مادام اعترف علماء الغرب أنه لن يمكنهم إنتاج لقاح فعال وذي إيجابية مطلقة لمواجهة كوفيد 19 قبل عامين ، لم يعد من المجدي استنفار طاقات الأكاديميين العلميين العرب نظرا لأنهم لم يفطنوا بعد لسقوطهم المعرفي أمام اختبار يبرهن على كفاءتهم من عدمها ، لذا فأنا وغيري نقر بحقيقة أن العلم في الوطن العربي مجرد محاضرات نظرية وبيبلوجرافيا تحكي قصة حياة الأستاذ الجامعي وكفاحه الوهمي حتى حصوله على درجة الدكتوراه في العلوم الأساسية أو الطب أو الصيدلة وكأنه بذلك استطاع امتلاك المعرفة ويقينها ، وهو في راهن الأمر بحاجة إلى إعادة تأهيل وتكوين وإعداد علمي جديد. وبين هذا الاعتراف الغربي بتأجيل الحصول على لقاح حقيقي للقضاء على الكابوس اليومي المستدام المعروف عالميا بجائحة كورونا ، وبين الإقرار بالفشل العلمي وفقر المعرفة لدى علماء العرب ، بات الحديث عن أسباب التراجع المعرفي وبلادة التجديد والاجتهاد ضروريا لاسيما وأن إبطال إعمال العقل والتربية السلبية التي دفعت المتعلمين وطلاب العلم إلى التقليد والمحاكاة ونقل التجربة فقط دون صنعها أو المشاركة في إبداعها. والحديث يبدأ بالقطعية والبدهية بالتفتيش عن العوامل التاريخية والظروف المجتمعية التي دفعت بالعقول العربية إلى تلك الحالة الراهنة من التقاعس والتقهقر بل والنكوص أيضا ، تحديدا حينما فجر الخليفة المأمون مسألة خلق القرآن بغير علم أو فهم أو تأويل وأراد أن يجعل قضية خلق القرآن الكلامية فرضا وعقيدة متأصلة في واقع وتاريخ الأمة الإسلامية لمدة طويلة ، كان يريد وقتئذ إعلان السلطة الدينية السياسية بغض النظر عن راهن رأينا حول مدى درايته الكاملة بأبعاد المسألة أو حتى إدراكه لاعتراض أهل السنة والجماعة ساعتها إزاء ما طرحه ووافقه الكثير من رجال الدين وعلماء التفقه ، وهذا الطرح في اختصاره هو إلزام الناس لاسيما القضاة وأهل العدل وكافة عمال وموظفي الدولة العباسية بالقول بإن القرآن الكريم مخلوق وليس قولا وكلاما منزلا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وما صاحب هذا القرار السياسي الديني من اضطهاد علني للمخالفين وصل لحد القتل والتعذيب والتنكيل بغير رحمة ، ومن المنطقي أن يذعن المأمون لقضية خلق القرآن بالموافقة والتأييد من باب أنه في خلال صراعه الخفي غير المعلن مع الأمين اعتمد على توطيد علاقته السياسية السرية بالخراسانيين باعتباره أنه منهم بحكم الدم الفارسي المختلط أي أن المسألة برمتها سياسية تم دمج الفكر الديني بها . حتى جاء من خلفه الخليفة المتوكل الذي أبطل القول بهذه المسألة ونهى الناس عامتهم وخاصتهم أيضا عن الجدل والجدال والسجال بشأن هذه القضية الكلامية المرهقة . وكل من تناول مسألة خلق القرآن اندفع بقوة صوب التأييد تارة والرفض تارة أخرى وأصبح الدفاع عن الإمام أحمد بن حنبل وموقفه من المسألة الاختلاقية محل الخلاف فرض عن ومسألة وجود وإعلاء للسنة والجماعة ، كل هذا في غفلة حقيقية عن تأويل فرض السلطة السياسية في الشأن الديني ، فبالرجوع إلى صحائف التاريخ على عجل نتبين أن استقواء المأمون بالعناصر الفارسية في صراعه مع الأمين وفكرة التخلص منه ومن حكمه كان من نتائجه تصدر العقل الفارسي المشهد وتغلغله في أروقه الحكم والسلطة بشتى مناحيها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية بالضرورة ، وبدأ النفوذ العربي في انحساره الاستثنائي. وهذا ما يدفعنا بالقول من إن فتنة خلق القرآن هي ليست مجرد قضية دينية أو تتعلق بالصراع الفكري والعقائدي بين المعتزلة رواد التأويل والاستقراء والنظر العقلي في النص الديني ، وبين أهل السنة والجماعة والاجتماع ، بل هي صراع سياسي في المقام الأول وصراع حضاري قديم بين أهل فارس وأهل العرب حول الزعامة السياسية التي وجدت في الصراع الديني والتناحر المذهبي فرصة سانحة للتسيد والاستلاب. وكثير من المهللين الذين فرحوا في أحايين وقف القول بخلق القرآن حتى وقتنا المشهود رأوا ولا يزالوا أن الحليفة المتوكل ظفر للإمام أحمد ابن حنبل ومريديه ، وأغلب الظن أنه أيقن بضرورة المصالحة التاريخية بين الديني والسياسي ، رغم أن تأويل النص وقراره يدرك أنه أعاد فكرة تكريس السلطة الدينية وأن مؤسسة السلطان من شأنها أن تسيطر على السلطة الدينية ، وما انقضاء حبس الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة إلا مجرد صورة من تغلغل السلطة الدينية في الشأن السياسي ، في الوقت الذي رأى فيه أهل المعتزلة والتأويل أن تجميد القول في مسائل العقيدة هو تجميد لإعمال العقل وإغلاق مطلق ومحكم لأبواب التجديد والاجتهاد وقتئذ. ولغفلة تفاصيل المشهد نفسه في عصرنا الحديث ، لم يفطن البعض إلا أن هذا المتوكل الذي أحيا السنة وأعاد مجد السلف في نظر كثيرين ، هو نفسه الخليفة الذي كانت مجالسه لا تخلو من السكر بل والعربدة أحيانا كثيرة ، وأنه في ذات الوقت الذي دافع فيه عن أحمد بن حنبل وصراعه مع المعتزلة وأصحاب الفرق الكلامية كان شديد البغض للإمام علي بن أبي طالب ( كرم الله وجهه) وأبنائه وصولا لأحفاد الإمام . هذا الصراع يجعلنا نطرح تساؤلا مفاده لماذا لم يتوحد الشأن السياسي مع الشأن الديني إلا في ظروف مضطربة أو بالأحرى مشتعلة ؟ هذا بفضل ثمة اختلافات بين الشأنين منها الموضوع والوظيفة واختلاف المنطلقات والنتائج وهي أوجه الاختلافات التي أشار إليها المفكر رضوان السيد في مجمل حديثه عن الدين والدولة في الإسلام المعاصر في كتابه " أزمنة التغيير " ، وأضاف أن الصراع الديني السياسي لم يكن مقتصرا على أهل الإسلام ، بل شهد العالم أيضا صراعا أكثر شراسة وضراوة بين الكنيسة والسلطة السياسية في الغرب حينما اعتبرت الكنيسة نفسها المرجعية الرئيسة في سائر شئون الحياة لكنها اصطدمت بالهيمنة السياسية للسلطة ؛ مما دفع الكنيسة إلى تراجعها صوب قواعدها الدينية البحتة ، وفي الولاياتالمتحدةالأمريكية تحديدا في سنة 1779 جرت بعض التعديلات الدستورية التي منعت تدخل الكنائس في الشأن السياسي ، وفي المقابل منعت التعديلات ذاتها تدخل الكونجرس في الشأن الديني . وليس بغريب أن نرى تحول أهل السنة منذ فتنة خلق القرآن من جماعة دينية محضة إلى جماعة سياسية لمواجهة المعتزلة والشيعة على السواء ، ففي العصر الحديث وجدنا حسن البنا على وعي بضرورة تسمية تنظيمه بالجماعة ، وهومصطلح يبدو قديما يعني الإجماع أي وجود سلطة دينية وسياسية معا وهو الأمر الذي أدى إلى صدامه بالسلطة السياسية القائمة حينما أعلن في رسائله أن الإسلام دين ودنيا ومصحف وسيف، ومشكلة جماعته أنه بدأ بالتنظيم قبل العقيدة على حد توصيف رضوان السيد مما أشار بداهة إلى فكرة السقوط المتوقع والمرتقب لجماعته أو تنظيمه الذي بدا صارما صعب الولوج في إحداثياته بفعل سياسات السمع والطاعة الذي اعتبرته الجماعة شرطا للانضمام لها. ولاشك أن الصراع السياسي والديني في أزمنة التاريخ السالفة تحديدا منذ تحول الخلافة الإسلامية الراشدة إلى ملك عضوض بدءا من اقتناص معاوية بن أبي سفيان سلطة العرب وتقويض ما عرف بالخلافة إلى تأسيس مملكة سياسية مرورا بتكوين الخلافة العباسية ذات الأركان السياسية التي اعتمدت على عناصر شتى لتوطيد الحكم المطلق منها الدين ورجال الفقه واستجلاب العناصر الأجنبية والموالي حتى وصل بنا الأمر إلى الخلافة العثمانية التي أبيدت تاريخيا والتي لجأت أيضا إلى فكرة استلاب العقول واقتناصها دينيا نفس الشأن الذي يمارسه اليوم الرئيس التركي أردوغان وهو فكرة إعادة خلافة سلطوية بائدة تحت مظلة شعارات دينية قد لا يفطن كنهها البسطاء والعوام في الشرق الأوسط. هذا الصراع التاريخي بين الديني والسياسي والذي أوضحته تفصيليا في كتابي بعنوان فقه الخطاب الديني المعاصر هو ما دفع الكثير والكثير من التيارات والفرق الدينية المذهبية إلى تحويل قبلتها الفكرية من تنظيم ديني إلى تنظيم سياسي طامح في السلطة وإقامة دولة بشروط خاصة ، ولسنا بصدد إرهاق العقل بذكريات تاريخية عن بدايات الدولة الفاطمية التي بزغ نجمها وفق دلالات دينية مستغلة إرهاصات تاريخية لتعزيز سلطتها السياسية ، كذلك الأمر في بدايات الدولة العثمانية التي عرفت بالخلافة وهي تستغل الدين لتحقيق كل المكاسب السياسية المطلقة دون قيود ، لكن الأمر يتعلق بعصرنا الحديث حينما ظهرت الدعوات والتنظيمات السياسية غير المعلنة تحت ستار ديني بدءا من تنظيم جماعة حسن البنا ، وحركة الشبيبة الإسلامية في عشرينيات القرن الماضي وصولا إلى التنظيمات السياسية المعلنة مثل جبهة النصرة والتكفير والهجرة في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين وأنصار بيت المقدس انتهاء بتنظيم الدولة ( داعش ) ، فكل هذه التنظيمات المعروفة وغيرها مما جهل علينا حتى وقتنا الراهن هي تنظيمات متناحرة على السلطة لا نصرة الدين أو إعلان الشأن الإسلامي . وكل محاولاتهم المستمرة في إدخال الدين شئون الحياة المجتمعية هو من سبيل الوصول إلى السلطة من باب سهل التواصل من خلاله مع الناس ، والتاريخ المعاصر يؤكد أن أيسر وأسهر طريق لإخضاع الناس والسيطرة على أذهانهم ومداركهم الوجدانية هو الدين في صورته الظاهرية فحسب دون الاكتراث بالجوهر الذي يدعو إلى التسامح وقبول الآخر واحترام التنوع والاختلاف ، وهو الدافع لدى تلك التيارات والفرق والطوائف إلى استخدام الدين ونصوص السلف في التنافس السياسي. وهذه الجماعات التي توغلت في الشأن المجتمعي العربي عن طريق الدعوة والاهتمام بالتربية والمناداة بإصلاح الضمائر والنفوس ، وجدت أن طرائقها لم تعد كفيلة بتحقيق ما طمحت إليها منذ النشأة فكان من الضروري لها تسييس أفكارها إما عن طريق تكوين وتدشين أحزاب سياسية بصورة مباشرة ، أو بممارسة العنف والإرهاب بشكل تدريجي متقطع لأنها تفتقر إلى رؤية أو بوصلة عقلانية تربط وتسيج زمامها الاستشرافي. وربما التجربة الوحيدة الناجحة التي استقر أمرها لعقود طويلة في تطور العلاقة بين استخدام الدين والولع بالتدين الظاهري والطموح نحو السلطة السياسية هي التجربة الإيرانية ، تلك التجربة التي يشير إليها النخبة التنويرية العربية بأنها قامت على أفكار جماعة الإخوان المصرية من حيث قاعدة السمع والطاعة والتنظيم الحديدي الصارم والاكتفاء بالتخطيط السري ، إلا أنها أضافت البعد الشيعي الجعفري لخصوصية تمتعت بها تلك التجربة . وما لبثت هذه التجربة أن تنجح حتى تحولت إلى جهاد داخلي نحو المخالف لها . ولعل هذا النجاح هو ما أثار تعجب جماعة الإخوان صاحبة الفكرة الأولى في استغلال الدين للوصول إلى السلطة لاسيما وأنها جماعة الإخوان هي التي صدرت للتجربة الإيرانية مفاهيم السمع والطاعة وولاية الفقيه وحكم المرشد والحاكمية وحتمية الحل الإسلامي ، ورغم ذلك فشلت التجربة الإخوانية في مصر وكافة البلدان العربية . ويمكننا تأويل حالات الفشل المزمنة لهذه الجماعة إلى ثمة أسباب ؛ منها التعجل والسرعة في الوصول إلى الحكم السياسي ، ومنها فقر الاستيعاب المعرفي للتركيب الاجتماعي للمجتمعات العربية ، وأيضا عدم الاعتراف بأن هناك حلولا سياسية وليس حلا واحدا مما دفع الجماعة إلى حالات التصادم مع الأنظمة السياسية الحاكمة تارة ، ومع الشعوب العربية تارة أخرى ، ومؤخرا التصادم والتناحر بين أفرادها . لكن المثير للدهشة أن تيارات الإسلام السياسي التي رأت في التجربة الإيرانية وقت ثورتها الدينية نموذجا مثاليا يجب الاقتداء به لم تعي أن تجربة غيران كانت صراعا مع الهوية بخلاف المجتمعات العربية الإسلامية ذات الهوية الإسلامية الواضحة والتي تحكمها مؤسسات دينية رسمية صريحة مثل الأزهر الشريف بمصر أو وزارات الأوقاف والشئون الإسلامية ببعض الدول الأخرى ، وتبدو المشكلة لدى هذه الفرق ذات الطابع الديني السياسي أنها لم تقف بعد على حقيقة رسوخ الهوية الإسلامية بين أفراد المجتمعات العربية من ناحية ، ومن ناحية أخرى أنها في غفلة عن الشهود الديني الرسمي المتمثل في المؤسسات الدينية كالأزهر ودور الإفتاء ووزارات الأوقاف والشئون الإسلامية . *أُسْتَاذُ المَنَاهِجِ وطَرَائِق تَدْرِيْسِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ - كلية التربية جامعة المنيا