات دوله فتح الباب دائما للتدخلات الأجنبية. ويمكن القول إن هذا البحر الذي لا يتواصل مع بحار العالم ومحيطاته إلا عبر مضيق لا يتجاوز عرضه عشرين ميلا، من أكثر بحار العالم ازدحاما، ففيه تمخر ناقلات النفط العملاقة وسفن الصيد المحلية الكثيرة وأساطيل القوى الغربية خصوصا الأمريكية والبريطانية. وعلى مياهه قتل الكثيرون في الحروب التي دمرت الكثير من إمكانات دوله. وبرغم ما يقال عن تعدد مصادر النفط وطرق نقله والسعي المتواصل لبناء الأنابيب العملاقة التي توصل منابع النفط بموانئ عديدة في البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، إلا أن الصراع من أجل الهيمنة على مضيق هرمز لم يتوقف أبدا. في الوقت الحاضر تسيطر كل من إيران وسلطنة عمان على ضفتي هذا المعبر المهم، ولكن دولا أخرى لديها أطماع في السيطرة أيضا. وتؤكد القراءات السياسية أن الإمارات من أكثر الدول تخطيطا للسيطرة على الضفة الجنوبية من ذلك المضيق، ولا تستبعد نشوب نزاع لتحقيق ذلك. وحتى الآن لم تكن هناك حاجة لغلق المضيق أمام السفن التي تخرج من الخليج أو تدخل إليه، ولكن بقي التهديد بغلقه من قبل إيران (إذا منعت من استخدامه لعبور سفنها) مصدر قلق للعالم الصناعي الذي ما يزال يعتمد على نفط الخليج الذي ينقل أغلبه على متن السفن عبر مضيق هرمز. لكل ما سبق يسعى الفرقاء لتفادي النزاع المسلح الذي قد يؤدي لغلق ذلك المضيق لأن انعكاسات ذلك ستكون متعبة جدا للاقتصاد العالمي. ويتصاعد القلق مع نشوب النزاعات المسلحة بشكل خاص. فقد حدث ذلك خلال الحرب العراقيةالإيرانية (1980-1988) بشكل خاص. ومنذ توقفها قبل أكثر من ثلاثين عاما تقلص الحديث عن ذلك حتى خلال الحربين اللتين قام بهما التحالف الانكلو أمريكي على العراق، نظرا لبعد المضيق عن ساحات المعارك. ولكن منذ وصول دونالد ترامب للرئاسة الأمريكية عاد الحديث عن أمن الخليج وفرض نفسه على الدوائر السياسية والعسكرية والإعلامية. ولا بد من التأكيد على أن نزعة بعض الأطراف للحرب يعتبر السبب الأول لذلك. فالتهديدات التي أطلقتها إدارة ترامب وإرسال حاملة الطائرات «إبراهام لنكولن» وطائرات بي 52 وإعادة نشر صواريخ باتريوت، ساهمت في تصعيد التوتر بشكل غير مسبوق في الذاكرة المعاصرة. فحتى عندما أسقطت الفرقاطة الأمريكية «فينسنت» التي انطلقت من البحرين طائرة إيرباص الإيرانية في 1988 لم يكن هناك تهديد بغلق المضيق. ولكن تصريحات جون بولتون، مستشار الأمن القومي الامريكي، الاستفزازية التي تبعها إرسال القوات المذكورة وضع المنطقة على مرجل من النار أججت الأوضاع مجددا. ثم جاءت الحوادث الأخيرة التي استهدف فيها عدد من ناقلات النفط لتدفع باحتمالات الحرب إلى الواجهة. وليس معروفا بعد من الذي قام بتلك الهجمات. فهل من مصلحة إيران القيام بذلك في الوقت الذي كان قادتها قد قرروا تحاشي النزاع المسلح الذي دمر بلادهم قبل ثلاثين عاما؟ المشكلة أن التحالف الانكلو- أمريكي ما فتئ يبحث عن مبررات لإثبات الوجود عسكريا وممارسة السيطرة العملية على المنطقة خصوصا مسارات النفط. وما تزال الذاكرة تختزن ما فعله ذلك التحالف من تزييف الأسباب لشن حرب على العراق في العام 2003 بدعوى أنه يمتلك أسلحة دمار شامل. وما أن انتهت الحرب بإسقاط نظام صدام حسين حتى اتضح عدم وجود أسلحة دمار شامل لدى العراق. فهل اعتذر الغربيون عن تلك الحرب المدمرة؟ مياه الخليج شهدت حالات خطيرة من التوتر العسكري، ولعبت الألغام دورا في تفجير ناقلات النفط في عامي 1987-1988. في تلك الفترة صنعت الولاياتالأمريكية لنفسها حضورا عسكريا مباشرا من خلال ما سمي «مصاحبة السفن» الكويتية إلى خليج عمان عبر مضيق هرمز. أمريكا لا يهمها أمن الخليج إلا بقدر ما يؤثر على إمدادات النفط، وعندما تسعى للتقارب مع إيران فإنما تفعل ذلك بروح استعلائية واستكبار بلا حدود كانت إيران تعتبر ذلك الوجود استفزازا لها، ولكنها آنذاك كانت منهكة جدا بعد ثمانية أعوام من الحرب المتواصلة. وشيئا فشيئا استطاعت إعادة بناء قواتها المسلحة وإمكاناتها العسكرية. وبموازاة ذلك كان هناك اهتمام خاص بتسليح الدول الصديقة للتحالف الانكلو أمريكي وتمكينها من أداء دور شرطي المنطقة. فحدثت الحرب على اليمن من قبل التحالف السعودي الإماراتي المدعوم من الولاياتالمتحدة وبريطانيا، وهي الحرب التي ما تزال رحاها تدور بدون توقف منذ أكثر من أربع سنوات. وحيث أن التحالف المذكور لم يراع الضوابط الأخلاقية الدولية للحرب، فقد توسعت دائرتها وضحاياها المدنيون وقتل الأطفال والنساء وفجرت قاعات الاحتفالات والأسواق والمدارس والمستشفيات. وبفشل التحالف في حسم الحرب تطورت قدرات اليمنيين العسكرية واستهدفوا بصواريخهم وطائراتهم المسيرة مواقع عسكرية واقتصادية في السعودية والإمارات، الأمر الذي وسع رقعة الحرب وجعل مهمة وقفها صعبة جدا. ويتضمن خطاب التحالف المذكور تبريرا لما يقوم به باستحضار مقولة «أمن الخليج» وأن استهداف اليمن إنما جاء لاعتبارات تتصل بذلك الأمن. فما مدى واقعية توسيع مفهوم أمن الخليج إذن؟ التصعيد الأخير مع إيران جاء من أطراف ثلاثة تجمعها أجندة وأحدة: أولها: الإدارة الأمريكية برئاسة دونالد ترامب الذي تصدى للمسلمين قبل فوزه في الانتخابات ومنع مواطني سبع دول إسلامية من دخول الأراضي الأمريكية. ثانيها: التحالف السعودي الإماراتي الذي وضع قادته أعينهم على قيادة العالم العربي وسخروا عائدات امبراطوريتهم النفطية لتحقيق ذلك الهدف، وجعلوا استهداف الإسلام السياسي في جوهر مشروعهم السياسي والعسكري. ثالثها: الكيان الإسرائيلي الذي يرى في إيران مصدر التهديد الأول لوجوده خصوصا مع رفضها الاعتراف بالكيان الإسرائيلي أو التفاوض معه أو التخلي عن دعم القوى التي تقاومه. أمن الخليج هنا تتغير ملامحه وإبعاده بتغير الجهة المشاركة في استهداف إيران. فأمريكا ورثت المنطقة عن البريطانيين الذين قرروا مؤخرا العودة إلى شرقي السويس بعد نصف قرن من الانسحاب. أما الكيان الإسرائيلي فينطلق في اهتمامه بمقولة «أمن الخليج» من رغبته في مد الجسور مع السعودية والإمارات، ويعتبر البحرين التي دعم نظامها منذ أكثر من عشرين عاما، تابعا للتحالف المذكور، وجسرا يسير العبور للكيانات المذكورة. التفجيرات الأخيرة التي استهدفت المصالح النفطية لبعض دول منظومة مجلس التعاون الخليجي، ومنها استخدام الطائرات المسيرة لضرب منشآت نفطية سعودية، وصاروخ بالستي لضرب مطار ابها السعودي، وأخيرا استهداف ناقلتي نفط نرويجية ويابانية، استهدفت أمن الخليج عمليا، وكشفت مواقع الضعف في المنظومة العسكرية التي تتهيأ للانقضاض على إيران. من جانبهم ينكر الإيرانيون أي صلة لهم بالتفجيرات، ويؤكدون مسؤوليتهم عن الحفاظ على أمن الخليج الذي يملكون نصف شواطئه، وليس مستبعدا أن تكون التفجيرات مفتعلة من قبل قوى تتمنى حدوث مواجهة عسكرية بين إيرانوالولاياتالمتحدةالأمريكية. هذه الجهات من شأنها افتعال بعض الحوادث لتحدث إرباكا عاما وتشوشا وتعبئ التحالف الانكلو- أمريكي لتكثيف الضغوط على إيران ومن بينها العمل العسكري. أمريكا لا يهمها أمن الخليج إلا بقدر ما يؤثر على إمدادات النفط، وعندما تسعى للتقارب مع إيران فإنما تفعل ذلك بروح استعلائية واستكبار بلا حدود. هذا السعي إنما جاء بعد أن انسحبت أمريكا من الاتفاق النووي، وفرضت عقوبات اقتصادية صارمة على طهران، وسعت لاختراق حدودها بكل الوسائل ومنها الإرهاب. واعتقد ترامب أن ضغوطه ستدفع الجمهورية الإسلامية لرفع الراية البيضاء، ولما لم يحدث أي من ذلك طرحت موضوعة الحوار مع إبقاء كل الإجراءات مكانها. الإيرانيون رفضوا ذلك بشكل قاطع علنا وسرا. وربما لم يكن رئيس وزراء اليابان، شينزو أبي، يتوقع الرد الذي سمعه من قائد الثورة علي خامنئي الذي كان واضحا وحاسما برفض العرض الأمريكي بحوار فوقي ينطلق في أجواء الإكراه والتهديد بعد أن اتخذت واشنطن كل الإجراءات القمعية ضد إيران وما تمثله، ومن ذلك نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والإعلان عن صفقة القرن لإلغاء أي أمل بدولة فلسطينية، وتصنيف حركات المقاومة المدعومة من إيران على لوائح الإرهاب، ومن بينها حرس الثورة الإسلامية وحزب الله وحماس، وربما الإخوان المسلمون لاحقا. إن منطقة الخليج تعيش مخاضات عديدة، ساهمت السياسة الأمريكية في تعقيدها وجعلها أكثر إيلاما. وليس مستبعدا أن تكون أمريكا وعملاؤها وراء أعمال التخريب التي شهدتها مياه الخليج مؤخرا، تمهيدا لعدوان آخر يكمل مسلسل العنف الذي شجعته أمريكا أو على الأقل لم تتخذ أي إجراء لوقفه. وأمن هذه المنطقة (خصوصا أهلها) لا يمثل أولوية للولايات المتحدةالأمريكية التي جعلت «إسرائيل» فوق كل شيء. أمريكا أصبحت عرابا للقمع والاستبداد والعدوان على الشعوب الآمنة، ومرغت قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في التراب في مقابل أموال النفط من التحالف السعودي الإماراتي الذي يواصل عدوانه على الشعوب العربية، من البحرين إلى مصر وسوريا واليمن وليبيا والسودان. فماذا يعني الحوار بعد هذا كله؟ *كاتب بحريني - نقلا عن القدس العربي