هل نتذكر ما حصل في البوسنة قبل22 عاماً يوم تعرّض مسملوها لحرب إبادة شنّها المتطرّفون الصرب وبمشاركة ودعم من المتطرّفين الكروات، فاستشهد فيها 300 ألف مسلم واغتصبت نحو 60 ألف امرأة وطفلة وهجّر نحو مليون ونصف المليون إنسان، وهذه الأرقام والإحصاءات تكرّر ذكرها في أروقة الأممالمتحدة. لفت انتباهي في هذه الذكرى الأليمة أن محطة ال CNN ومراسلتها المعروفة كريستينا أماتبور فتحت هذا الملف مجدداً ، بالقول : كانت حرباً قروسطية، قتل وحصار وتجويع للمسلمين ، وأوروبا رفضت التدخل " الإنساني" وهو المبدأ الذي شاع عشية تحرير الكويت وبعدها تدمير العراق وفرض حصار دولي جائر عليه بزعم امتلاكه أسلحة دمار شامل وعلاقة نظامه الدكتاتوري بالإرهاب الدولي. كان التبرير "الأوروبي" ، ان ما يجري هو " حرب أهلية" ولا علاقة لنا بها ولا نريد التدخل فيها، ولكن هل كان ذبح المسلمين على يد إرهابيين صرب وكروات ولأسباب دينية وعنصرية بحتة لا علاقة له بالتدخل لأغراض إنسانية ؟ وهو الموضوع الذي بموجبه صدر القرار 688 في 5 ابريل (نيسان) 1991 القاضي بكفالة احترام حقوق الإنسان والحقوق السياسية لجميع المواطنين ووقف القمع الذي تتعرض له المنطقة الكردية وبقية مناطق العراق. استمر الهولوكوست الصربي- الكرواتي بحق مسلمي البوسنة لنحو 4 سنوات حيث تم هدم 800 مسجد بعضها يعود بناؤه إلى القرن السادس عشر الميلادي كما تم إحراق مكتبة سراييفو التاريخية، وحين تدخلت الأممالمتحدة كانت البوسنة تحت الحصار والنار ، فلم تنفع حمايتها بشيء، لاسيّما بعد وضع آلاف المسلمين في معسكرات الاعتقال وتعذيبهم وتجويعهم، حتى أصبحوا هياكل عظمية على حد تعبير مراسلة CNN . ومن الطريف أن أحد القادة العسكريين سُئِل عن سبب هزال أجساد البوسنيين ، فأجاب أنهم يرفضون أكل لحم الخنزير، وكانت صحيفة الغادريان البريطانية قد نشرت خريطة على صفحة كاملة تظهر 17 موقعاً من مواقع معسكرات اغتصاب النساء والطفلات والأطفال بعضها في صربيا، وعلّقت الجريدة حينها على صورة الطفلة التي يسيل الدم من بين فخذيها :" ذنبها أنها مسلمة"، علماً بأن عمرها أربع سنوات فقط. وهناك صور بشعة وحكايات مرعبة جرى تناولها، فمثلاً دعا راتكو ملاديتش ، (المتهم الأول بالجرائم ضد الإنسانية في البوسنة) قائد المسلمين في زيبا إلى اجتماع وقدّم له سيكارة وتلاطف معه قليلاً، وبعد لحظات انقض عليه وذبحه، وكان ذلك إيذاناً ببدء الجريمة بحق أهالي زيبا، ولكن الجريمة الأكثر شهرة كانت حصار سربنشينا الذي دام سنتين مع القصف المستمر ، وكانت المساعدات الدولية تصل إليهم ، لكن الكتيبة الهولندية المكلّفة بحماية سربنشينا تواطأت مع الصرب وضغطت على المسلمين لتسليم أسلحتهم مقابل حماية أنفسهم وأمانهم، وحين فعلوا ذلك انقضّت عليهم الذئاب العنصرية، فتم عزل الذكور عن الإناث وجمع حوالي 12 ألف منهم (صبياناً ورجالاً) وقتلهم جميعاً والتمثيل بأجسادهم دون رحمة أو وازع من ضمير . أما النساء فتم الاعتداء عليهن وقتل بعضهن حرقاً واستمرت المجزرة لبضعة أيام، حتى سقطت سربنشينا في أواخر (يوليو) 1995، وكان ذلك الفصل الأخير من حرب الإبادة. وبعد انتهاء المجزرة دخل رادوفان كاراديتش (الرئيس الذي ظلّ فاراً من وجه العدالة حتى ألقي القبض عليه في 21 يوليو/ تموز/2008) المدينة فاتحاً وبزهو أعلن أن سربنشينا كانت صربية دائماً وهي اليوم تعود إلى أحضان الصرب الوطن الأصلي أو الأمن. وحين نستعيد اليوم هذه الذكرى المؤلمة والمأساة الإنسانية الكبرى نتساءل أين الشعارات الرنانة التي تتشدّق بها الحكومات الغربية من أنها تريد نشر الديموقراطية ومبادئ حقوق الإنسان؟ ثم لماذا قصّرت الأممالمتحدة وأين دورها وما هو واجبها؟ فقد قتل أمام أعينها علماء دين وأئمة جوامع ومثقفون ورجال أعمال وأكاديميون ونخب فكرية وسياسية دون أن تحرك ساكناً، وكان هؤلاء يقيدون ويذبحون ويرمون في النهر، وهو ما وثقته بمهارة مهنية محطة CNN. وقد صدق وصف من قال عن الحرب ضد البوسنة ، بأنها حرب في أواخر القرن العشرين ، لكنها شنت بأسلوب القرون الوسطى ، وهي تذكّر بحرب المئة عام وحرب الثلاثين عام التي قتل فيها ملايين البشر بسبب الصراع الدموي الكاثوليكي - البروتستانتي، ويكفي أن نتذكر أن ألمانيا لوحدها والتي كان تعداد نفوسها نحو 30 مليون إنسان، خسرت نحو 13 مليون ونصف المليون إنسان في تلك الحرب العبثية ، غالبيتهم من الذكور إضافة إلى امتدادات الحرب والضحايا إلى أوروبا. وتبقى البوسنة جرحاً فاغراً ورغم مرور عقدين ونيّف من الزمان، فالجراح لم تندمل والمعاناة مستمرة ، ويحتاج الأمر إلى إحياء ذكرى الضحايا وإجلالهم ومساعدة أسرهم ومن تبقى منها على قيد الحياة والتخفيف من معاناتهم وتلبية احتياجاتهم وإسماع أصواتهم إلى العالم ، لكشف الحقيقة ومساءلة المرتكبين وجبر الضرر والتعويض وإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية الوطنية والدولية كي لا يفلت المرتكبون من العقاب. *باحث ومفكر عربي