ثَورةُ "كُورُونَا".. أيةُ عِبرَة؟ أيةُ دُرُوسٍ منْ جُرثومةٍ هزّت العالم؟ هي ثوراتٌ على الحياةِ البشريةِ المَصلَحيّة.. سياسيةٌ واقتصاديةٌ وصِحّيةٌ وبيئيةٌ وعَلاقاتيّةٌ واجتماعيةٌ وثقافية... وأيضًا، على سُلوكٍ بين الدول.. وعلى "النّظامِ العالمِي".. ثوراتٌ تُرافِقُ الهزةَ "الكُورُونيةَ" الكُبرى التي أصبحَت بلاَ حُدود.. لا فرقَ فيها بين امرأةٍ ورجُل.. ودينٍ وآخَر، وإيديولوجيَا وأُخرى.. وفقيرٍ وغنيّ.. "كُورُونَا" تفتحُ الأبوابَ على عالمٍ جديد.. والكلُّ أمام الفيرُوسِ سواسيّة.. عالَمٌ جديدٌ بانتظارِ الأُسرَة البشَرية.. تغييراتٌ جِذرية في أُفُقِ "ما بعد كُورُونَا": فإمّا أن يكُونَ الإنسانُ إنسانًا.. أو لا يكُون.. "كُورُونَا" تُغيّرُ العالَم.. وتَغيِيراتٌ تَلُوحُ في الأفُقِ العالمي: 1- "كُورُونَا" قد عرّت العالم، وعلى رأسها الدولُ الكُبرى، وكشَفَت عن الخَللِ القائمِ في علاقاتِ "شمال-جنُوب".. علاقاتٌ شديدةُ الهَشاشةِ والاهتِراء، تُظهِرُ أنّ القُوّةَ النّوَوية، وبقيةَ أسلحةِ الدّمارِ الشامل، وكلَّ الثّراءِ الفاحِش، وغزوَ الفضاء، لا تحمِي أحدا، ما دامَ الفيروسُ بلا حُدود، يَتنقّل بسُرعةٍ فائقةٍ بين الدّول، وبلا تأشيرات.. وتكشفُ كيف أن كمشةً من الأثرياء تستَولي على مُجمَلِ ثرَواتِ العالم.. لقد أظهَرت الجُرثُومةُ أنها تتَحدّى الجميع، وأنّ القوّةَ والثّروةَ لا تحمِيان أحدًا من مَخاطرِ أسلحةٍ بيُولوجيّةٍ قد أصبحت في مُتناول الدّول الصغيرة والكبيرةِ معًا، وأنّ الخَطرَ قائمٌ ومَفتُوح، ولا يَحمِي أحدا.. "كُورُونَا" عرّت كلّ الدول، وأظهَرَت أنّ الحلّ في مُتَناوَلِ الأُسرةِ الدّولية، ولا يحتاجُ إلا قرارًا سياسيّا يَحملُ توقيعاتِ كل الدول، في كلّ أنحاءِ المَعمور، وهو كامِنٌ في العَدالةِ الاجتماعيّة، والصحّة، والبيئةِ الطبيعية.. لا لأحدٍ دون آخر، بل للجميع، في كلّ أنحاءِ العالم.. وأنّ هذا التساوِي العالمي في حقّ الحياة، يحمِي من الهجرةِ اللاّمشرُوعة، ومن "تْسُونامِي" الهجرةِ العلَنيّةِ والسّرّية.. هذا هو الدرسُ الأول.. 2 - إعادةُ النظر في "النّظام العالمِي".. إنه قائمٌ على التّفرقةِ بين البَشر.. وبينَ الدّول.. وبين القارات.. والتّفرقةُ مَبنيّةٌ على التّمييزِ بين القويّ والضعيف، والغنيّ والفقير، والمُتسلّح ومن لا سلاحَ له.. "نِظامٌ عالمي" أنتَجَ العَولَمةَ والرّأسماليةَ المُتَوحّشة.. وأنتَج الفَوارقَ الاقتصادية بينَ الشعوب.. ومعها فقرٌ مُدقِع، وحرُوب، وأَزمات، ومشاريعُ حروبٍ دوليةٍ بيُولوجيّةٍ مُدمّرةٍ وغيرِ مُكلّفَة... وهذا المآلُ القائمُ في احتمالاتٍ وسيناريُوهات، قد أوقَعَ العالَمَ على فَوهةِ بُركان.. وها هُو العالمُ في خطرٍ دائم، وبلا حدود.. والأُممُ المتحِدةُ عاجِزة، وبلا حُلول، هي والمنظماتُ الدوليةُ التابعةُ لها.. - ضرورةُ إعادةِ النظر...! رُؤيةٌ فاحِصةٌ في عالَمٍ جديدٍ للجميع، وليس لفئةٍ محدُودة، على حساب أُخرَيات.. عالَمٌ جديدٌ يَعُمّه السّلامُ والتّعاوُنُ والتّشارُكُ والعدالةُ الدولية.. ويُنهِي حِقبةً من الاستِعمارات، والتّحالُفات، والتّهدِيدات، ضدّ شُعوبٍ مُستَضعَفَة.. وها هي "كُورُونَا" تأتي، مع فيرُوسِها القاتِل، بضرُورةِ تغييرِ عَقليةِ الأقوِياء، وتَفرضُ على الجميعِ إيلاءَ الأولويّة للتّعايُش، من أجلِ حياةٍ كريمةٍ لكلّ العالم، كبيرًا وصغيرًا، قويّا وضعيفًا، غنيّا وفَقيرًا.. وإذا لم تتَغيّر سلوكاتُ الدول المُصنّعةِ الكُبرى، تُجاهَ الدولِ الفقيرة، فإنّ العالمَ يَبقَى في خَطر.. وتَظهرُ خارطةٌ عالميةٌ جديدة، فيها فُقراءُ يَغتَنُون، وأغنياءُ يُصبِحون فُقراء.. العالمُ يَنقَلبُ على نفسِه.. - فإما الانهيارُ للجمِيع، أو الحياةُ للجَميع.. 3 - الدولُ الكبرى تتَفاهَمُ وتتّفق.. إنها مسؤولة.. وإلاّ فمَن فيها أتى بالتّطرّف والإرهاب؟ وفي صِراعاتِها، تُوجدُ الدولُ الخمسُ دائمةُ العُضوية في مَجلسِ الأمنِ الدولي؟ كبارُ الأممالمتحدة يُتاجِرُون في "الفِيتُو"، حتى صار "حقُّ النّقض" أداةً للمُساوَمةِ والابتزاز.. ووَسيلةً لتحقيقِ المَصالِح.. - ومن نشرَ الإرهابَ غير دُولٍ كُبرى؟ أليست هي تَفرضُ على الدّول أن تُسانِدَها، على أساسِ مَصالحِها، في قَراراتِها بالحربِ والسّلام؟ هُنا أيضا، وجبَ أن يُعادَ النظَرُ في المُنتَظَمِ الدّولي، وإلاّ تكونُ هي السبب في انهيارٍ عالمي.. وهذه أيضا من دُروسِ "كُورُونَا".. 4 - الرؤيةُ بعَينٍ جديدةٍ إلى "خطاباتِ السّماء".. رؤيةٌ تَختلفُ عمّا كانَت من قَبل.. البشرُ سوف يستيقظُ ذاتَ يوم، ويَنتبِهُ إلى أنه كان مُخطِئًا عندما كان لا يَرى أنه تحت سماءٍ واحدة، وعلى أرضٍ واحدة.. ومع بَشرٍ مُتنوّعٍ هُو بَشرٌ واحِد.. ويَتَنبّه إلى أن أديانَ السماء ليسَت مُختلفةً إلا في الشّكل، وأنّ الاختلافاتِ التّعبُّدية، وتَتابُعَ رسالاتِ السماء، مُرتبطةٌ بالتّطوّر البَشري، في الزمانِ والمَكان، وأنّ خلفَ الشّكلِ يَكمُن العُمقُ الإنساني، وأنّ الأديانَ ذاتُ مَصدَرٍ واحِد، وكلّها تتَوَجّه إلى إلهٍ واحد.. وفي غيابِ هذه الرّؤيةِ الواحدة، لا يكُونُ العالمُ بخير.. ويبقَى الدّينُ بشَكلهِ المُتداوَل، مُجرّدَ مظاهِر! 5 - الناسُ أسرةٌ واحدة.. وربّما حان وقتُ اليَقَظة.. والناسُ قد تَتَنبّه إلى أنّ اختلافاتِ الأجناسِ والأعراقِ لا تَنفِي أنّ الجميعَ مِن أُسرةٍ واحِدة، وجميعًا إخوَة.. ويَتَنبّهون أن عليهِم بطريقةٍ جديدةٍ للتّعاملِ والتعاوُنِ والتّشارُكِ والتّواصُلِ والتّدبيرِ والعَيشِ المُشتَرَك.. وأنْ ليسَ عيبًا أن يَهُبّوا جَمِيعًا لتغيِيرِ أفكارهِم.. والعملِ سويّةً من أجلِ عالمٍ يسودُه السّلمُ والسّلامُ والأمنُ والأمانُ والرخاءُ والازدِهار.. وسعادةُ الإنسان.. بيدَ أنّ "النّظام العالمي" لا ينظرُ إلى التّنوّع البشري بهذه العين.. يرى في الناس سِلعةً قابلةً للاستغلال.. وهذا السلوكُ تَفرضُه على الدولِ الفقيرة، لتكريسِ سياسةٍ تفقيريةٍ وتجهِيلية، كي لا تستيقظَ هذه الدولُ وتَعِي أنها تدفعُ بنفسِها وبِغيرِها إلى الحافة.. - هنا أيضا، يتَوَجّب التّغيِير! 6 - وتغييرُ النظرةِ إلى المرأة.. ضرورةُ التّساوِي بين المرأةِ والرّجُل.. تَسَاوٍ تامّ في الحقوقِ والواجبات.. في الإرث.. والتعليم.. والعَمل.. إنّ الرجُل والمرأة سِكّتان مُتَوازِيتَانِ لقِطارٍ واحِد.. ولم يعُد مَقبُولاً ما يَلحَقُ المرأةَ من إجحاف، على كل المُستوَيات.. ومن حقّ البنتِ أن تتَعلّم مثلَ أخِيها الولد، في نفسِ التعليم العمومي الذي من المفروض أن يكُونَ إجباريّا للجنسيْن، بنَفسٍ المُساواةِ التّامّة.. وفي المدرسة، يتعلمُ الطفلُ والطفلةُ مهاراتٍ واحدة، حسبَ اختيارِ كلّ منهُما.. ويتَعلّمَان التّكنولوجيا، والعُلومَ الإنسانيّة، واللغات، والفُنون... ويتَعلّمَان الأخلاقَ الإنسانية، لحُسن التّواصُل مع كل الناس، ومن مُختلفِ العقائد، والإيديُولوجيات، والفلسفات، لكي يتخلّصا من العُنصُرية والتعصّب، ولاستيعابِ كيف يُمكنُ أن يَتلاقَى الدينُ والعِلم، ولا يكُونان مُتعارضَيْن مُتنافِريْن.. وهذا لفائدة التّطوّر الحضاري.. كما يَتعلّمان كيفيةَ حمايةَ المُجتمعِ من الثراءِ المُفرِط، والفقرِ المُدقِع.. وكيف يكونُ حُسنُ التدبيرِ والتّسيير.. والنزاهة في تدبيرِ المالِ العامّ.. وهذا مُفيدٌ لتقليصِ الفَوارقِ الاجتِماعيّة، وتَسويةِ مشاكلِ الاقتصاد.. 7 - وعلى الدولِ المتخلّفة أن تفتحَ عينيْها على الأسبابِ التي جعلت دُولاً تَرقَى إلى مصافّ الدولِ المتطوّرة.. الدولةُ لا تتَقدّم بحُكمٍ ديني.. السّياسةُ والدّين لا يلتَقيان.. تُجّارُ الدّين، ومن أيّ دينٍ كانوا، يَحدثُ لبلدِهم ما وقعَ تحت الحُكم المسيحي، ومع من حكَمُونا عبر استغلالِ الدينِ الإسلامي.. استغلالُ الدين، لأهدافٍ سياسية، لا يُنتجُ إلا الاستبدادَ والظلمَ والقهرَ والتّخلّف، على كلّ المُستويات.. - وعلينا بتغييرِ طريقةِ عَملِنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي... الحلّ هو: إصلاحُ الدستُور المغربي للفصل بين الشأنِ الدُّنيَوي وشأن الآخرة: الفصل بين السياسةِ والدين.. ولا يوجدُ أيُّ مَسلَك آخر، إلا قانُونٌ مَدني يحرصُ على حماية كل الأديان، وكل القناعات، وكل الاختلافات.. أما إذا عادَ "تُجارُ الدين" إلى الحُكم، فتلكَ نهايةُ السّاعة! 8 - عندنا أزمةُ الدّيمُقراطيّة.. ديمُقراطية سَطحيّة.. دائما هي شَكلية.. وفي العُمق هي تعيِينات من وراءِ سِتار.. والتّعيينات تتِمّ وفقَ مصالح مُشتَركة، وتؤدي إلى انتفاضات، نتيجةَ الرشوة، واللاّحقُوق، والفقر، والبطالة، وغيابِ تفعيل "ربط المسؤولية بالمُحاسبة"، وتشغيلِ الضغوط من وراء ستارِ العدالة، والظلم المتلاحق بحقوقِ المرأة... الدّيمُقراطيّة الشكلية هي بوابةٌ كبيرةٌ مَفتوحةٌ على الفساد.. وتقفُ خلف الفساد إداراتٌ تابعة لحكومةٍ فيها أحزابٌ هي الأخرى فاسدة.. والفسادُ لا يُنتجُ إلا الفساد.. 9 - والفسادُ يستهدفُ فئاتٍ عريضةً من المُجتمع، ويُنتجُ وطنيّة مُزوّرة تقُودُها نُخبةٌ هي أيضا مُزوّرة.. والهدف: إنتاجُ أفرادٍ مَحسُوبين على الوطنيّة، وهم لصُوص.. - ومتى كان اللصوصُ وطنّيين؟ وهل "بطاقةُ المُقاوَمة" دليلٌ على الوطنيّة؟ هل الرّيعُ السياسي وطنيّة؟ هل أباطرةُ المخدّرات وطنيّون؟ وأباطرةُ الإدارات، ومُزوّرُو الانتخابات؟ ومن يَحكُم على الناس ظُلمًا، هو وطنيّ؟ - ما هي الوطنيّة؟ السؤالُ مطروحٌ على جُرثومةِ "كُورُونَا".. هي تتَدخّل لإعادةِ المفاهيمِ إلى مَصدَرِها الحقيقي.. إنها صَحوةُ المُواطَنة تَستَيقظ، من أجلِ وطنٍ مُرتبِطٍ بالمُواطِنِ الحقيقي، لا بالزّائفين.. ألم يَحِنِ الوقتُ للتّحرّر من الزّيفِ والتّزوير؟ وبناءِ الوَطنِ والمُواطِن؟ والوَطنيّةِ بلا زَيْف.. الوَطنيّة، كما يجبُ أن تكُون! - وطَنيّةً إنسانية.. وإنسانيّةً وطَنيّة! [email protected]