منذ الوهلة الأولى لتصاعد التوتر بين الولاياتالمتحدةوإيران وتجييش الأولى لعتادها العسكري في الشرق الأوسط دار الحديث في غرف التحليل المغلقة عن رغبة أمريكية بحتة في مزيد من ابتزاز الحلفاء عبر صفقات تسليح جديدة تنتشل شركات السلاح الأمريكية من كساد يوشك أن يدفع بعضها إلى الإغلاق. الحرب الكلامية المستعرة بين واشنطنوطهران التي لم تتجاوز التصريحات النارية في ظل إبداء كلا الجانبين عدم رغبته في خوض حرب حقيقية في هذا التوقيت، برهنت على أن هناك أبعادًا أخرى لهذا التصاعد الذي يلوح في الأفق يومًا بعد يوم، فبعد إرسال أسلحة عسكرية ومعدات ثقيلة، ها هو ترامب يزود هذا العتاد ب1500 جندي إضافي للمنطقة حسبما أعلن مؤخرًا. الرئيس الأمريكي متجاهلاً اعتراضات الكونغرس، أقر بيع أسلحة بثمانية مليارات دولار للسعودية والإمارات العربية المتحدة والأردن، قائلاً: "هناك حالة طوارئ وطنية بسبب التوتر مع إيران" وهو ما يكشف بصورة كبيرة الهدف الحقيقي من وراء هذا التوتر، خاصة أنها ليست المرة الأولى التي يطالب فيها سيد البيت الأبيض حلفاءه بالدفع مقابل الحماية وليس هناك أفضل من طهران وترًا يعزف عليه ترامب لإنعاش خزائن بلاده قبيل الانتخابات الرئاسية القادمة التي يطمح من خلالها في الفوز بولاية ثانية. 22 صفقة جديدة أخطرت إدارة ترامب الكونغرس أمس الجمعة بأنها ستمضي قدمًا في إبرام 22 صفقة سلاح مع الدول الثلاثة سالفة الذكر، دون مراجعة البرلمان لتلك الصفقات، وهو الإجراء المتبع منذ زمن بعيد، الأمر الذي أغضب الكثير من النواب، جمهوريين كانوا أو ديمقراطيين. برر الرئيس الأمريكي هذه الخطوة التي جاءت بمعزل عن الغرفة التشريعية بأن حالة الطوارئ التي تحياها بلاده في ظل تصاعد التوتر مع إيران تستدعي القيام بهذا الفعل في أسرع وقت، مستغلاً في ذلك بعض الثغرات في القانون الفيدرالي لتمرير هذه الصفقات بحجة الأمن القومي والزود عن أي تهديدات خارجية. وفي خطاب تداولته وسائل إعلام أمريكية على نطاق واسع، قال وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو: "الأنشطة الضارة لإيران تطلبت البيع الفوري للأسلحة"، مضيفًا "النشاط (الإيراني) يشكل خطرًا على استقرار الشرق الأوسط والأمن الأمريكي في الداخل والخارج"، وتابع "عمليات النقل يجب أن تتم في أسرع وقت ممكن لردع إيران عن مزيد من المغامرات في منطقة الخليج والشرق الأوسط". وكان بومبيو قد أدرج في وثائق أرسلت إلى الكونغرس مجموعة كبيرة من المنتجات والخدمات التي سيتم توريدها للدول الثلاثة، وتشمل القائمة ذخائر دقيقة التوجيه من صنع شركة "رايثيون" ودعمًا لطائرات "إف-15" التي تنتجها بوينغ وصواريخ "جافلين" المضادة للدبابات التي تنتجها "رايثيون" ولوكهيد مارتن. وكان البنتاغون قد أرسل إلى المنطقة حاملة طائرات وسفينة حربية وقاذفات من طراز "بي-52" وبطارية صواريخ "باتريوت" هذا بخلاف مستشفى عسكري متنقل، فيما أوضح ترامب خلال كلمة له بالبيت الأبيض أمس "نريد أن تكون لدينا حماية في الشرق الأوسط"، مضيفًا "سنرسل عددًا قليلاً نسبيًا من الجنود، غالبيتهم للحماية. (...) سيكون العدد نحو 1500 شخص". غضب داخل الكونغرس حالة من الغضب سيطرت على أعضاء الكونغرس مع إعلان هذه الخطوة، إذ قال السيناتور الديمقراطي بوب مينينديز نائب رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ "أشعر بخيبة الأمل، لكنني لست مندهشًا من أن إدارة ترامب تقاعست مجددًا عن منح الأولوية لمصالحنا للأمن القومي في الأجل البعيد أو دعم حقوق الإنسان، وتمنح بدلاً من ذلك تفضيلات لدول مستبدة مثل السعودية". ميننديز الذي يعد واحدًا من أعضاء الكونغرس الذين يتولون مراجعة مثل هذه الصفقات كونه أكبر عضو ديمقراطي في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، شدّد في بيان له أن إدارة ترامب فشلت في تقديم مبرّر قانوني أو أساس عملي للقرار الذي شكك في قانونيته ووصفه بأنه غير مسبوق، معربًا أنه لم يتفاجأ بفشل إدارة ترامب مرة أخرى في منح الأولوية للأمن القومي الأمريكي، وفي الدفاع عن حقوق الإنسان، وفضلت التعاون مع دول استبدادية كالسعودية. وقد حذّر بعض النواب والمساعدين في الكونغرس هذا الأسبوع من أن ترامب الذي يشعر بخيبة الأمل إزاء تعطيل الكونغرس لمبيعات أسلحة ومنها صفقة قنابل دقيقة التوجيه من إنتاج "رايثيون" للسعودية، يدرس استغلال ثغرة في قانون الحد من الأسلحة للمضي قدمًا في البيع وذلك بإعلان حالة طوارئ وطنية. يذكر أن السيناتور الديموقراطي كريس مورفي كان أوّل من تحدَّث عن هذه الخطوة بصورة مباشرة، إذ كتب على صفحته على "تويتر" الأربعاء الماضي يقول: "أسمع أن ترامب قد يستخدم ثغرةً في قانون مراقبة الأسلحة من أجل السماح ببيع قنابل للسعودية"، مضيفًا "سيدعي ترامب أن عملية البيع تلك حالةٌ طارئة، ما يعني أن الكونغرس لن يستطيع التصويت ضده، وسيحصل البيع تلقائيًا". ضغوط لا حرب كلا الطرفين، أمريكاوإيران، على دراية تامة بخطورة نشوب حرب بينهما، لما لذلك من تداعيات تضر بمصالح الجانبين على حد سواء، وما يحدث من تصعيد متبادل وسجال إعلامي وسياسي وتبادل التصريحات النارية بين طهرانوواشنطن لا يعدو كونه جزءًا من الحرب النفسية التي يشنها كل طرف تجاه الآخر. واشنطن تعلم جيدًا أن مسألة توجيه ضربات عسكرية مباشرة لطهران أو لأي من مصالحها في المنطقة سيكون له تداعيات كارثية، ليس على الاقتصاد الأمريكي فحسب بل على أمن واستقرار الولاياتالمتحدة ذاتها، خاصة في ظل ما تملكه إيران من أذرع مسلحة في أكثر من مكان يمكنها تهديد المصالح الأمريكية. يتفق مع هذا الطرح عدد من المحللين الذين ذهبوا إلى أن التصعيد المتبادل بين أمريكاوإيران ليس سوى مسرحية يشارك فيها ممثلون متعددو الجنسيات، وفق ما نقلت عنهم صحيفة The New York Times الأمريكية، منهم السياسي الأردني رحيل غرايبة الذي يرى أن تلك الأحداث "ليست سوى حيل لممارسة مزيد من الضغوط على إيران". فيما أشار الناقد الفني المصري جوزيف فهيم إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها ترامب لزوبعة التهديدات التي تفضي في نهاية الأمر إلى لا شيء، مضيفًا: "لو كنا صدَّقنا كل ما قاله ترامب خلال السنوات الثلاثة الماضية، لكانت هناك حرب مع الصين وكوريا الشمالية والمكسيك"، وتابع: "الرجل مزحة، إنه غير جاد، لا نعرف ما إذا كانت هذه التهديدات شيئًا نصدقه أم أنَّها مجرد أحد أعماله المثيرة"، بحسب الصحيفة الأمريكية. هذا الرأي يتطابق بصورة كبيرة مع ما نقلته مجلة "تايم" الأمريكية عن بعض مسؤولي البنتاغون بشأن تأكيدهم عدم وجود خطة فعلية قابلة للتنفيذ لمواجهة إيران على عكس ما يثار بأن خطة الحرب قد تم وضعها، وهو نفس ما يتبناه بعض السياسيين داخل إيران ذاتها منهم عضو مجلس الشورى الإسلامي الإيراني "البرلمان" مجتبى ذو النور الذي يستبعد نشوب أي حرب بين الجانبين. ذو النور في كلمة له قبل أسبوع، نشرتها وكالة "فارس" الإيرانية، أشار إلى أن الرئيس الأمريكي ترامب لا يرغب في شن الحرب على إيران، واصفًا إياه ب"التاجر"الذي يسعى لتحقيق مصالحه، كاشفًا أن التهديدات القائمة بين أمريكاوالصين ليست إلا من أجل نيل الامتيازات، كما وصف الخلافات مع أمريكا بالجادة "لكن معظم المسؤولين الأمريكيين لا يوافقون على أي قرار بالحرب مع إيران الإسلامية". التصعيد يؤتي ثماره بات من الواضح أنه بعد إعلان صفقات السلاح المبرمة مع السعودية والإمارات والأردن التي تقدر ب8 مليارات دولار، أن التصعيد الذي أحدثه ترامب مع إيران أتى بالثمار المطلوبة، فإنعاش خزائن بلاده والدعاية للانتخابات الرئاسية القادمة وتوفير فرص عمل للملايين من الأمريكيين، أهداف وضعها الرئيس نصب عينيه وهو يدير هذا الملف. الأمر لم يتوقف عند صفقات السلاح فحسب، فهناك عشرات الصفقات الاستثمارية الأمريكية الأخرى التي أبرمت مع الرياض، لعل آخرها ما أعلنته شركة "أرامكو" السعودية، قبل ثلاثة أيام، بشأن توقيع اتفاقية لشراء 5 ملايين طن من الغاز الطبيعي المسال سنويًا من "Port Arthur"، وهو مشروع تصدير يقع في ولاية تكساس الأمريكية ولا يزال قيد الإنشاء. منذ توليه مقاليد الأمور في أمريكا، يناير 2017 يتعامل ترامب مع حلفائه الخليجيين على وجه الخصوص بمبدأ "التاجر" فبعد أقل من أربعة أشهر على دخوله البيت الأبيض وفي أول زيارة له للرياض نجح في العودة بما يزيد على نصف تريليون دولار قيمة صفقات أبرمها مع الشريك السعودي. الأمر لم يتوقف عند ذلك، فطالما عزف الرجل على أوتار الابتزاز الواضح للمملكة وإهانة قيادتها عبر التصريحات المتتالية بضرورة الدفع مقابل الحماية، وصلت إلى حد التلويح بسقوط النظام الحاكم في السعودية حال تخلي واشنطن عن حمايته ودعمه، وهي المعايرة التي كررها أكثر من خمس مرات خلال الفترة الماضية. نجحت واشنطن عبر توظيف فزاعة إيران في حلب مئات المليارات من الدولارات من الحليف السعودي على وجه التحديد، مستغلة في ذلك المستجدات الإقليمية والدولية والصراع السياسي في المنطقة، هذا بخلاف حادثة مقتل الصحفي جمال خاشقجي، تلك الواقعة التي جاءت على طبق من ذهب لترامب لابتزاز السعوديين بصورة غير مسبوقة. بصفقات ترامب وملياراته الثمانية ربما تأخذ موجة التصعيد مع إيران منحى آخر، وهو ما بدت ملامحه تلوح في الأفق مع إعلان وزير الدفاع الأمريكي بالوكالة باتريك شاناهان أن إدارة الرئيس ترامب تسعى لردع إيران وليس لإشعال حرب ضدها، وذلك بعد إطلاعه أعضاء الكونغرس على التطورات المتعلقة بهذا الملف. *عن (نون بوسط)