يتحرك رئيس الحكومة والقطاع النسائي لحزب العدالة والتنمية ووزارة التضامن والتنمية الاجتماعية والمساواة والأسرة التي يشرف عليها ذات الحزب بمناسبة انطلاق الحملة الوطنية لمناهضة العنف .ومن يتابع ، من غير المهتمين بالموضوع ، ما ينشره موقع الوزارة والحزب الذي يتحمل حقيبتها قد يعتقد أنهم جادون في مسعى مناهضة العنف وعازمون على تفعيل القوانين وملاءمة التشريعات الوطنية بالمواثيق والاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب. طبعا لا يمكن للحزب الذي يقود الحكومة أن يعلن صراحة أنه مناصر للعنف ضد النساء لاعتبارات دستورية وسياسية تلزمه بتبنى الخطاب الرسمي للدولة المغربية والانخراط في الإستراتيجية التي وضعتها الدولة . إلا أن للحزب إستراتيجيته الخاصة التي وضعها مباشرة عند توليه رئاسة الحكومة والتي من مقوماتها :أ : تجنب الصدام مع إصلاحات الدولة . ب : عرقلة الإصلاحات من داخل المؤسسات الرسمية للدولة . ج : إفراغ النصوص الدستورية والمؤسسات المنبثقة عنها من محتوياتهما مع الإبقاء على الإطار العام للتسويق السياسي . هذه هي إستراتيجية الحزب خصوصا في كل ما يتعلق بالمرأة وحقوقها وأوضاعها ومطالبها . والأمر لا يحتاج إلى جهد كبير للكشف عن إستراتيجية الحزب وخططه المرحلية للالتفاف على الإصلاحات وتجويفها أو تشكيل مؤسسات كسيحة لا تحقق الأهداف الدستورية من تأسيسها . إذ تكفي الإطلالة على الانتقادات التي توجهها مكونات الحركة النسائية لرئاسة الحكومة ووزارة التضامن والتنمية الاجتماعية والمساواة والأسرة ليدرك المرء الخلفية الإيديولوجية التي يشتغل بها الحزب ويدير من خلالها الشأن الحكومي. ولعل الرأي العام يدرك جيدا الفرق الجوهري بين العقد الأول من هذه الألفية وما عرفه من ديناميكية على مستوى التشريعات في مجال حقوق النساء بدءا من مدونة الأسرة وما حملته من تغييرات جوهرية في البنية التشريعية ، ثم التعديلات التي لحقت بها فيما بعد ( حق الأم المغربية في إعطاء جنسيتها لأبنائها من زواج مختلط) فرفع التحفظات عن الاتفاقيات المتعلقة بالقضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة ، وخاصة مقتضيات المادتين 9 و16 من الاتفاقية قبل رحيل حكومة عباس الفاسي. مباشرة بعد رئاسة البيجيدي للحكومة سيدخل المغرب ، ليس فقط مرحلة التعثر والجمود التشريعي في مجال حقوق النساء ، بل سيعرف تراجعات خطيرة لم يشهدها المغرب الحديث ولا استدمجتها أعرافه الاجتماعية من قبل. وأخطر تلك التراجعات هي التي جاء بها مشروع القانون الجنائي الذي صاغه واشرف عليه مصطفى الرميد ، وزير العدل والحريات في حكومة بنكيران ، ولا يزال يهدد حتى الآن بالاستقالة إذا تم رفض المشروع .ومن أجل وضع القراء الكرام في الصورة حتى تتضح أكثر إستراتيجية البيجيدي الرامية إلى الإجهاز على كل المكتسبات الحقوقية والقانونية ، تكفي الإشارة إلى المواد التالية من مشروع القانون الجنائي. المادة 418 تنص على ( يتوفر عذر مخفِّض للعقوبة في جرائم القتل أو الجرح أو الضرب إذا ارتكبها أحد الزوجين ضد الزوج الآخر وشريكه عند مفاجأتهما متلبسين بجريمة الخيانة الزوجية). المادة 420 تنص على ( يتوفر عذر مخفض للعقوبة في جرائم الجرح أو الضرب دون نية القتل ، حتى ولو نتج عنها موت ، إذا ارتكبها أحد أفراد الأسرة على أشخاص فاجأهم بمنزله وهم في حالة اتصال جنسي غير مشروع). المادة 423 تنص على ( عندما يثبت العذر القانوني لارتكاب الجرائم المنصوص عليها في هذا الفرع ،فإن العقوبات تخفض إلى : 1 الحبس من سنة إلى خمس في الجنايات المعاقب عليها قانونا بالإعدام أو السجن المؤبد. 2 الحبس من ستة أشهر إلى سنتين في باقي الجنايات . 3 الحبس من شهر واحد إلى ثلاثة أشهر في الجنح.) نحن إذن،أمام إستراتيجية خطيرة لا تكتفي بعرقلة الإصلاحات أو الالتفاف عليها ، بل وضع تشريعات المغرب في تعارض تام مع الدستور أولا ، ومع منظومة حقوق الإنسان والمواثيق الدولية التي صادق عليها . فالبيجيدي يعطي كل الذرائع والأعذار والنصوص القانونية لشرعنة العنف ضد النساء والتحريض عليه ما دامت العقوبة تخفَّض من الإعدام/المؤبد كما هو منصوص عليه في القانون الجنائي الجاري به العمل ، إلى سنة سجن واحدة. إن ما كان يناهضه البيجيدي وقطاعه النسائي وذراعه الدعوية "حركة التوحيد والإصلاح" زمن المعارضة ، مكّنته رئاسته للحكومة وتوليه حقائب وزارية حساسة ( العدل ، وزارة التضامن والتنمية الاجتماعية والمساواة والأسرة ، بالإضافة إلى رئاسة الحكومة ) ليس فقط من مصادرة حقوق النساء ، ولكن من شرعنة العنف بكل أشكاله ضدهن . اليوم ، يعلن رئيس الحكومة ووزيرته على قطاع الأسرة وقطاعه النسائي الموازي ، انخراطه في الحملة الوطنية والعالمية لمناهضة العنف ضد النساء ، بينما يجر وراءه الأغلال الفقهية الدخيلة على المجتمع المغربي في كثير منها ويسعى إلى جعلها مصدرا بديلا للتشريع . فعن أي مناهضة للعنف ، وعن أي إستراتيجية وطنية يتحدث وقد أفرغ النصوص الدستورية من مضمونها وأنشأ مؤسسات كسيحة (هيأة المناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز ) التي أقصى آراء ومطالب ومقترحات الحركة النسائية أثناء التأسيس ، فجاءت الهيأة عبارة عن "مجلس استشاري" لا يضر ولا ينفع بخلاف ما ينص عليه الدستور في فصليه 19 و 164 . ولا يمكن للبيجيدي أن يقبل للمرأة أن تكون لها هيأة حقيقية ذات سلطة مستقلة لها اختصاصات حمائية لمكافحة التمييز، وتتوفر فيها جميع آليات الاشتغال الذاتي ضمن هذه الاختصاصات ، وهو الذي يستند إلى مرجعية إيديولوجية تناهض حقوق النساء وحقهن في الولاية على أنفسهن وعلى أولادهن. ففي الوقت الذي يطالب فيه الأمين العام للأمم المتحدة من كل دول وحكومات العالم ، في رسالته بهذه المناسبة، بألا تركز( التدابير على التدخل بعد وقوع العنف ضد المرأة فحسب. بل ينبغي أن تعمل على منع وقوع العنف أصلا، بما في ذلك منعه من خلال معالجة الأعراف الاجتماعية وحالات اختلال توازن القوى، كما ينبغي أن تزيد الشرطة ونظم القضاء من مساءلة مرتكبي العنف وأن تضع حدا للإفلات من العقاب) ، نجد البيجيدي يتشبث بمشروع القانون الجنائي الذي يشرعن العنف ضد النساء بكل أشكاله وأساليبه ويوفر كل شروط الإفلات من العقاب ،دون أن تكون له الجرأة السياسية للتخلي عن المشروع وتقديم بديل عصري متشبع بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا . ليعلم رئيس الحكومة أن دولة الإمارات العربية المتحدة اتخذت قرارا شجاعا وتاريخيا بتغيير منظومتها الجنائية جذريا حتى تكون مسايرة للعصر وقيمه الحقوقية والإنسانية ، بحيث ألغت تجريم العلاقات الرضائية والمساكنة بين الجنسين وقانون "جنايات الشرف" الذي يصر البيجيدي على استيراده من المجتمعات المشرقية ليحوّل المغرب إلى "مطرح للنفايات الفقهية والقانونية " التي باتت دول الخليج تتخلص منها . وطالما ظل البيجيدي متشبعا ومتشبثا بتلك المرجعية الإيديولوجية المناهضة للمرأة ولقيم الحرية والمساواة والمناصفة والكرامة ،ويقود الحكومة ، فإنه سيظل عرقلة حقيقية أمام كل مشاريع الإصلاح والتغيير. من هنا ، فإن أي إصلاح أو تغيير نحو الأفضل لن يحققهما إلا من يؤمن بضرورتهما .