قبل أيام قليلة، أصدر وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو تعليماته لوزارة الخارجية للموافقة على صفقات بيع أسلحة بأكثر من ثمانية مليار دولار لفائدة السعودية والإمارات. وقد جاء في بيان للخارجية الأمريكية عن بومبيو أن الصفقة “تأتي لكبح عدوان إيران وبناء قدرات الدفاع عن النفس لدى الشركاء”. ولإتمام هذه الصفقة لجأ الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى إجراء استثنائي يقضي بتجاوز رقابة الكونغرس، بدعوى أن التوترات القائمة مع إيران تدخل في نطاق حالة الطوارئ الوطنية. وتلك ليست المرة الأولى التي يقوم فيها ترمب بشيء مماثل حرصا منه على إرضاء زبنائه الخليجيين واستثمارا في هلعهم من “الخطر الإيراني” في الوقت ذاته. إن توقيت الصفقة وهوية الزبناء وتصريحات بومبيو، كلها معطيات تشير بوضوح إلى أن الدافع لإبرامها هو حجم الهلع الذي خلفه التصعيد الأمريكي الخطير مؤخرا مع إيران، وحالة الاستنفار الإقليمية لأذرع إيران في المنطقة، والتي تجلت في قصف الحوثيين لمضخات نفط تابعة لشركة أرامكو السعودية، واستهداف جهة يرجح أنها على صلة بالنظام الإيراني لسفن تجارية بميناء الفجيرة الإماراتي، بالإضافة إلى تحركات مليشيا الحشد الشعبي في العراق ومليشيات أخرى في دول الجوار. تفترض السعودية والإمارات أن الوقت حان لتقوم واشنطن بتقليم أظافر طهران وتتصدى لخطرها المحدق بالمنطقة، وأن الدافع الأصلي لانسحاب ترمب من الاتفاق النووي مع إيران وتهديده إياها بالحرب هو حرصه على أمن حلفائه الخليجيين. والحال أن الحقيقة غير ذلك، فما يبدو فعليا هو أن هذا الانسحاب يندرج أساسا ضمن هوس ترمب بتبخيس كل ما أنجز في حقب الرؤساء الذين سبقوه، وخاصة حقبة باراك أوباما. فلذلك قام، داخليا، بمهاجمة الاختيارات الاقتصادية لسلفه وتساهله مع المهاجرين، وانتقد نظام الرعاية الصحية “أوباما كير” متعهدا بمراجعته. أما خارجيا فقد انقلب ترمب على سياسات أوباما جملة، محتفظا ببعض مظاهر الاستمرارية التي يفرضها التوازن بين المؤسسات في النظام السياسي الأمريكي، حيث إنه انسحب في الشهور الأولى لولايته من اتفاق المناخ، وأشعل حروبا تجارية ووجه مطالب بالدفع الفوري لخصوم بلاده وحلفائها التقليديين على السواء، بما فيهم الاتحاد الأوروبي. هكذا فإن الفرضية القائلة بأن للنظام الأميركي ذاكرة وقواعد مؤسساتية تقيد رئيس السلطة التنفيذية مهما كانت توجهاته، لا زالت ذات راهنية، غير أنها باتت في فترة ترمب الرئاسية تتسم بالكثير من النسبية. في واقع الأمر، فإيران بالنسبة للولايات المتحدةالأمريكية، ومنذ أربعين سنة، ذريعة استراتيجية مثلى لابتزاز دول المنطقة واستنزاف مقدراتها، وبذلك فإن إمكانية شن حرب عليها في المدى المنظور على الأقل تبدو مستبعدة إلى حد كبير، لاسيما في ظل غياب لاعبين بدلاء يمكن أن يضطلعوا بمثل دورها، منذ إسقاط نظام صدام حسين في العراق سنة 2003. إن الإستراتيجية الأمريكية في تدبير التوتر الأخير مع إيران، ما تزال وفية لمنطق تدوير الأزمة في حلقة مفرغة وعدم التدخل لإنهائها بالقوة إلا في الحالة القصوى التي سيكون فيها الأمن القومي والمصالح الإستراتيجية الأمريكية مهددة، على اعتبار أن الغالب في سلوك أمريكا، تاريخيا، هو اندفاعها لافتعال الأزمات والحروب من أجل تنشيط عمليات بيع الأسلحة وخلق مبررات التدخل في شؤون الدول خدمة لأهداف توسيع نفوذها، وليس لعب دور الإطفائي في العالم. إن القاسم المشترك بين الولاياتالمتحدةوإيران هو أن لكل دولة منهما مشروعها الذي يشتغل بفعالية في المنطقة، فقوة إيران كمركز استقطاب إقليمي تتعاظم ونفوذها يتوسع على حساب الدول العربية. والإدارة الأمريكية مهما بدا أنها تريد تخفيف وجودها بالشرق الأوسط فهي تمضي فعليا في التدخل لتحقيق مصالحها واستنزاف دول المنطقة استراتيجيا لفائدة “إسرائيل” بأقل تكلفة مالية وعسكرية ممكنة. يبقى الطرف الوحيد الذي لا يمتلك مشروعا ذا واقعية بتصور وأهداف واضحة هو الدول العربية، وتحديدا محور السعودية والإمارات ومصر؛ المنشغل أكثر بملاحقة الربيع العربي أينما حل والقضاء على الحركات الإسلامية انتقاما من أدوارها الكبيرة في تمدده. كما تطبع خاصية مشتركة أيضا السلوك الأمريكي والإيراني في منطقة الشرق الأوسط، وهي استثمار البلدين في خوف المحور السعودي الإماراتي من التحديات والمخاطر الخارجية التي ليس في مقدوره مجاراتها بالسرعة والكفاءة اللازمتين، وعدم ارتكاز الحكم في البلدين على شرعيات متينة. هذا، فضلا عن أن أمريكاوإيران تتسمان بقدر وافر من المرونة ولا تعترفان بالعداوت الثابتة، وإنما تدوران مع المصلحة حيثما ولت. يسعى الرئيس الأمريكي من وراء الضغط على إيران إلى جرها لطاولة المفاوضات من أجل صياغة اتفاق نووي جديد قد لا يتضمن بالضرورة تنازلات كبيرة من طرفها، لكن الأهم عند ترمب هو أن يكون الاتفاق الجديد ممهورا بتوقيعه، ذلك أنه حريص من جهة على الظهور بمظهر الرجل الذي لا يخلف الوعود مع ناخبيه، ومن جهة أخرى فهو لا يريد التوجه للانتخابات الرئاسية المقبلة بدون صفقة كبرى من هذا النوع، خاصة بعد بروز بوادر فشل، أو لنقل تعثر محادثاته مع كوريا الشمالية بشأن برنامجها النووي. أما الغاية الثانية التي يسعى وراءها ترمب فتتعلق برغبته في تقليص الوجود الإيراني بسوريا حماية لأمن “إسرائيل” المتوجسة من إمكانية بقاء إيران هناك بشكل دائم. وبذلك فإن حرص الرئيس الأمريكي على مصلحة “حلفائه” الخليجين ليس على رأس أولويات الإدارة الأمريكية، كما يتخيل البعض، بل يمكن القول أنها لن تكون كذلك في ظل حالة الضعف وغياب مشروع عربي جامع.